الخوف والقرف من الرأسمالية.. الاشتراكية على طريقة الجونزو

منشور الاثنين 13 أغسطس 2018

نشر هذا المقال لأرفيند ديلوار في مجلة جاكوبين، في ذكرى ميلاد هنتر إس طومسون

ولد  هنتر إس طومسون في 18 يوليو/ تموز 1937. وبينما يمتدحه -غالبًا- اليمين الليبرتاري (التحرري)، فإن آراءه السياسية لديها قواسم مشتركة أكثر مع اليسار الراديكالي.

في عام 1965، وقبل سنوات من نجومية هنتر إس طومسون باعتباره صحفي الجونزو الأسطوري؛ قبل سنة من نشر ملائكة الجحيم التي بدأ بها مسيرته، وحتى قبل سنوات من نشر "الخوف والقرف في لاس فيجاس". في ذلك الوقت، كان طومسون لا يزال في الثامنة والعشرين عندما قاده الخروج عن القانون وبحثه عن عمل وفقرٌ لا يرحم، للتنقل من بيت إلى آخر عبر معظم الولايات المتحدة الأمريكية.

في أبريل/ نيسان ذلك العام، في خطاب إلى صديق، عبر طومسون عن تضامنه مع "عمال العالم الصناعيين" IWW، الإتحاد العمالي الثوري الذي بدأ أعضاؤه الجوّالون في تنظيم أنفسهم عبر الولايات المتحدة في بداية القرن العشرين. كتب "أعتقد أن تنظيم عمال العالم الصناعيين هو على الأرجح آخر تجل لمفهوم الإنسانية في السياسة الأمريكية".

هذا التعليق قد يبدو مفاجئًا؛ بالنظر إلى زعم الليبرتاريين لمدة طويلة أن طومسون واحدٌ منهم، مشيرين إلى إعجابه بآين راند، وعضويته في "الجمعية الوطنية للسلاح" NRA، وإقباله الموثق جيدًا على المخدرات. لكن تضامنه المعلن مع "عمال العالم الصناعيين" لم يكن مجرد مجرد ملمح عرضي؛ السياسات التي عظّم من شأنها وانخرط فيها خلال حياته لديها قاسم مشترك مع اليسار أكثر من اليمين الليبرتاري.

بالنسبة لطومسون، كان العدو الحقيقي الذي يجب محاربته هو مخلوق هيدرا الأسطوري برأسين؛ حكومة استبدادية وقمعية، ورأسمالية استغلالية مُحطِّمة للنفس. كلتاهما كانتا تقفان ضد الحريات الفردية التي يعتز بها.

 

طومسون ممسكًا بسلاحه 

البداية.. خوف وقرف

كانت نشأة طومسون عبارة عن قصة تغُيّر طبقي في الاتجاه الخاطئ. ولد في لويزفيل، ولايّة كنتاكي في عام 1937 لموظف تأمين وأمينة مكتبة، كان طومسون في المرحلة الثانوية عندما توفي والده، دافعًا بذلك عائلته التي كانت تعاني بالفعل إلى درجة أدنى في الهرم الإجتماعي.

لابد أن هذا كان قاسيًا بما يكفي في لويزفيل، والتي كانت في ذلك الوقت منقسمة بشدة بين طبقة عليا من الجنوبيين، والطبقة العاملة. لكن سرعان ما تخلل الأمر صدامًا مع القانون بعد القبض عليه واثنين من أصدقائه لسرقة لم يرتكبونها، خُيّر طومسون بين السجن أو الخدمة العسكرية، بينما صديقيه، ابنين لمحاميين مشهورين، تم إطلاق سراحهما فورًا. يحكي أحد أصدقاء الطفولة في السيرة الذاتية الشفهية جونزو "نبذنا جميعًا تلك الذكرى، لكنها ظلت مع هنتر لمدة طويلة". اختار طومسون سلاح القوات الجوية بدلًا من السجن، لكن ظل مع ذلك في لويزفيل.

بالإمكان رؤية بعض لمحات من ميول طومسون السياسية في رسائله (المجلد الأول المنشور عام 1997 بعنوان الطريق السريع الشامخ The Proud Highway). في خطاباته إلى واحدٍ من أصدقاء الطفولة، لم يمتدح طومسون "عمال العالم الصناعيين" فقط لكن كارل ماركس أيضًا "أجد أنه من غير الضروري بالنسبة لي أن أقرأ ماركس لأني أتفق معه بالفعل"، وعن فيديل كاسترو "رجل لديه من الشجاعة ما يكفي ليحاول أن يضع الأمور في نصابها الملائم"، وعن الليبراليين الاشتراكيين "أشعر أني في الوطن أينما كنت مع الأناركيين".

نرى طومسون في رسائل أخرى مبكرة يعبر عن تقديره لليبرالية المتطرفة آين راند، وتحمسه لروايتها "المنبع" The Fountainhead، مع ذلك يقرّ بأنه لم يقرأ أبدًا رواية "أطلس مستهجنًا" Atlas Shrugged. يقول طومسون إنه شعر بصلة قربى مع هوارد رورك، بطل رواية "المنبع" المغالي في الفردانية، كتب إلى صديق "رغم أني لا أشعر بأي أهمية على الإطلاق من أخبارك عن شعوري تجاه الفردانية، لكن أعرف أنني سأكون مضطرًا أن أمضي ما تبقى من حياتي أعبر عنها".

 لكن طومسون كان ينتقد الرأسمالية أيضًا لأنها حدت من ازدهار الإنسان والحريات الشخصية، بالأخص حريته. بعد بضع سنوات، سيتشهد بـ"عمال العالم الصناعيين" وسيكتب، مشيرًا إلى رؤسائه في العمل، ملاك الأراضي، ودائنيه "أشعر أنني تم استنزافي طويلا من قبل أشخاص لم يكونوا مضطرين حتى أن يعرفوا اسمي، وكمبدأ عام يجب أن يتم تفجير رؤوسهم. في الشهور الأخيرة راودني شعور معين تجاه جو هيل وحشود الووبليز، بأنهم كانوا -ناهيك عن أي شيء آخر- لديهم الفكرة الصحيحة عن الأمور".

كراهية الرأسمالية

علاقة طومسون بالجمعية الوطنية للسلاح كانت معقدة أيضًا. وفقًا لمراسلاته المجمعة في الطريق السريع الشامخ The Proud Highway ، والمجلد الثاني من مراسلاته "الخوف والقرف في أمريكا"، انضم طومسون للجمعية الوطنية للسلاح عام 1962، لكن بشكل متكرر ومتوتر أكد أن عضويته "لا تعبر عن أي ميل سياسي"، وحرص على مغادرة الجمعية لاحقًا بعد ست سنوات بسبب "تذمر الجمعية الغبي بشأن الإبقاء على ميليشيا مسلحة". طومسون ببساطة كان يحب الأسلحة –هذا هو الأمر باختصار. وكما صرح لوكيله في خطاب عام 1968 "قد يكون هناك جدال حقيقي –أو لا- ضد ترخيص السلاح على المستوى الوطني، أو حتى ضد الأسلحة، لست متأكدًا أو مهتمًا في الحقيقة".

الميول السياسية المركزية لطومسون كانت تلك التي أظهرها عبر كتاباته ونشاطه السياسي، الذين كانا متضافرين بعمق. في كتابه مملكة المسخ Freak Kingdom الذي يصدر قريبًا، وضَّح كاتب السيرة الذاتية تيموثي دينيفي كيف هجر طومسون حلمه بأن يصبح روائيًا في بدايات الستينيات لينصب تركيزه على الصحافة –بشكل جزئي كي يسدد فواتيره، لكن أيضًا كي يغير من طريقة التعاطي مع السياسة الأمريكية، التي كان يتخوف من أنها تأخذ منعطف كارثي عقب اغتيال جون كينيدي.

كتاب دينيفي يغطي حياة طومسون بين عامي 1963 و1974، الفترة التي شهدت ظهور أهم أعمال طومسون –متضمنة ملائكة الجحيم، والخوف والقرف في لاس فيجاس والخوف والقرف في الحملة الإنتخابية 72- بالإضافة إلى انخراطه السياسي في حملة جاي إدوارد الإنتخابية لمنصب محافظ أسبن في كولورادو عام 1969، وحملته للحصول على منصب رئيس شرطة مدينة بيتكين في كولورادو عام 1970، وحملة جورج ماك جوفن الرئاسية عام 1972.

 

من فيلم مذكرات الرًم المأخوذ عن رواية لطومبسون

حتى قبل أن يُلزم نفسه بالصحافة السياسية، تعمقت روايات طومسون في قضايا الطبقية والاستغلال. "مذكرات الرم"، روايته الثانية المكتملة -ظلت بدون نشر حتى عثر عليها صديقه الممثل جوني ديب في أوراقه وقدمها في فيلم سينمائي- تحكي قصة بول كيمب، صحفي ينتقل من نيويورك إلى سان خوان (بورتريكو) بحثًا عن الجنة. بعد إغلاق الصحيفة التي يعمل بها. يجد كيمب طريق النجاة المربح عن طريق كتابة إعلانات من أجل مصايف فاخرة تبدأ في الإنتشار حول بورتو ريكو. لكن تسيطر عليه فكرة "إنني أتقاضى 25 دولارًا في اليوم، فقط لأفسد المكان الوحيد الذي شعرت فيه خلال العشر سنوات المنقضية بنوع من السلام"، فيقرر كيمب العودة إلى نيويورك.

اتهام مماثل، ولكن أقسى، للرأسمالية يمكن أن نجده في رواية طومسون الأولى الخوف والقرف في لاس فيجاس. حيث يصف لاس فيجاس، ليس فقط كالخلاصة الأكثر نقاءً للحلم الأمريكي، لكن، أيضًا كما كتب دينيفي في مملكة المسخ "مكان تأخذ فيه القلة القليلة كل شيء يمكنهم الاستيلاء عليه من أناس يواصلون العودة [للمقامرة] – كل هذا بينما يتيحون ترفيه شيطاني لا نهائي لتخدير وتشتيت الألم المتكرر للخسارة".

في البداية تجنب طومسون حقن مادته الصحفية بقِيَمِه أو بشخصه، مع ذلك بقيت آثار واضحة لمناهضة الرأسمالية ظاهرة. كثير من تقاريره المبكرة –التي جمعت ونشرت عام 1979 في كتاب صيد القرش العظيم- نتجت عن جولاته عبر الجنوب الأمريكي عامي 1962 و 1963. والمواضيع التي تناولتها كانت قضايا الاحتيال وامبريالية الولايات المتحدة وحقوق السكان الأصليين.

ومن زاوية معينة، نستطيع حتى أن نقرأ ملائكة الجحيم كنقد للرأسمالية؛ يصف طومسون فاشية راكبي الدراجات النارية كنتاج كريه لعملية تراجع الصناعة والإغتراب الرأسمالي.

 

طومسون قدم نقدًا خفيًا للرأسمالية في أعماله الروائية

إن كان طومسون قد استخدم كتاباته ليسلخ أمريكا لتعدد مظاهر الفساد فيها –من بينها الرأسمالية بصورة رئيسية- فقد استخدم نشاطه السياسي ليروج لبدائل راديكالية.

في عام 1969، كان هو من أقنع جاي إدواردز المحامي المحلي بترشيح نفسه لمنصب عمدة أسبين، وساعد في صياغة السياسات المقترحة التي أعطت الأولوية لاحتياجات السكان والبيئة على احتياج المطوريين. ترشُّح طومسون بعد عدة سنوات لمنصب رئيس الشرطة –فُسر الأمر أحيانًا بشكل خاطئ كمزحة- كان منطلقًا من منصة مشابهة، كمواجهة تطور الرأسمالية والتلوث، بينما كان يرفع الرهان أيضًا بأفكار مثل الحد من تسليح الشرطة وعدم تجريم المخدرات.

باقتراب انتخابات 1972، ارتدى طومسون قبعتي الصحفي والمحامي. والنتيجة كانت عمله غير الروائي العظيم، الخوف والقرف في إنتخابات 72. عبر تقاريره الصحفية التي كان يكتبها للرولينج ستونز، هاجم طومسون بوحشية صاحب المنصب وقتها ريتشارد نيكسون وأغلب منافسيه من  الحزب الديموقراطي (المفضل لدى الحزب إد موسكي، والرئيس الآلة هوبرت همفري، والمؤيد للفصل العنصري جورج والاس)، بينما كان يؤيد جورج ماك جوفرن. ورغم خسارة ماك جوفرن، إلا أن سياساته المقترحة كانت راديكالية حقًا؛ بجانب إنهاء حرب فيتنام، كان يقترح وضع حد أدنى للأجور.

 

قوة المسخ – جونزو الاشتراكية؟

لا شيء من هذا يعني أن طومسون كان يحمل كارنيه الاشتراكية. [ولأنه] ولد في ولاية كنتاكي عام 1937 ونضج خلال الحرب الباردة، فقد شهد طومسون عداء التيار السياسي الرئيسي تجاه كل الراديكاليين من كافة الأطياف. لهذا السبب، ربما، لم يطلق على نفسه علانية تصنيفًا اشتراكيًا أو يساريًا.

لكن وحشية الولايات المتحدة شكلت آرائه وقادته لاستنتاجاته الراديكالية. عام 1968، وجد طومسون نفسه وسط المؤتمر الوطني للحزب الديموقراطي وما تبعه من مظاهرات احتجاجية، تطورت إلى فوضى دموية عندما هاجمت شرطة شيكاغو مناهضي الحرب والمتفرجين والسياسيين والصحافيين بوحشية، ومن ضمنهم طومسون نفسه. بعدئذ كتب لمحرره في راندوم هاوس "لقد شهدت على الأقل عشرة اعتداءات في شيكاغو أسوأ من أي شيء رأيت ملائكة الجحيم يفعلونه".

بحلول  عام 1969 كان طومسون قد وجد موطئًا لقدمه في السياسة، من خلال المشاركة الجزئية في حملة إدواردز الإنتخابية لمنصب العمودية، والتي كانت تستند إلى "كونفيدرالية من جماعات محلية في الأحياء السكنية"، وهي -كما كتب دينيفي- "قد تفرض إرادتهم الجماعية على ممثليهم المنتخبين". كان طومسون يدعوها بــ"قوة المسخ".

شرح  ما كان يقصده بهذا المصطلح في مناظرة ترشحه لرئاسة شرطة مدينة بيتكن "إن سلطة [مكتب رئيس الشرطة] يمكن استخدامها بشكل جيد في المساعدة على تحسين مستوى المعيشة، وفي التغلب على التنمية البطيئة، ومكافحة التلوث والتحقق من عدم تعرض المستهلك للاحتيال.. وتغيير حكومة المقاطعة من أجل أولئك الذين يريدون العيش هنا.. كي نحرص ألا يتم بيع المكان من تحتنا".

قد لا  يكون طومسون منجذبًا للسياسات اليسارية التقليدية. لكن "قوة المسخ" الخاصة به تبدو كاشتراكية جونزو، أكثر من كونها ليبرالية راندية (نسبة إلى آين راند).


اقرأ أيضًا: مقدمة في حياة كارل ماركس

كلمة جونزو هي لفظة عامية أيرلندية من جنوب بوسطون. تعني الرجل الأخير الذي يظل واقفًا بعد ماراثون شرب طويل في حفلة. قالها أول مرة "بيل كاردوسو Bill Cardoso" محرر مجلة بوسطن جلوب، ليصف أسلوب مقالة لطومسون، فصارت اسم الأسلوب الذي ابتدعه طومسون في الصحافة.  - تعريف الجونزو  مأخوذ عن مقال "الخوف والقرف في المدينة" لــ إيمان حرز الله.