تصميم احتفظت به بعد حفلة مشروع ليلى الأخيرة في القاهرة، يمثّل غناء حامد لأغنية "المريخ" على أضواء هواتف الحاضرين.

الصورة لـ أكرم صبري بإذن خاص لـ المنصة

هزيمة مشروعنا ومشروع ليلى: غدًا ليس يومًا أفضل

منشور الخميس 1 أغسطس 2019

عندما أشير إلى 25 يناير لا أكتب ثورة، ليس لأنها لم تكن ثورة، ولكن لأن الالتفاف على كلمة ثورة في الكلام أو الكتابة يضمن الالتفاف على ذكريات وأحلام وأشخاص كثر، يضمن الالتفاف على إحساس الهزيمة الذي نعايشه كل يوم بأشكال مختلفة.

تكمن صعوبة هذه المصطلحات في كونها كلمات جاذبة، تتجنّب ذكرها لا إراديًا لأنها كلمات مفتاحية، كتابتها في محرك بحث جوجل تؤدي إلى آلاف النتائج لمحتوى مكتوب ومرئي عن موضوع ما. ذكرها بشكل واعٍ يذهب بنا إلى آلاف الصور والذكريات التي، ربما، لم نستطع بعد التكيّف والتعامل مع ما حدث بعدها.

هذا ما حدث عندما كتب أحد أصدقائي "غدًا يوم أفضل" على فيسبوك قبل أسبوعين، قراءة الجملة أطلقت ذكريات يبدأ خيطها بجملة "إلى جيل الثورة" مكتوبة بخط أبيض على خلفيّة سوداء في بداية فيديو لأغنية كلينت إيستوود للجوريلاز والتي أعاد إنتاجها فرقة مشروع ليلى اللبنانية ثلاثة أيّام قبل انتصارنا على مبارك.

منذ يومين، قرأت بيان الفرقة اللبنانية بخصوص مشكلة حفلها في مهرجان بيبلوس، المهرجان الذي شهد في السابق غناء حامد سنّو غدًا يوم أفضل على المسرح. البيان كان حديثًا عن الفرقة وأهدافها وأغانيها، عن الحملة التي تعرّضت لها من قبل كثيرين اتهموهم بالماسونية وخدمة أغراض خاصة من خلال أغانيهم. قرأت، وخلال قراءتي شعرت بالهزيمة في داخلي، كتبت تعليق "غدًا يوم أفضل"، وتركت البيان والصفحة، ثم اندفعت ذكريات علاقتي بأغاني هذه الفرقة، وكيف تقاطعت مع انتصاراتنا وهزائمنا التي نراها في انتصاراتهم السابقة، وهزائمهم الحالية.

مخبّي الشمس بكرشي

في واقع الأمر، قيمة ما تقدّمة الفرقة اللبنانية على المستوى الموسيقي محل جدل بين المتخصصين والمهتمّين بمجال الموسيقى، هناك من يدفع بثوريّة واختلاف إنتاجهم، وهناك من يرى أنهم أذكياء أكثر من موهوبين، استفادوا من عطش الشباب العرب لكلمات تعبّر عنهم عن ثورتهم على الأنظمة السياسية والاجتماعية التي تكبّل أفكارهم، وهناك من يرى أن وصولهم للعالمية اعتمد على حمل الصحافة الأجنبية وجهة نظر استشراقية في النظر إلى المنطقة العربية كمستنقع من الجهل والرجعية، فعندما يظهر فيها شباب يتحدّثون عن الحريات السياسية والجنسية، فهو بالتأكيد شيء مدهش، لذا كان دائمًا كان وجه الفرقة في لقاءات عدّة هو حامد سنّو، مؤدّي الفرقة الذي خرج للعلن بميوله المثلية.

لست متخصصة في الموسيقى، ولكن كمستمعة عايَشَت أغاني هذه الفرقة وتفاعلت معها، ورأت نغماتهم تسري في دوائرها الاجتماعية على اختلافها، أرى أن ما قدّمته مشروع ليلى يمثّل قدرتنا على الانتصار على كل الحواجز دون قتال دامٍ أو صراخ، يمكننا القفز على الحواجز بالموسيقى، بأن نكون صادقين فيما نطلقه إلى العامّة.

 

قبل شم الياسمين، لم أكن أعي كيف لشخص مؤمن بدين يحرّم المثليّة الجنسية أن يستمتع بأغنية تحكي عن حبٍ مثلّي. لكن الفرقة استطاعت أن تريني ذلك، فيّ وفي غيري من الفتيات والفتيان الذين تجاوزوا الحواجز الثقافيّة والاجتماعية والدينية نحو استمتاعهم بالموسيقى والتأثر بها. تقول لي صديقتي مرة في حكايتها عن الأغنية "كنت بستغرب الكلمات في الأول، بس بعدين حبّيتها لأني في الآخر أنا بسمع أغنية عن حب، ذلك هو بغض النظر عن أي حاجة تانية".

نعم كانت هناك جدالات بخصوص وضع حامد والفرقة، لكنّها في النهاية جدالات كلامية، لم نكن خائفين من إعلان حقيقة أننا نحب مشروع ليلى، ونعم لم نجد حساسية أو حرجًا من الاستماع إلى مغنٍ مثلي يغنّي لمن وعدته حبيبته بالزواج رغم اختلاف ديانتيهما ثم خلفت وعدها، بإمكاننا أن نقوم بفعل الاستماع ونعلنه، صدقنا أن بإمكاننا الفقز فوق الحاجز بانسيابيّة، فاستنفدنا كل طاقتنا في القفز من أجل انتصاراتنا الشخصية والعامة.

 

كنا في زمن يمكن لشخص ما أن يعلن ميوله المثلية ثم يغنّي أمام العامة، سيستمعون إليه. تمامًا مثلما كان بإمكاننا تحدّي إدارة الكلية وإقامة تويت ندوة عن الإعلام والثورة، لا حاجة لنا بقاعاتهم ولدينا السلّم والإنترنت، يمكنني أن أرى ملصقات لمشاريع وقضايا وموضوعات طالما كانت مهمّشة بين جدران كليّتي.

كان بإمكان الفرقة الصغيرة أن تصنع ألبومًا ناجحًا في استديو صغير، وأن تضيف مؤثّرات سجّلتها في الكهوف لأغانيها. وفي شوارع القاهرة، يمكننا أن نغنّي وأن يتفاعل الناس معنا، يمكننا حضور الفن ميدان كل شهر، السير بالكاميرا وتصوير الناس والاقتراب من حياتهم ونقل تفاصيلها، وتغطية الانتخابات والاستفتاءات كأفراد أو كممثلين لمواقع أسسناها ونحن طلبة إذا أردنا، يمكنني وزميلي أن نعمل على فيلمنا القصير الأول، وندرج فيه مشاهد لوزارة الداخلية وعساكرها، بلا خوف.

"عايز أصور مشاهد الفيلم كلها من الشارع، انت مش متخيّلة الشارع فيه مشاهد عظيمة قد إيه"، هكذا كان يقول لي.

 

في المجال العام علا السقف، بينما تصدر أغانٍ كالحل رومانسي وحبيبي، نستطيع الآن المناقشة حول أهمية إعلان ميزانية الجيش، الكشف عن حجم اقتصاده ووضعه تحت الرقابة، كنا نرى مبارك في القفص، نناقش إذا كنّا نخون مبادئ الحرية التي نطالب بها إذا أسكتنا أصوات مؤيّديه، أو إذا طالبنا بإقصاء الإخوان خوفًا من تنظيمهم الكبير، لدينا انتخابات بأكثر من عشرة مرشّحين لا نعرف من منهم حقًا سيفوز، نخوض انتخابات الإعادة، جدل عن عصير الليمون، وخوف من أخونة الدولة.

في الشارع يخوض الناس معركة وراء معركة، في المنتصف يخوض الناس، أفراد عاديين ونشطاء سياسيين، معارك كلامية حول مدى أهمية معارك الشارع، محمد محمود ومجلس الوزراء ومسرح البالون، لكن في النهاية كلنا نصرخ ونتعارك لأننا نؤمن بأن اليوم "بس مش مطوّل.. غدًا يوم أفضل".

 

انتصارنا لم يكن يومًا في نجاح ما نفعله، بل في إمكانية الفعل نفسه. بالنسبة لي ولمن أعرفهم على الأقل من محبّي الفرقة، كانت مشروع ليلى إثباتًا على أننا بإمكاننا الفعل، بحرية وفي العلن.

هتسيبك بوعظات جاي من عمارات من عاج

في 2013 كان ألبوم الفرقة الثالث، رقّصوك، ربما لم يقصدوا ذلك، لكني لا أستطيع منع نفسي من ربط نزول كلمات كـ"فينا نرفض ناكل بعض لو الناس شافوا عظامنا، قلّن مش جيعانين"، ووجودي وقلّة وسط مجتمع كأننا نختبره شكله الحقيقي لأول مرة، ونحن نواجه صعوبة في اقناعه بأن الخوف، أي خوف، لا يبرر المجازر الجماعية، التاريخ والمنطق والإنسانية بتّوا في قدسية وصلاحية هكذا مبدأ، فقط مجتمعنا يبدو أنه لم يعِ هذا الدرس بعد.

لم يكن الإحباط وقتها في ردود فعل العامة على ما حدث في رابعة العدوية والنهضة (ألتف أيضًا على كلمة مجزرة)، كان الإحباط كلّه متمثّلا في إدراكنا متأخرًا بأن الفقز على الحاجز لم يكن كافيًا، كان علينا أن نحطّمه، وحتى ننجح، كنّا بحاجة إلى وقت لم تمنحنا إياه لعبة السياسة. كان محبطًا إدراكنا أن اللعبة لم يكن يومًا في يدنا، وأننا لسنا خارقين كما تصوّرنا، ومن الممكن جدًا أن نصبح مجرد قطعة في رقعة شطرنج يحركها شخص ما.

في ظل هذا الوضع، كان هناك صمت مطبق وثقيل، أتذكر أن هناك فردًا ما من عائلتي ظل شهرًا يقول إني إخوانية. صديقات أخريات، بينهم مسيحيات، كان لديهن في عائلاتهن مثل هذا الفرد. كنّا متفاجئين من أسرنا ودوائرنا التي ظننّاها آمنة، بمفهومنا عن الأمن، والمفاجأة عقدت اللسان، ليخرج هذا الألبوم بفكرة واحدة تدور حولها كل الأغاني، نحن لم نهزم بعد، هناك دائمًا خيار آخر.

كان هذا المبدأ هو المنطلق إلى كل العراك الذي خضناه مع أسرنا ومع أنفسنا ومع المجتمع أحيانًا، لا يفهم الناس ما نسمع؟ هناك دائمًا اختيار أن تستخدم السماعات، لايريد الآلاف الاستماع إلى أحاديث الثورة، هناك دائمًا اختيار أن نكتب لمن ما زال يسمع، حتى وإن كانوا أفرادًا.

مازالت الفرقة تغنّي ومازالت الحفلات تتوالي، هذه المرة يظهرون بشكل أوضح في أوروبا وأمريكا. بشكل ما، هذا بصيص أمل أن التغيير ممكن وأنا النصف الممتلئ من الكوب يستحق الصمود لأجله، بمكننا المقاومة بأن نغنّي أغنية "حاجة تبشّر تعا رقّصني شوي".

في القاهرة تعود الخطوط الحمراء إلى الصحف مرة أخرى، هذه المرة بفعل موجة الهتيسريا الجماعية، هناك اختيار أن ترحل، أن تخلق لنفسك مساحات جديدة في قصص غير سياسية لا تضطر فيها لأن تتخلى عن مبادئك. نعم، هو ليس الاختيار الأفضل الذي كنت تطمح إليه، لكن باتّخاذك إياه فأنت تعرّي كل من تماهى مع موجة التخويف والتخوين، تفضحهم أمام الحقيقة "كان في خيار وانت رقصت، كنّا احرارًا وانت رقصت".

أشرفلك بس تطنّش

العام الآن 2014، السيسي يحتل في صدارة المشهد كمشير منقذ في نصف السنة الأول وكرئيس في نصفها الثاني. يظهر من بداية العام أننا سنواجَه بالحديد والنار في كل مرة نخرج فيها للعلن نزأر بطلب سياسي أو نعترض على مآل الحكم في البلد. لكن ولأن لدينا اختيار آخر، يمكننا السعي في أمور أخرى، يمكننا الحديث والاستمتاع بأمور أخرى، نحن نعلم الآن أننا لسنا وحدنا، ومازلنا نؤمن أنها غيمة وستنقشع، وأن غدًا يوم أفضل.

في معترك السياسة والأخبار، الحال صار أصعب، الناس أكثر عدائيّة تجاه الكاميرا، صاروا يتبرّعون بمنعنا من أداء عملنا بدلاً من الشرطة، خلال سنة من عملي في الشارع بعد تخرجي استوقفتني الشرطة ثلاث مرّات، منهم مرة احتجزت لأربع ساعات لأنني وزميلي كنا نصوّر الأشجار وعمّال النظافة.

ينسحب الناس من السياسة إلى الفن والرياضة والتنمية الذاتية، أفعل ومن حولي الأمر ذاته، أحدهم ينصب تركيزه على حبّه للسينما، أخرى تبحث عن تطوير قصصها ومهاراتها الصحفية، وثالثة تبحث عن فرصة للسفر، وأنا أبحث عن مساحات جديدة لعملي واهتمامات جديدة لحياتي، أتطوع في مبادرة وأبحث عن أصدقاء في دوائر بعيدة عن الإعلام حيث لا يحكي لي أحدهم كيف منع موضوعه من النشر أو رفضت فكرته لأنه لا تناسب الخط العام الحالي.

أقفز من دائرة لأخرى وأكتشف أنهم عادة ما يكونون زمرة من الذين قرروا أن الأفضل أن ننسحب من المعركة الكبرى ونبحث عن معاركنا الحياتية الصغيرة، ربما هذه التي نستطيع حقًا الانتصار فيها، وما يبقى من حديث الثورة والتغيير هو حديث ذو شجون وذكريات.

 

تفعل الفرقة ذلك في ألبومها الرابع أيضًا، ابن الليل، والذي قال عنه سنّو قبل نزوله إنه تغيير في اتجاه الفرقة لمحاولة الانطلاق من منظور حسّي وشخصي أكثر في أغنياتهم. يخرج ابن الليل كرحلة في ملاهي بيروت الليلة، ويلتقط معاني ومشاهد من التجربة التي عاشها مؤدّي الفرقة بعد موت والده، يتحدّث عن الحياة والعلاقات والمثليّة، وبين سطور الأغنيات هناك أمل ما في تغيير للأفضل "خبز الغراب بدا ينمى، بنورث الأرض غدا يمّا"، هناك دائمًا أمل إذا كان هناك اختيار.

في القاهرة، القصص الصحفية إما تؤكد على الثورة وأحداثها خوفًا عليها من الطمس، أو تحاول الإشارة إلى معاناة أهالي شهدائها ومصابيها. تحاول هذه الأصوات البقاء حيّة إلى أن تخفت بفعل عوامل الزمن وتطورات الآلة الإعلامية التي باتت تعرّف الشهيد شهيدًا فقط إذا مات مرتديًا بزّة رسميّة.

يقل عدد الصحف ويجلس كثيرون في منازلهم وتختنق مساحات الحرية في الصحف الرئيسيّة، وإذا كان هناك بصيص من الأمل في أن تكون المساحات التي خلقناها بعيدًا عن المعترك الرئيس ملاذًا لنا، تتأسس مشاريع صحفية مختلفة تحاول فتح زوايا جديدة للقارئ وتجتذب صحفيين لم يجدوا مكانًا للتعبير في أماكنهم الكبيرة، لكن حقيقة الأمر التي وجب إدراكها أن لفعلنا غير المكتمل في 25 يناير 2011 ثمن، سيحرص النظام، حفاظًا على حياته، أن ندفعه.

اعتقالات وملاحقات وتضييق في العمل وفي السفر يطال مشاركين سابقين في العمل السياسي، ملاحقة لأي شخص يود الانخراط في العمل العام، مشاريع تختنق وتموت بفعل هرب رؤوس الأموال والحجب وعدم القدرة على فرد الأذرع في المساحات الضيّقة أو قصر نفس المدراء والمستثمرين. بالتوازي، تواجه الفرقة المشكلة تلو الأخرى، المنع تلو الآخر، والجدالات المتتالية. يبدأ الأمر من عمّان التي منعتهم من الغناء مرّتين، وتظهر ذروته في مصر، سبتمبر/ أيلول 2017.


اقرأ أيضًا: قدسية النص وقدسية الإنسان


 

طوال كل هذه السنوات، كنت دائمًا ما أفشل في حضور حفلة للفرقة، ولا مرة كان الوقت أو ثمن التذكرة يقفان في صفّي، كانت حفلة ميوزيك بارك، فرصتي الأولى التي أوفق فيها دون مشكلة، هناك لم أكن وحدي، كثير من دوائري التي تحب أغنياتهم حضروا يومها، سأكتب انطباعي الذي لم أكتبه يومها على فيسبوك. كان يومًا ساحرًا، لم يكن حامد مضطرًا للغناء، يكفيه أن تبدأ الموسيقى حتى تغنّي حناجر الموجودين كلّهم بتناغم وتلاحم، وكأن الموجودين أتو ليغنّوا وتعلو أصواتهم لا ليسمعوا.

غدًا يوم أفضل؟

كلنا نعلم ما حدث بعدها للمجال العام، لكنّي سأسرد ما حدث لي بعدها، وعدت صديقتي التي لم تحضر أني سأسجّل لها شم الياسمين إذا غنّاها حامد، وغنّاها حامد وسجّلتها أنا. نشرتها على فيسبوك دون كتابة أو تعليق، تلقيت بعدها سبع رسائل كراهية وتحرّش من غرباء في 10 دقائق، منهم من يسأل عن ميولي الجنسية ومنهم من يهينني كشخص أو كامرأة، تلقيت رسالة أخرى من أحد أفراد عائلتي يسأل بغضب شديد كيف لي أن أحضر ما وصفها بـ "حفلات الشواذ".

https://www.instagram.com/p/BZW7v68n_v-/

مسحت الفيديو وأغلقت حسابي، على انستجرام تلقيت خمس رسائل أخرى غاضبة لوجود صورة من فقرة فرقة المربع في نفس الحفلة على بروفايلي الشخصي، بعد نشرها بربع ساعة، ثلاث منها كانت أعضاء المرسلين التناسلية، قالوا إنها مبادرة منهم لتعديل ميولي الجنسية، لم أعد للموضوع أو حتى للحديث عنه، حتى مجرّد الكتابة عن الفكرة كانت أمرًا مقلقًا ومؤثرًا.

لم أعلن موقفًا أو أرفع راية، وعلى الرّغم من أني، بمعايير المجتمع المصري، فتاة شبه مثاليّة، متديّنة محجبّة لا تهوى كثيرًا الخروج عن عاداته وتقاليده، دفعت ثمنًا تمثّل في مواجهة جانب من موجة الغضب والكراهية، فقط لأني أستمع إلى موسيقى ما، فقط لأني استمع إلى الموسيقى.

على الأرض، مُنعَت الفرقة من إحياء الحفلات في مصر، وبدأت حملة اصطياد أمني في مجتمع الميم. ومجتمعيًا، كانت حملات تصيّد وتعنيف تلاحق كل من يسمع ويفضّل موسيقى مشروع ليلى، وبالتأكيد لكل من حضر الحفل، ما زلت أتذكر لحظة الخوف، لحظة الإدراك أنك لم تعد قادرًا على مشاركة الموسيقى التي تحبّها أو مجرّد إعلانك أنك تفضل ترك حياة البشر الشخصية جانبًا دون تقييم أو حكم عليهم من خلالها، إذا لم تنبذهم فأنت الآن منبوذ.

خلال الفترة التالية للحفلة، تحدّث أعضاء الفرقة عن تأثرهم بمنعهم من أداء حفلات في الأردن ومصر. انقلبت الصحف الكبرى والأكثر انتشارًا على الفرقة بعد أن كانوا يبروزون حواراتهم معهم ويتنافسون على الكتابة عنهم بمجرد حضروهم إلى البلاد لإحياء الحفلات، ظلّ التاريخ الموسيقي للفرقة متوقفًا عند ابن الليل دون تحديث، حتى هذا العام، عندما أصدروا مدرسة بيروت، بأربعة عشر أغنية، منهم أربع أغانٍ جديدة فقط. تعلق في ذهني منهم أغنية واحدة وهي معاليك.

 

في القاهرة، لم أعد وأصدقائي نتحدّث عن مشروع ليلى، نسمع الأغاني بصمت، الجمل التي كنّا نستخدمها كدعابة استبدلناها بجمل وكلمات أخرى، المسألة كلها تحدث بشكل غير واعٍ (كما ألتف بغير وعي على الثورة والمجزرة). لكنّي ألاحظه عندما يصدر الألبوم الأخير ولا نتحدّث عنه، قالت لي إحدى صديقاتي إنها لم تعجب بالأغاني، لكن حتى هذه لم نناقشها كثيرًا، هناك شيء ما صار فاترًا.

"أتشظّى جيشًا يشبهني"، جملة حالمة تستمر في المقاومة، لكنّي على وجه آخر لا أرى المقاومة موجودة في الألبوم الأخير الذي صدرت منه نسختان باللغة العربية والإنجليزية، وهو ما قال أعضاء الفرقة أنهم يفكّرون فيه بالفعل (إنتاج أغانٍ بالإنجليزية) لجمهورهم في الخارج، في محاولة الخروج من القيود على غنائهم في أقطار العالم العربي، يكمن إحباطي في أن هذا الاختيار يعطي مؤشّرًا أنه لم بإمكان مشروع ليلى غناء ما يريدون بالعربية بعد اليوم، وربما لوقت طويل.

السّور صار منيعًا، والفكرة الحالمة بأن "الطغيان يزهّر عصيان"، كما تقول كلمات معاليك، ربما ليست صحيحة. في القاهرة هنا على الأقل، لا يزهّر الطغيان سوى مزيدًا من اليأس والهروب أو مزيدًا من القبول بالأمر الواقع، لم أعد أجد بين دوائري أو في الشارع بين من أحادثهم خلال عملي الصحفي أي محاولات للعصيان او المقاومة، صار منتهى الأمل هو مشاهدة المتظاهرين في السودان والجزائر، والدعاء بألا تنحدر آمالهم إلى الظلام كما آل الوضع هنا.

خلال الأسبوعين الماضيين، قام جدال في لبنان على إحياء مشروع ليلى حفلة في مهرجان بيبلوس، المهرجان الذي احتضنهم وهم طلاب جامعة صغار لينطلقوا منه إلى مسارح العرب والعالم، ومنذ أيام ألغى الحفل "منعًا لإراقة الدماء"، أتمعن في الجملة جيدًا، أرى المفارقة أمام عيني، بين صديقتي التي فتحت أذنها وقلبها للموسيقى دون اعتبارات أخرى، وبين الدماء التي على وشك أن تراق من أجل الموسيقى نفسها.

أجد فيما حدث هزيمة شخصيّة أخرى، أن تمنع الفرقة في الأردن أو في بلدي أمر، وأن تمنع في مسقط رأسها، في مهرجان شهد غناءهم ذات يوم أمام رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، أمر آخر.

ذات يوم كان بإمكاننا القفز على الحواجز وتحدّيها، قاومتنا الحواجز فارتددنا وانسحبنا إلى مساحات بعيدة عنها، فطاردتنا إلى هناك، وقيّدتنا إلى آخر متر مسموح لأحلامنا وآراءنا فيها أن تتنفّس، لم أعد أؤمن بأن غدّا يوم أفضل، على الأقل في هذه المنطقة من العالم، لن يكون الغد أفضل بالتأكيد في مكان يعيش فيه من يخافون من الموسيقى.

"مالي عازة..بس مش مطوّل.. غدًا يوم أفضل" صارت جملة ثقيلة سألتف حولها من الآن، وربما لوقت طويل.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.