تصوير: محمد طارق
محطة السادات، مترو القاهرة

سِفر الخروج من ميدان التحرير: ونجوت وحدي لأخبرك

منشور الأربعاء 2 أكتوبر 2019

القاهرة 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2019

من حسن حظي أنني اتبعت نصائح الأصدقاء ومن أتابعهم على فيسبوك وتويتر بالابتعاد عن ميدان التحرير والشوارع المحيطة به منذ يوم 20 سبتمبر/ أيلول 2019، لكن بعد عشرة أيام من ذلك التاريخ نزلت مضطرًا.


أخبرني تليفوني بما لم أعرفه من قبل.

اعتدت المشي 8 كيلومترات يوميًا أو أكثر، أقضى أغلبهم مترجلًا بين مطاعم ومقاهي وسط المدينة مع الأصدقاء، أفعل هذا يوميًا بعد انتهاء عملي في السادسة مساءً، وعندما تشير ساعتي إلى 11 مساءً أبدأ الجري باتجاه موقف عبد المنعم رياض لملاحقة آخر أتوبيس يذهب إلى محل سكني، لأنني إذا تأخرت عن ميعاده، سأدفع عشرة أضعاف قيمة تذكرته لشركة أوبر.

تلك هي حياتي، كثيرًا ما أدفع.

منذ جمعة 20 سبتمبر توقفت عن تلك العادة، كما توقفت عن عادات أخرى.

في ذلك اليوم أردت الذهاب لصديق يسكن بحي المنيل، اخترت النزول بعد انتهاء الشوط الأول لنهائي السوبر بين الزمالك والأهلي كي أتفادى الزحام. الكل يشاهد المباراة الآن إما من المنزل أو على المقاهي والشوارع خالية. لم أهتم بالنتيجة، توقفت عن تشجيع الفريق الخاسر بعد أن مُنعت جماهيره من حضور المباريات عقابًا لخسارات متلاحقة مُني بها.

بعد انتهاء المباراة أتى أصدقاء آخرون إلى منزل صديقي، كنا نعرف أن مقاولًا فرّ من مصر إلى إسبانيًا وسجل فيديوهات دعى فيها الشعب للخروج على النظام، وقد راهنا على الاستجابة للدعوة من عدمه، راهنا دون أن نفرض التزامًا على خاسري الرهان، لأننا نعرف واقع الخسارة.

تابعنا رغمًا عنا، وبدافع الفضول لا أكثر ما سيحدث، وجدنا فيديوهات بدأت في الانتشار لمتظاهرين استجابوا للدعوة.

فيديو لمظاهرة بميدان التحرير، المتظاهرين يهتفون "ارحل ارحل"، نحدد مكان المظاهرة، تقاطع شارع البستان مع طلعت حرب، نبدأ في التحقق منها، نرى فيديو آخر لمظاهرة أخرى، تنهال علينا الفيديوهات من كل ناحية.

زادت الفيديوهات من محافظات أخرى غير القاهرة. راودني الفضول، وزاد التوتر كلما رأينا فيديو جديدًا، متظاهرون في المنصورة، وآخرون في المحلة ودمياط، وميدان الأربعين بالسويس. كنا نحاول التشكيك في صحة كل فيديو رأيناه بمحاولة البحث عن أي شيء خلال الفيديو يدل على عدم وقوعه في ذلك اليوم، ولم نصدق أنفسنا حين رأينا صورة الرئيس تُمزق لأول مرة وتداس بأقدام المتظاهرين، نضحك غير مصدقين، صدفة غريبة، هكذا فعلوا مع من جاء قبله.

غادرنا منزل صديقنا بحثًا عن مقهى نجلس فيه، كنا نسير في شوارع المنيل حين سمعنا صدى صوت يأتي من الشارع الرئيسي، يبدو جماهير تهتف، أو صيحات مشجعون على المقهى، تساءلنا عن مصدر الصوت، وماذا يقول، لم يطل سؤالنا حين رأينا من آخر الشارع متظاهرين يسيرون في شارع المنيل الرئيسي، على الهتاف كلما اقتربنا منهم "ارحل.. ارحل"، بحثنا عن شخص نعرفه في المظاهرة لكننا لم نجد أحد يشبهنا، أعطيناهم ظهرنا وخرجنا إلى الكورنيش.

اقتربت الساعة من الواحدة بعد منتصف الليل، فكّرنا في المراهنة على شيء آخر لا نعرفه وكدنا نخسر، ازرقت السماء من حولنا فجأة، وعلى صوت سرينة الشرطة ونحن سائرون على الكورنيش، مضت من أمامنا سيارات مصفحة ممتلئة بعساكر الشرطة، تبحث عن المظاهرة، وكنا متأكدين أن المتظاهرين تفرقوا ولن تجدهم السيارات، ومكافأة لنا، لم يلاحظوا وجودنا، فقد أعطينا للمظاهرة ظهرنا من البداية وقررنا أن نتوقف عن المراهنة.


منذ ذلك اليوم، توقفت عن عادة التمشي، نبهني تليفوني إن معدل جولاني لم يزد عن 3 كيلومترات، ازداد وزني، وهو ما لا يريده رئيس الجمهورية من المواطنين، فقد طلب منا الحفاظ على لياقتنا، لكن ما باليد حيلة، لعله يقدّر ويسمح لي فيما بعد.

في اليوم التالي عادت الشرطة من جديد لتدارك الموقف، ملأت شوارع وسط المدينة، وأحاطت ميدان التحرير، ودعا المقاول مجددًا إلى مظاهرات في الجمعة التالية 27 سبتمبر/ أيلول.

تجرأت على النزول إلى وسط البلد مرتين في ذلك الأسبوع، سرت في حي جاردن سيتي لكنني لم اقترب من ميدان التحرير. أغلقت جميع المقاهي التي كنت أجلس فيها مع أصدقائي، وبدأت أحصي المقبوض عليهم ممن كنت أعرفهم.

لم يهدأ فيسبوك وتويتر. أصبح مستخدموهم في مصر عرضة للحبس الاحتياطي. ازدادت التحذيرات من النزول إلى ميدان التحرير ووسط المدينة. التقطت صورًا لمخبرين يوقفون الناس ويطلبوا هواتفهم لفحصها.

فكرت أن التحذير من النزول إلى وسط المدينة مجرّد "أفورة"، حكى لي صديقان عن توقيفهما من المخبرين واعتبرت الأمر مصادفة، فليس معقولًا أن تمنع الشرطة المرور من وسط المدينة.

تصورت أن شهادات الناس حول تفتيش المواطنين والتواجد الأمني بها صورة من المبالغة، بالأمس قابلت صديقتي في حي الزمالك الذي لا نحبه، تغدينا هناك احتفالًا باستقالتها من العمل، وقررنا الذهاب إلى مقهانا الذي نحبه في وسط المدينة. أمضينا المساء فيه ثم غادرناه قبل منتصف الليل. كنا سعداء، ولم نرد أن نغّير من عادة التمشية من المقهى إلى ميدان التحرير، ولأكون دقيقًا بادرت صديقتي بطلبها التمشي، ترددت للحظة في الموافقة، وفكّرت أننا سنكون مستبعدين منطقيًا من دائرة الاشتباه، واخترنا أكثر الشوارع أمانًا.

مررنا على نقاط تفتيش كثيرة ولم يهتموا بنا، كان الضباط يجلسون على كراسي حول طاولات في الميادين، سألت نفسي كيف أتوا بتلك الكراسي والطاولات وهم أغلقوا جميع المقاهي القريبة. خرجنا إلى ميدان التحرير، كان خاليًا إلا منا والمخبرين من حولنا، طلبت سيارة وطلبت سيارة وانتظرناهما وعيون ضابط تنتظر مغادرتنا للميدان، فكرت أن صديقتي بدت تمويهًا لحركتي بالميدان، ولو كنت وحيدًا لأوقفني أول مخبر أقابله، لمحت ضابطًا يتفحصني عن قرب فضحكت أكثر إمعانًا في إتقان المراوغة.

نجحت المجازفة وعدنا لمنزلينا سالمين.


في الصباح كان لدي مهمة عليّ أن أقضيها في إحدى المصالح الحكومية بميدان رمسيس. ركبت الأتوبيس من أمام بيتي متوجهًا إلى وسط البلد، وقرأت التايملاين على صفحة المقاول دعوة جديدة إلى النزول في الثالثة عصرًا وبدأت أتلقى تحذيرات الاقتراب من ميدان التحرير، لكن لم يكن الأمر بيدي، على الأتوبيس أن يمر من الميدان ومررنا بالفعل.

في مدخل كل شارع من الميدان تركن سيارات الشرطة، المدرعات أولًا ثم سيارات الترحيلات الممتلأة بالعساكر، ثم الميكروباصات، خدمني الحظ أن الميدان كان به 3 إشارات من مدخله عند شارع القصر العيني حتى موقف عبد المنعم رياض، ورأيت سيارات الشرطة تصطف بطول الشوارع المطلة على الميدان، حتى السيارات الملاكي للضباط وقفت معهم.

اصطفت فرق الأمن المركزي في ميدان التحرير عند مدخل شارع محمد محمود وطلعت حرب والبستان وشامبليون، وكل عشرة أمتار تقريبًا، وقف اثنان من المخبرين على ناحية الرصيف، شهدت توقيفهما لسبعة مواطنين، دلت إشارتهما على سؤال المواطنين؛ "رايح فين وجاي منين؟ بطاقتك؟"، من لديه حقيبة يسأله عما به ويطلب منه فتحها، على الرصيف بين محل كنتاكي ولابوار شارع البستان شاهدت الأمر ثلاث مرات، ومرتين على الناحية المقابلة للرصيف، أحدهما كان رجلًا أربعينيًا.

تأكدت أن النزول من الأتوبيس في الميدان أو التمشي في شوارع وسط البلد شيء من الانتحار فقررت البقاء فيه حتى دخول جراج موقف الأتوبيسات، أخفيت كل تطبيقات الهاتف التي أستخدمها، واضطررت في تلك الحالة الميلانكولية النزول داخل الموقف، ونزلت منه وأنا لدي خطة سأجيد تمثيلها؛ أن أجري إلى الناحية المقابلة وأشير لأي تاكسي سواء به راكب أو لا حتى أبدو مستعجلًا للحاق بشيء، نجحت في المرة الثالثة وكدت أن أشكر سائق التاكسي لإنقاذي.

صعدنا إلى كوبري أكتوبر فوجدت مجموعة من المخبرين عليه، لأول مرة يقف المخبرون على كوبري أكتوبر، الذي حُجبت رؤية الميدان منه بوضع سور من الصفيح بمحاذاة السور الحديدي، ونزلنا شارع رمسيس فوجدت آخرين يستوقفون مواطنين.

أوقف المخبر شابًا وأمسك هاتفه ليتفحصه، وقد حجب بيده انعكاس ضوء النهار من على الشاشة كي يستطيع قراءة ما على الهاتف.

نجحت في الوصول إلى المبنى الحكومي سالمًا، ومن حسن حظي أن الموظفة أدركت المجازفة فانتظرتني، وسألتني إن كان آمنًا لها أن تخرج هي من عملها الحكومي في تلك اللحظة، لم أجد ردًا عليها، وكانت المهمة الأصعب هي خروج من المبنى، أردت الذهاب إلى أحد المطاعم لتناول الغداء وشرب القهوة واستكمال عملي، قررت عدم السير مجددًا رغم عدم تعدي المسافة بيني وبين المطعم سوى 600 متر، ووقفت في منتصف الشارع لأدعي استعجالي مجددًا، وحين وقف التاكسي فتحت الباب وركبت قبل أن أخبر السائق باتجاهي "آخر الشارع".

وقفنا في إشارة، مرت من أمامنا مدرعتان وسيارة أمن مركزي وميكروباصات تحمل مخبرين، هذا ليس جديدًا، كان الجديد سيارة نصف نقل يستقل صندوقها مجموعة من الشرطيين الملثمين شاهرين أسلحتهم إلى السماء، التفت الجميع إليهم، لم يكن مشهد مألوفًا من قبل. فتحت الإشارة ومضينا.

وصلت إلى المطعم، وبدأت الكتابة على أصوات سرينة الشرطة، وفي الخلفية تمر المدرعات من أمامي كل 15 دقيقة تقريبًا، فقررت البقاء به حتى تهدأ الأمور وتتوقف السرينة عن العواء.


السَّحَابُ يَضْمَحِلُّ وَيَزُولُ، هكَذَا الَّذِي يَنْزِلُ إِلَى الْهَاوِيَةِ لاَ يَصْعَدُ. لاَ يَرْجعُ بَعْدُ إِلَى بَيْتِهِ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مَكَانُهُ بَعْدُ. أَنَا أَيْضًا لاَ أَمْنَعُ فَمِي. أَتَكَلَّمُ بِضِيقِ رُوحِي. أَشْكُو بِمَرَارَةِ نَفْسِي. كُفَّ عَنِّي لأَنَّ أَيَّامِي نَفْخَةٌ.

سفر أيوب. الأصحاح الرابع. التوراة


مرت 3 ساعات على دعوة التظاهرة، فشلت مجددًا، في السادسة مساءً قررت الخروج من المطعم، ألقيت باللابتوب في شنطتي، ووضعت سماعات الهاتف في أذني، تذكرت أن عادة التمشية التي امتنعت عنها لمدة عشرة أيام، أتى ميعادها الآن، خرجت من باب المطعم دون وجهة، مشيت شارعين، واخترقت الممرات الصغيرة، تلقيت تليفونًا من صديق يدعوني لزيارته إلى المنيل لم أسمعه جيدًا بسبب صوت سارينة الشرطة التي مرت من أمامي، سألني "انت فين؟"، لم أجبه، نظرت إلى الرصيف فوجدت صفًا من المخبرين، تخيلت أنهم شارعون في تحيتي، ابتسمت، وأخبرته أنني في طريقي إليه وأغلقت المكالمة، وضعت التليفون في جيببي، واستمعت للموسيقى.


‫ع/ أ/ ي/ ش.. ولع جوب وزود البنزين. اعرف أنت مين. اكسر الكمين. طلع ال50. دلع الأمين. اعمل الدماغ وشغل السارينة. هنولع في المدينة. مخدرات نسينا. بندور جوه روحنا قبل حتى ما تلاقينا، فوق السحاب مشينا، تحت التراب جرينا، جنود مجهزين ساعة الصفر هتلاقينا. أول ناس جاهزين عشان الموت مأثرش فينا.

 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.