غلاف ألبوم أبناء البطةالسوداء. من صفحة كايروكي على فيسبوك

تساؤلات أبناء البطة السوداء حول الفن والتسلية والدنيا الغدارة

منشور الأربعاء 24 أبريل 2019

"لو بكرة نهاية العالم" ماذا عسانا أن نفعل؟ هل يمكننا المقاومة أو الهرب من النهاية؟ يمكننا الاحتفاء بقليل من المتع البسيطة الممنوعة المعتادة كأن "نسوق زي المجانين" أو "نركن في الممنوع" أو "نمشي حافيين"؟ هل يمكننا أن نسرق تفاحة من السوبر ماركت ونهرب، أو "نتريق ع اللي يعدي ويمكن نشرب"؟

الإجابة بنعم عن كل هذه الأسئلة كانت خطة أمير عيد عازف جيتار ومغني فرقة كايروكي لاستقبال نهاية العالم في أغنيتهم الجديدة "هاتلنا بالباقي لبان" من الألبوم الأخير "أبناء البطة السودا".

فقط مجموعة من الأفعال البسيطة الممنوعة، تتحين الفرصة حيث لا عواقب ستقع ولا عقوبات ستوقع، لا شرطة ستتحرك ولا أحكام أخلاقية سيطلقها مجتمع مقبل على نهاية العالم. 

إذن لنمارس بعضًا من متعنا البسيطة الممنوعة، بلا أي هدف سوى أن نفرح، هكذا ببساطة يمكن الفرح بأشياء بسيطة وبنظرة رومانسية محبطة تنتظر نهاية العالم لتختلس بعض السعادة. 

جيتارات الطبقة الوسطى

بنهاية عام 2008 عندما انطلقت كايروكي، لم يكن لهذه النظرة المحبطة وجود. في ذلك وقت طرحت مجموعة من شباب المعادي "الكوول" الذين لم يتجاوز عمر أكبرهم الخمسة والعشرين عامًا فيديو كليب خياليًا يبدأ بسؤال حالم حد السذاجة؛ "إيه اللي هيحصل لو كل الناس حبت بعض؟".

جاءت إجابة السؤال داخل قصاصات خبرية متتالية تتحدث عناوينها المتخيّلة عن تفشي الحب في العالم، وغلق السجون والمعتقلات، بل وحتى اختفاء أسلحة الدمار الشامل من العالم لعدم الحاجة إليها. أخرج عمرو سلامة الفيديو كليب الذي يليق بالأغنية ذات الكلمات الحالمة وأيضًا بتلك الفترة المموهة الخاوية من التجربة، منها "كل الناس غنت ع الحب كام واحد بجد"، "ممكن بردو تحب الناس"، و"حِب اصحابك هيحبوك، حِب جيرانك وهيخدموك"، التي كتبها ولحّنها شباب الفرقة "كايروكي".

من بين الأحلام الوردية التي طرحها الفيديو السابق كان "الوصول لمقترح الدولة الواحدة التي تجمع الفلسطينيين والاسرائيليين"، إلا أن أسبوعين فقط مرّا، ليدرك الفريق كم كانت الأحلام ساذجة.

إذ شنّت القوات الإسرائيلية هجومًا بريًا على قطاع غزة، ضمن عمليتها الرصاص المصبوب والتي خلّفت أكثر من 1400 قتيل و5300 جريح من الفلسطينيين، وأشعلت مزيجًا بين الغضب واليأس في أوساط الشباب المتابع حينها للأوضاع في غزة، منهم شباب الفرقة التي طرحت ثاني فيديو كليب لها لأغنية حلمي أنا، بكلمات تحمل قدرًا من التمرد وبعضًا من الغضب غير الناضج، مع مشاهد قاتمة من التاريخ البصري لمآسي العالم، بالأخص صور للمقاومة العربية ضد الهجمات الإسرائيلية شديدة التسليح، إضافة انتهاكات الجنود الأمريكيين بحق السجناء في أبو غريب.

معادلة الألبوم الناجح

بعد نحو عشر سنوات منذ أول فيديو غنائي لهم على يوتيوب، وعدد من الأغنيات المنفردة وأربعة ألبومات رسمية، حقق آخرها نقطة بيضا عام 2017 نحو 200 مليون مشاهدة على يوتيوب فقط، جرّبت كايروكي ألوانا مختلفة من الموسيقى والكلمات أيضًا.

في عام 2012 ابتعدت كايروكي عن السياسة لصالح الانشغال بالذات في ألبوم وأنا مع نفسي قاعد، والذي غلبت عليه موسيقى الروك المستعارة، لكن بكلمات أكثر نضجًا وتحررًا من قاموس لغتهم السابق على 25 يناير. لم يحظ الألبوم بنفس القدر من الاهتمام الذي حظيت به أغنياتهم السياسية السابقة، أو اللاحقة في 2014.

أصدرت كايروكي عدة أغنيات منفردة منها أولى نسخها من السكة شمال التي لاقت نجاحًا واضحًا بالتزامن مع تراجع ثورة يناير وهزيمة روحها، حيث "الورد اللي فتّح ف الجناين دلوقتي أصبح حقه هاين"، وأغنيات أخرى مثل غريب في بلاد غريبة مع عبد الباسط حمودة.

ألعاب ألعاب

بنهاية عام 2014 كانت كايروكي قد مارست ألعابًا كثيرة، موسيقى روك، راب، مهرجانات ومواويل، وشاركت الغناء مع عايدة الأيوبي وزاب ثروت وعبد الباسط حمودة، غنت أغنيات لتجربة ذاتية وأخرى سياسية ثورية، وثالثة تجمع الاثنتين، حتى توصلت للمعادلة الموسيقية الملائمة التي تضمن نجاح ألبوماتهم، والتي طبقتها الفرقة في ألبوم نقطة بيضا بأغنية لكل جمهور ومن لون موسيقي مختلف، بتنويع ما بين الروك والترانس، والشعبي، الإلكتروني والكهربي والهوائي.

لكن أكثر الأغاني نجاحًا من بين 10 تراكات، كانت تلك التي تعاون فيها مع صوت آخر هو طارق الشيخ المطرب الشعبي الذي تدين له الميكروباصات بملء فراغها الصوتي اليومي، إذ تجاوز نجاحها مساحة الويب والـ 65 مليون مشاهدة على يوتيوب، لتنزل إلى الشارع، إذ سمعتها مرتين على الأقل داخل تكاتك وميكروباصات خارج القاهرة، إلى جانب أغنيته الشعبية السكة شمال في شمال والتي حققت 63 مليون مشاهدة على يوتيوب وحده خلال عامين منذ طرح الألبوم، مرات استماع تعادل مجموع مشاهدات بقية أغنيات الألبوم، وأعادتها التجربة في "أبناء البطة السوداء".

أبناء البطة السوداء: بنخاف م الغير

بتنوّع موسيقي واضح يخاطب شرائح واسعة من الجمهور، شعبية ومهرجانات لرواد الميكروباص، وترانس وروك لرواد الـ Pubs، تستطيع كايروكي توليفه ومزجه جيدًا بالتعاون مع الموزع ومهندس الصوت ساري هاني المشارك حديثًا منذ ألبوم نقطة بيضا، ضمنت كايروكي الوصول لجمهور أوسع، ويبقى رهانها الأساسي على الكلمات التي تصنع الفارق بين ألبوم وآخر، والتي يكتب غالبيتها أمير عيد مغني الفرقة.

لكن أولى أغنيات هذا الألبوم، بنخاف، لم يكتبها عيد، بل محمد شافعي عبد المنعم، بتوزيع موسيقي هادئ وصوت شريف مصطفى عازف الكي بورد بالفرقة، المناسب للاعتراف الواضح بالخوف؛ الخوف من كل شيء؛ من الكلام والصمت، والحضور والغياب، والخوف من الغير كذلك، هكذا يبدأ أبناء البطة السوداء التأسيس للألبوم الذي يضم اعترافاتهم وتساؤلاتهم، ويعترفون فيه بالخوف الذي عادة ما يحتاج لشجاعة التصريح بأكثر المشاعر الإنسانية حرجًا، يحتاج لجرأة كاذبة تسمح بالحديث عن هذا الضعف الإنساني وبالتالي الحديث عن أي شيء آخر عن الأسى الذاتي أو عن الغضب.

كان لك معايا: البحث عن معنى

في معادلة "كايروكي"، يبدو اللحن بإيقاعاته المعادة، وجمله المكررة عنصرًا ثانويًا لصالح الكلمات التي تحولت لهدف أساسي،  باعتبارها بيانًا أو خطبة تستعين بالموسيقى لتتصالح مع أذن الجمهور، الكلمة/ المعنى الذي لم يعد موجودًا رغم الأصوات الكثيرة الحلوة، كما تبدأ بيانهم/ أغنيتهم الثانية في الألبوم، حيث "كل حاجه اشتغاله والحقيقه بقت رزالة".

يغيب المعنى لصالح السلعة، الفلوس والـViews، حيث تستوي الأغنية والإعلان، والفن هابط؛ صورة مرسومة على جدار مصمت تخفي حقيقة كونه جدارًا، ليكون الجمهور "لقمة" تؤكل بسهولة، سجين للتسلية والطرب الذي من الواضح أن الأغنية/ البيان لا يعترف بهما، مستعينأ بمقاطع أغنية أم كلثوم أنساك بلحن بليغ حمدي.

"كان لك معايا أجمل حكاية" اختيار مثالي للعلاقة بين الفن والتسلية، والماضي الجميل وبكرة الأحلى، إذ يمكن تأويلها بأكثر من معنى، الأول مباشر للكلمات نفسها عن الحكاية الجميلة التي كانت، والتنويم بالماضي والسنين التي مرت كالثواني، والمعنى الثاني تبعًا لفكرة البيان/ الأغنية؛ طرب جميل لمشاعر منسوخة ومكررة، مثل طُعم في صنارة والعمر يجري أوام، لكن بكرة أحلى أيضًا. اختيار مثير للحيرة في سياق الأغنية التي كتبها أمير عيد، وربما تعكس حيرته هو نفسه التي تكررت تساؤلاتها في بقية أغنيات الألبوم بشكل عام.

أسئلة كثيرة.. ومزيد من الأسئلة الكثيرة

انقسمت الأغنية الثانية ما بين اليقين القاطع حول غياب المعنى، والحيرة المتشككة حول مفهوم الفن والتسلية، فيما أعلنت الأغنية الثالثة يا أبيض يا أسود حالة التيه منذ أول مقاطعها "أسئلة عايشة مكمّلة"، التيه والشك في أقدم الأسئلة الوجودية، الخير أو الشر، الأبيض أو الأسود؟ أي المواقف علينا اختيارها؟ وهل يجب الاختيار أصلًا مع أن "عادي عادي عايشها في النص رمادي"؟ مجموعة من الأسئلة غير المجاب عنها لمدة أربع دقائق، بتوزيع خليط ما بين الموسيقى الإلكترونية والشعبي "أسئلة كتير والضمير بيأنب"، ربما تنهي قصة حياتك دون إجابة في النهاية.

بعد كثير من الأسئلة العامة عن القطبين الخير والشر وما بينهما، تتواصل الأسئلة المنطقية بالنظر إلى حيرة أمير عيد كمغنٍ وشاعر غنائي، يغني للثورة وللحرية والتحرر من الرأسمالية في أغنياته، وفي الوقت نفسه يكتب ويغني للإعلانات والشركات، من فودافون لكوكاكولا، هكذا لا يعيشها أبيض وأسود، وإنما يعيش في المنطقة الرمادية كما قال في أغنيته السابقة، وهكذا يعترف بخجله "ببص في المرايه وخايف عيني تيجي في عيني" كما في أغنيته الخامسة "يلا نغني"، بمزيد من الحيرة، حيث "كل الأفكار جوايا راقدة متكدرة"، هل يغني للجمهور وللفن أم يغني عليهم للتسلية؟

التساؤلات نفسها في الأغنيات السابقة لكن بمزيج من الراب والروك مع الموسيقى الإلكترونية، لكن بإجابة واضحة يختارها أن "يللا نغني اللي جوانا".

الدنيا الغدارة وأنا السيجارة

انتهت التساؤلات وتعود الفرقة للأسى الذاتي الذي يولّد الحكمة؛ الحياة جميلة وبائسة، حكمة قديمة بصياغة شعبية تصلح للكتابة على ظهر سيارة نقل ضخمة، أنا السيجارة والدنيا غدارة، شفايفها حلوة بس بتعض، بلحن موال شعبي، يبدأ بترومبيت يحاكي فرقة حسب الله، بتتابع للحكم الشعبية البسيطة المسجوعة، مع توزيع شعبي يعتمد المقسوم، ونغمات المهرجان الإلكترونية المميزة، والأكورديون، موجهة لجمهور الأغنية الشعبية وللتكاتك كما علّق عدد من مستمعي الفرقة أسفل فيديو الأغنية على يوتيوب.

ما عاد صغيرًا..

واحدة من ثلاث أغنيات لم يغنها أو يكتبها أمير عيد في الألبوم، لكنها من كلمات الكاتب الراحل أحمد خالد توفيق، وصدرت قبل عام عقب وفاته التي مثلت خبرًا حزينًا لقرائه من أبناء الثمانينات.

لذلك كان خيار اللحن والتوزيع المقاربين لأغنيات مسلسلات الأنيمي الياباني المدبلج أنسب خيار لمخاطبة هذا الجمهور، وللكلمات الفصحى البسيطة التي تشبه كلمات هذه الأغنيات أيضا، وتلائم جو الأسى الذاتي العام المغلِّف للألبوم.

نفس الحيرة ونفس الاعترافات في الألبوم لكن بلغة أفصح: "ولكم قد هادن وتراخى.. ولكم قد نافق وتنازل"، "آقسم يا أمي لم أخدع إلا مرآتي حتى في ثوب الشيطانِ لم أدرك معنى لحياتي"، نفس التخبط الذي صرحت به "كايروكي" كفرقة من مواليد الثمانينات، ومن أبناء الطبقة الوسطى العليا، عبّر عنه كاتب مراهقتهم، بلحن وتوزيع من عمق التاريخ التليفزيوني لمراهقتهم أيضًا، كأنها سنين ومرّت زي الثواني والحال ثابت لم يتغير.

الصوت اللي متبقي

بعد وصلة بيانات موسيقية مطولة تخللتها الاعترافات بالخوف، والتساؤلات الشخصية، وممارسة الحزن على الأحوال وما آلت إليه، والأمل "اللي لا هو عايش ولا بيموت"، تختتم كايروكي ألبومها بتوضيح خياراتها كونها الصوت المتبقي، والنغمة النشاز وسط جوقة من المهادنين والخائبين والخائفين على رزقهم.

خياراتهم التي أعلنوها "يللا نغني اللي جوانا"، بحسابات مختلفة، ويتضح هذا الموقف تدريجيًا بالنظر لخيارات وقرارات بعض الفرق الموسيقية الأخرى آخرها "مسار إجباري" مثلًا.

الإعلانات بدلًا من الحفلات

خيار "يللا نغني اللي جوانا" الذي التزمت به كايروكي له تبعاته بالتأكيد في أجواء المقاضاة والمنع والحجب الحالية، إذ تواجه فرقة كايروكي تهمة انتهاك حقوق الملكية الفكرية، بعد استخدام أغنية أنساك دون إذن الجهة المالكة، أي اتحاد الإذاعة والتليفزيون، التي تدعي ملكيتها للأغنية.

كما واجهت الفرقة على مدار العامين الماضيين عدة مرات من قرارات منع إقامة الحفلات، لأسباب أمنية أو دون إبداء أسباب أحيانًا، ليس هذا تضييقًا أمنيًا فحسب، لكنه حجب لواحد من موارد الفرقة الماديّة، والتي تعتمد بشكل مستقل على مواردها الاقتصادية لإنتاج ألبوماتها، وربما يبرر هذا الموقف لجوء الفرقة لحسابات مختلفة كأن يغنوا لصالح حملات إعلانية، فودافون وأوبر مثلًا، رغم رفضها الواضح للتسلية أو سخريتها من ماكينات الرأسمالية، ففي النهاية يحتاج المرء لأن يعيش وأن يأكل وأن يعمل، وكل هذا يستهلك نفقات، يمكن أن توفرها هذه الإعلانات، والحياة بالتأكيد مجموعة مواءمات، لمواجهة الدنيا الغدّارة.