ويكيميديا برخصة المشاع الإبداعي
الجامع الأزهر

الأزهر في السياسة: محطات نادرة من الانحياز للشعب

منشور الأربعاء 10 فبراير 2021

 

رغم أن الإسلام لم يضع قواعد تصيغ أدوات سلطة دينية كما فعلت الكنيسة التي تتعدد فيها مراتب وسلطات رجال الإكليروس، إلا أن الفاطميين استطاعوا بعد بناء الجامع الأزهر جعله المعهد المتخصص في إعداد قادة ودعاة المذهب الشيعي الإسماعيلي، حتى جاءت الدولة الأيوبية وقضت على الدولة الفاطمية وألغت بالتبعية دور الأزهر وأعادت مصر إلى الدائرة السنية، حتى أتى المماليك الذين ورثوا الحكم عن الأيوبيين، ووجدوا في الجامع الأزهر رابطًا قويًا قد يصلهم بالشعب المصرى، فأعادوه إلى المشهد وأغدقوا المال على المجاورين فيه.

منذ تلك الحقبة؛ أصبح الأزهر مؤسسة دينية تنخرط في السياسة، بعد أن بنى وراكَم نفوذًا كبيرًا ومنح المنتسبين إليه سلطة معنوية ونفوذًا كبيرًا على امتداد الزمان ومع تعاقب الأنظمة التي حكمت مصر بدءًا من المماليك وحتى تأسيس الجمهورية، فكانت هذه السلطة تنحاز إلى الشعب أحيانًا، عندما تختار ترك موقفها المعتاد الذي يجعلها تصطف في خندق الحكام.

طوال العصر المملوكي، كان الجامع الأزهر يستقبل المجاورين القادمين من القرى والمدن المصرية بالإضافة إلى البلدان العربية، وكانت الأوقاف، التي أوقفها أمراء المماليك، هي مصدر الإنفاق على طلابه وشيوخه، في ظل مجموعة من الامتيازات حددها المماليك من أهمها إعفاء العلماء وشيوخ الأزهر من أعمال السخرة المقررة على الفلاحين، وهي أعمال قهرية كانت تفرضها السلطات المحلية على الأهالي للعمل في إصلاح الطرق و الجسور والترع وغيرها من المرافق العامة بدون أجر، وكانت هناك فرص كبيرة للحصول على مساحات من الأراضى الزراعية يتمتع بها العلماء، كهبةٍ من الوالي أو الأمير.

ظل هذا الامتياز قائمًا حتى عصر محمد علي وأولاده من بعده، فكان الباشا يهب العلماء المرضي عنهم مساحات كبيرة ضمن ما سمي الأبعديات وأراضي المسموح. وأشهر من استفاد بهذا الامتياز رفاعة الطهطاوي الذي امتلك مئات الأفدنة، عبر الهبات التي تلقاها من محمد علي وأولاده من بعده.

كان لخريجي الأزهر مكانة كبيرة في نفوس الناس، فمن الأعراف التي استقرت في الريف المصري، أن تهب العائلات الميسورة أحد أولادها للعلم الشريف، أي الدراسة في الأزهر، وذلك لتتحقق لها الهيبة والمكانة الأدبية بين سكان القرية أو البندر، فالشيخ الأزهري كانت له القدرة على مخاطبة الحاكم ومعارضة قراراته ونقل رغبات الأهالي إلى ممثلي الدولة دون خوف من الإهانة أو السجن.

الأزهر ممثل الجماهير

عندما وقعت مصر تحت الاحتلال العثماني عام 1517 نشأت فيها سلطة مزدوجة، فكانت مصر ولاية عثمانية يأتيها الوالي المعين من قبل السلطان العثماني، وكانت الإدارة المحلية في أيدي المماليك حكام البلاد السابقين، العارفين كل شيء عنها وعن الأراضي التي يزرعها الفلاحون والضرائب وطرق تقديرها وفرضها ووسائل جمعها وتحصيلها. 

وبما أن الجامع الأزهر كان مكانًا يتلقى فيه الدارسون العلم الديني، فكان لابد له من قائد يضبط الحركة والحياة فيه، فابتكر العثمانيون منصب شيخ الأزهر، فهم عسكر يؤمنون بالتراتب والتدرج والأقدمية، وكان تعيين الشيخ الأكبر أداة الدولة العثمانية للتحكم في مصائر الآلاف من المجاورين المقيمين في أجنحة الجامع التي تسمى أروقة، ومنها رواق المغاربة ورواق الصعايدة ورواق الشوام.. إلخ. 

الفوضى السياسية التي شهدتها مصر ابتداءً من القرن الثامن عشر الميلادي بسبب ضعف الدولة العثمانية، أغرت بعض المماليك باستعادة حكم مصر من قبضت الأتراك عدة مرات كانت أشهرها محاولة علي بك الكبير، تمامًا مثلما كانت فرصة مناسبة لسطوع نجم العلماء شيوخ الجامع الأزهر، الذين تولى عدد كبير منهم إدارة إقطاعيات وأراضي بعض كبار المماليك، بينما امتلك عدد ثروات مكنته من الانضمام إلى طبقة الحكام.

ينقل لنا المستشرق الفرنسى أندريه ريمون صورة معبرة عن الوضعية الاجتماعية والسياسية لعلماء الأزهر وعلاقتهم بالطبقات الشعبية وطبقة الحكام المماليك في تلك الفترة، ضمن كتابه المصريون والفرنسيون في القاهرة 1798-1801 الذي ترجمه إلى العربية بشير السباعي "كان الربع الأخير من القرن الثامن عشر فترة مضطربة في القاهرة، فأعمال العنف و الإتاوات المالية أثارت غضب الشعب، وجعلت العلماء يتدخلون للوساطة بين المماليك والشعب، ففي مارس 1776 انتفض أهالي الحسينية ضد الأمير حسين بك شعث، وتم إغلاق الدكاكين، وتم ترديد شعارات من أعلى مآذن الأزهر".

غير أن الحدث الأكثر أهمية في تاريخ العلاقة بين الأزهر والشعب وقع عام 1795. ينقل لنا الجبرتي في كتابه عجائب الآثار في التراجم والأخبار وقائع ما حدث فيقول "إن هناك تعديات وقعت من جانب رجال محمد بك الألفي في إحدى قرى الشرقية حيث توجد أملاك الشيخ الأزهري الكبير عبد الله الشرقاوي، فلجأ الأهالي إلى الشيخ، فتوجه الشيخ بدوره إلى كبار شيوخ الجامع الأزهر، وعقدوا اجتماعا اتفقوا خلاله على مخاطبة إبراهيم بك أحد الأميرين الحاكمين آنذاك، إبراهيم بك ومراد بك، وخاطبوه بقولهم نريد العدل ورفع الظلم والجور وإقامة الشرع وأن يتعهد المماليك بحسن التعامل مع الناس أن يسيروا في الناس سيرة حسنة. واتفق كبار العلماء مع كبار الأمراء على كتابة وتوقيع حجة 1795 التي تضمنت تعهد الأمراء بإلغاء الضرائب  التي فرضت على الفلاحين والتجار، وعقب توقيع الحجة، سار شيوخ الأزهر محاطين بالجماهير، وكان المنادي يقول حسب ما رسم سادتنا العلماء، فإن جميع المظالم والحوادث والمكوس بطالة من مملكة الديار المصرية". 

معنى هذا النداء بلغة عصرنا أن جميع الضرائب التي فرضت على الفلاحين والتجار ألغيت بموجب الحجة التي وقعها علماء الأزهر مع أمراء المماليك. وأهمية هذا الحدث أنه بلور قيادة طبيعية من بين العلماء الأزهريين للجماهير الغاضبة، لجأ إليها نابليون لاحقًا عندما وصل بعد ثلاث سنوات إلى القاهرة وسيطر عليها في يوليو/ تموز 1798، فاختار أفرادها لعضوية الديوان معتبرًا إياهم نوابًا عن الشعب يتمتعون بالمكانة الأدبية والسطوة الروحية على المصريين.

مقاومة حملة نابليون

والمجال لا يتسع لتفصيل الدور الذي لعبه العلماء الأزهريون في التاريخ السياسي المصري الحديث، لكن من المهم أن نعرف أن جماعة العلماء انقسمت طبقيا إلى قسمين، القسم الأول يسمى كبار العلماء وهم الذين استطاعوا الارتباط بالأمراء المماليك، فأصبحت لهم أملاكًا زراعية ودكاكين وعقارات وقصورًا في أحياء القاهرة الراقية.

أما القسم الثاني فهم صغار العلماء؛ شيوخ الصف الثانى الذين لم يتمكنوا من تحصيل الثروة أو تحقيق الحظوة لدى الأمراء وكانوا يؤدون دورهم العلمي بالتدريس في الجامع الأزهر، ويمارسون أنشطة أخرى تحقق لهم استقرار حيواتهم، فكان من بينهم من يقوم بأعمال نسخ الكتب أي كتابتها يدويا وبيعها مقابل أجر للطلبة المجاورين، ومنهم من يتاجر في الفاكهة والأدوات المنزلية.

ولما تفجر الغضب الشعبي في أكتوبر/ تشرين الأول 1798 بسبب الضرائب التي قررها نابليون على التجار والحرفيين في القاهرة بغرض تمويل حملته إلى بلاد الشام، تولى عدد من صغار العلماء قيادة هذا الغضب الشعبي المعروف لدى المؤرخين باسم ثورة القاهرة الأولى، التي جاء رد نابليون عليها عنيفًا قاسيًا، فقد اقتحمت قواته الجامع الأزهر بالخيول، وخربت كل شيء فيه، وضربت المدفعية بطلقاتها جدرانه فتصدعت، ولحق الدمار بهذا البناء المقدس لدى المصريين، وقبض على خمسة من صغار العلماء الذين اتهموا بقيادة التمرد وحكم عليهم بالإعدام وهم الشيوخ أحمد الشرقاوي وإسماعيل البراوي وسليمان الجوسقي ويوسف المصيلحي وعبدالوهاب الشبراوي. 

تجاوز دور صغار العلماء في مقاومة حملة نابليون حدود القاهرة فامتد إلى الأقاليم، ويذكر الكاتب والشيخ الأزهري خالد محمد خالد بعض تفاصيل هذا الدور في مذكراته التي حملت عنوان قصتى مع الحياة فيقول "بجوار قريتنا قرية تسمى بيشة، ذهب الفرنسيون إليها ليجمعوا منها الخيول التي يمتطون ظهورها، خائضين بها معاركهم الغاشمة ضد الشعب، ولما بلغ الخبر لجنة الشيوخ في القاهرة، اختارت اثنين من أعضائها الذين سبقوا الغزاة إلى القرية، ونظموا مقاومتها، وحين أقبل جنود نابليون، فوجئوا بجحيم يحاصرهم ويبيدهم، وانتقل الشيوخ الظافرون إلى بلبيس التي كانت عاصمة لمديرية الشرقية، ومنها إلى طنطا ومنها إلى بعض العواصم التي شبت الثورة في حضرها وقراها ونجوعها، واشترك فيها الأطفال والنساء والرجال، مما جعل الفرنسيون يقولون: خسائرنا في الأرواح والعتاد، تطوق أعناق الذين أفهمونا أننا ذاهبون إلى مصر لنتفرج على نوع من الفلاحين رعاة الشاه والبقر".

بذور الحداثة

كان قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر في العام 1798 هو نهاية العصور الوسطى التي عاش المصريون أسرى ظلامها بسبب استبداد المماليك والعثمانيين، ظلام لم يستثني الأزهر من مظلته، فكانت العلوم التي يدرسها طلابه شروحًا وحواشيَ وكتبًا قديمة كتبها مؤلفون عاشوا في أزمنة قديمة. ولكن الحملة، رغم جانبها الدموي عندما قتلت 250 ألف مصري، أحدثت بالتوازي مع المجزرة زلزالًا فكريًا لدى العلماء، فتبين لهم أنهم حفظة وليسوا علماء، وأنهم يعيشون في الماضى السحيق. 

ورغم قبول الشيوخ الكبار الانخراط في العمل السياسي، سواء من خلال قبول التعاون مع نابليون أو من خلال قيادة وتنظيم المقاومة الشعبية ضد قوات الحملة، لم يحدث تعديل في العلوم التي يدرّسها الجامع، ولم تتغير النظم المعمول بها، لكن الحملة وما صاحبها من أحداث فتحت الباب أمام النابهين والمتميزين من المجاورين والعلماء الأزهريين، فاقترب الشيخ حسن العطار من علماء الحملة، وأدرك أهمية التواصل مع أوروبا وامتلاك المعرفة والعلوم الحديثة، وكان العطار هو من احتضن رفاعة الطهطاوي وهو الذي رشحه ليكون إمام طلبة البعثة التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا، لكن رفاعة لم يقنع بدور الإمام ومقيم الشعائر بل تعلم الفرنسية وترجم عنها وعاد إلى القاهرة ليشارك في مشروع محمد علي، ليصبح رائد النهضة الحديثة.

أسس رفاعة أول مدرسة لتعليم البنات، وألف أول نشيد للجيش المصري، وأسس أول جريدة باللغة العربية الوقائع المصرية وأول مدرسة للترجمة مدرسة الألسن، ومن عباءته خرج المجددون والرواد علي مبارك ومحمد عبده وطه حسين. والمقصود هنا التفرقة بين الأزهر باعتباره الوعاء الجامع لكل أصحاب القدرة على الإبداع والتعلم، وبين الأزهر المؤسسة، فلم يكن لهذه المؤسسة الدينية فضل السبق في استقبال العلوم الحديثة والقيام بأعباء النهضة، بل إن قطاعا كبيرا من الأزهريين السلفيين تصدى لكل إصلاح وكل تطوير وكل محاولة للتقدم.

الأزهريون والثورة العرابية

في عهد الخديو إسماعيل، شهد الأزهر إصلاحات عديدة، تمثلت في وضع قواعد للدراسة والتدريس فيه، وتنظيم طرق الحصول على شهادته العليا العالمية، وتحسين رواتب وأجور الشيوخ القائمين بالتدريس، وإضافة العلوم الحديثة إلى جانب العلوم الشرعية، وانضم المصلح الإسلامي جمال الدين الأفغاني لفريق المحاضرين فيه، ولكن على المستويين الاجتماعي والاقتصادي. 

لم يتمتع الأزهريون باستثناءات كالتي تمتع بها ضباط الجيش أو العاملون في الجهاز الإداري للدولة، وفرضت الأزمة الاقتصادية الناتجة عن الديون الخارجية التي استدانها إسماعيل شروطا قاسية على كل الطبقات، بدرجات ونسب متفاوتة، فأجبرت الحكومة شيوخ الأزهر من حائزي الأراضي الزراعية على دفع الضرائب، ومن امتنع منهم كان نصيبه الإهانة والضرب بالفلقة والكرباج، حسب ما روته الدكتورة لطيفة محمد سالم في كتابها القوى الاجتماعية في الثورة العرابية، موضحة الظروف التي كانت سائدة في المجتمع المصري ومحددة موقع ودور الأزهريين منها، بالقول "كان للأزهريين دور كبير في الثورة العرابية، ومروا بظروف صعبة، فقد أجبروا على دفع الضرائب، ومن امتنع كان جزاؤه الفلقة والكرباج لدرجة أن أحدهم لم يتمكن من العودة إلى منزله على قدميه بعد أن انهال عليه القواسون من عساكر الشرطة بالضرب حتى إن العلماء تضرروا من ذلك فتكون منهم وفد وقصد سراي عابدين وشكا الوفد من معاملة العلماء كسائر الفلاحين". وتضيف الدكتورة "عندما قامت حركة الضباط الأولى في فبراير 1879 كان الأزهريون يؤيدونها، فقد عثر على إعلانات داخل الأزهر مهيجة للأفكار، فلما بلغ أمرها شيخ الجامع محمد العباس أمر بتمزيقها وأوصى الخدمة العمال والفراشين بأنهم إذا عثروا على فاعليها أن يقبضوا عليهم ويسجنوهم".

ولم يكن هذا هو كل شيء عن دور الأزهريين في الثورة العرابية، فقد انضم الشيخ محمد عبده إليها بعد تردد، وكان هناك شيوخ آخرون يرفضون ما قام به الخديو إسماعيل وما قام به ولده الخديو توفيق ، ومن بين هؤلاء الأزهريين من حوكم عقب هزيمة الثورة العرابية، ومنهم الشيخ محمد عبده الذى صدر ضده حكم بالنفي، فاختار لبنان منفىً له، ثم لحق بأستاذه الأفغاني في باريس وهناك أصدرا مجلة العروة الوثقى وقادا حملة مضادة للاحتلال البريطاني. 

 

مدرسة الأزهر عام 1906 - صورة من ويكيميديا برخصة المشاع الإبداعي

وانتهت فترة حكم الخديو توفيق وتولى ولده الخديو عباس حلمى الثانى حكم البلاد وحاول القيام بحركة إصلاح في الأزهر، ذكر تفاصيلها في مذكراته  التي حملت عنوان عهدي.. مذكرات عباس حلمي الثاني خديوي مصر الأخير، وهي حركة كان ظاهرا فيها دور الشيخ محمد عبده لكن علاقة الشيخ باللورد كرومر المندوب السامي البريطاني أزعجت الخديو عباس حلمي فأثار الشيوخ السلفيين ضد مشروع الإصلاح، ويقول الخديو عباس في مذكراته "كان المصلح الكبير الشيخ محمد عبده برغم علاقاته مع الأسف مع كرومر وعواطفه تجاه المحتلين، من دعاة التقدم، وكنت قد حلمت دائما ودون أن أنتزع هؤلاء العلماء الورعين من مهامهم المقدسة أو منابرهم الطاهرة في أن أعطيهم وفي خط مواز لمعارفهم الدينية، معارف إنسانية تسمح لهم بتهيئة النفوس وتجعلهم يفهمون ما هي الإنسانية، واصطدمت باتجاه تقليدي كان يصل إلى مرحلة العناد، وظل الأزهر منغلقا أمام محاولاتي إعطاء العلماء تعليما آخر يختلف عن التعليم الديني".

أما الإصلاحات  التي بذلها الشيخ محمد عبده مدعوما بدعم شيخ الأزهر حسونة النواوي فتمثلت في تشكيل مجلس إدارة الأزهر، وتحديد مدد محددة للتقدم للامتحانات، وإضافة علوم الجغرافيا والحساب والجبر والهندسة والأدب والمنطق والفلسفة، وتقسيم الشهادات التي يمنحها الأزهر للمتخرجين إلى الأهلية، وهي شهادة تمكن حاملها من الخطابة والوعظ والإمامة في المساجد، والعالمية وهي الشهادة الأعلى، يوقعها الخديو وتتيح لحاملها التدريس في الجامع، والانضمام إلى هيئة كبار العلماء، وتزامن هذا مع إنشاء مدرسة القضاء الشرعي التي كانت تتولى إعداد القضاة الشرعيين.

الشيخ والملك: دسترة الأزهر

مع بداية الحرب العالمية الأولى، قرر الإنجليز خلع الخديو عباس حلمي عن العرش، وجاءوا بالسلطان حسين كامل، ومن بعده جاءوا بالسلطان فؤاد، ثم انفجرت ثورة 1919 التي كان الأزهر قلعة من قلاعها، ونقطة حصينة من نقاط تطبيق شعارها الثوري الأشهر "عاش الهلال مع الصليب"، فكان القساوسة يعتلون منبره ويخطبون الخطب الوطنية، ولكن عندما أصدرت بريطانيا تصريح 28 فبراير 1922 الذى منح مصر حق كتابة دستور ومنح السلطان فؤاد لقب الملك فؤاد ومنحه حق التمثيل الدبلوماسي لشخصه وعرشه من خلال السفارات الأجنبية، استطاع أن يكسب قطاعا كبيرا من الأزهريين ويجعلهم يطالبون لجنة كتابة الدستور بأن يكون الأزهر وشؤونه كلها ضمن اختصاصات وسلطة الملك المباشرة، دون المرور من بوابة الحكومة أو البرلمان.

كانت لدى الأزهريين كراهية قديمة لزعيم الوفد ورئيس الحكومة المرتقب سعد زغلول، وهو الأزهري مثلهم، لأنهم يرونه أحد داعمي إنشاء مدرسة القضاء الشرعي التي تخصصت في تخريج القضاة المختصين بمحاكم الأحوال الشخصية، وحرمت الأزهريين من فرصة تولى منصب القضاء.

خضعت لجنة كتابة الدستور لمطالب الأزهريين والملك، وفي عام 1924 تقدم الأزهريون بمطالب للزعيم سعد زغلول وكان يترأس الحكومة، فأخبرهم بأن الأمر في يد الملك بنص الدستور، فهاجوا وغضبوا وسيروا المظاهرات التي هتفت لا رئيس إلا الملك بعد أن كان هتافهم السابق هو الرئيس الأسعد، وفي الفترة ذاتها داعب حلم الخلافة عقل الملك فؤاد بدعم بريطاني، بعد سقوط هذه الخلافة على يد كمال أتاتورك، وعلى الفور أمر الملك رجاله في الأزهر بتشكيل لجان من الشيوخ سميت لجان الخلافة، تولت الدعاية لأحقية الجالس على عرش مصر بتولي خلافة المسلمين.

ولكن في عام 1925، خرج شيخ أزهري يعمل قاضيًا في محكمة المنصورة، ويحمل شهادة العالمية، اسمه علي عبد الرازق، ينتمي لعائلة ثرية لها سطوة ونفوذ سياسي في حزب الأحرار الدستوريين، بكتاب حمل عنوان الإسلام وأصول الحكم، نفى فيه وجود أي نص قرأني ينص على أن الخلافة ركن من أركان الإسلام، وشن حملة على الاستبداد باسم الدين. 

قامت الدنيا ولم تقعد، فقد أصاب الكتاب حلم الملك فؤاد في مقتل، وجرده من الغطاء الديني الذى كان يسعى إليه ليكون الخليفة الذي لا تجوز محاكمته ولا مساءلته بالدستور، أو الرأي العام، لأنه سيكون حاكمًا باسم الله، واستخدم الملك رجاله في الأزهر، فانعقدت هيئة كبار العلماء وحاكمت الشيخ علي عبد الرازق وأصدرت حكمها بإخراجه من زمرة العلماء وتجريده من شهادة العالمية وفصله من وظيفته كقاضٍ بمحكمة المنصورة الشرعية.

بعدها توالت الأحداث، فعزل الملك وزير الحقانية عبد العزيز فهمي من الحكومة لأنه أحال قرار هيئة كبار العلماء إلى قلم قضايا الحكومة لإبداء الرأي، وكلف علي ماهر بمهام منصبه، ليحتج الوزيران المنتميان لحزب الأحرار الدستوريين على إخراج زميلهما بهذه الطريقة المهينة، فاستقالا من الحكومة، وانتهى التحالف السياسي الذي ضم حزب الاتحاد حزب القصر والأحرار الدستوريين الذي رفض قبول فكرة أن يصبح الملك فؤاد خليفة للمسلمين.

وإلى جانب القرار الذي اتخذته هيئة كبار العلماء ضد الشيخ علي عبدالرازق، أصدر واحد من كبار الشيوخ محمد الخضر حسين كتابا أسماه نقض أصول الحكم في الإسلام أهداه لخزانة حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول، تبرع فيه بالرد على الحجج الدينية والتاريخية التي ساقها الشيخ عبد الرازق.

ومن عجائب الأمور أن الخضر تولى مشيخة الأزهر عقب قيام ثورة يوليو 1952.

انتهى حلم الخلافة، ومات الملك فؤاد، لكنه قبل موته دخل في صدام آخر مع الأزهريين، فقد وافق على تعيين الشيخ مصطفي المراغي شيخا للأزهر، ووافق المراغي على مشروع تقدمت به الحكومة يجعلها شريكة في إدارة الأزهر، فغضب الملك على الشيخ واعتبر ذلك انتقاصًا من سلطاته، وتقدم المراغي باستقالته في العام 1930، وقبلها الملك، وغضب الأزهريون وخرجت مظاهراتهم تطالب بعودة الشيخ إلى منصبه. 

وفي العام 1935 أجبر فؤاد على إعادة المراغي إلى منصبه، ومات الملك فؤاد وتولى ولده الملك فاروق فأصبح المراغي حليفا له وداعما في مواجهة حزب الوفد. وكان المراغى من دعاة إقامة حفل دينى في القلعة يقلد خلاله جلالة الملك سيف جده محمد علي ويصلي مأمومًا به ليكون خليفة وإمامًا للناس، ويكون شيوخ الأزهر نوابا عنه، ولكن صلابة وعلمانية مصطفى النحاس زعيم الوفد حالت دون تحقيق هذا الحلم الملكي المدعوم من الأزهر وشيخه. 

 

الملك فاروق في الأزهر وإلى جواره الشيخ المراغي

ثورة 23 يوليو والأزهر

عندما حدثت ثورة 23 يوليو 1952، لم يكن الأزهر بعيدًا عن متناول جماعة الإخوان المسلمين، بل إن أحمد حسن الباقوري، الأزهري الذي تزعم ثورة الأزهريين لإعادة الشيخ المراغي إلى مشيخة الأزهر، كان من قادة الإخوان، واستقال أو أقيل وتولى منصب وزير الأوقاف.

استوعب المشروع الناصري التصور الإسلامي الأزهري، بعد أن جرده من الخطاب السلفي التقليدي، وجعله يواكب الاشتراكية العربية التي تبناها عبد الناصر، وفرض التحديث على الجامعة الأزهرية، فقرر على طلابها كل المناهج التي يدرسها طلبة الجامعات المدنية، وكان الهدف تخريج دعاة يحملون الرؤى الناصرية للدائرة الإسلامية والدائرة العربية، بمعنى تحويل المتخرجين في الجامعة الأزهرية إلى مبشرين في الدول العربية والإسلامية والأفريقية، وافتتحت ثورة يوليو إذاعة القرآن الكريم في العام 1964 لتكون المنبر الذي يطل منه الأزهريون على المسلمين في مختلف أنحاء العالم. 

وبصيغة أخرى يمكن القول إن ثورة يوليو استخدمت الأزهر لصالح مشروعها، ضد الوهابية أو الرجعية العربية التي قادتها المملكة السعودية، وضد الإخوان، لكنها خلقت ازدواجية تعليمية في المجتمع المصري، والأصل في التعليم أن يكون موحدًا حتى تتشكل هوية المواطنين في اتجاه واضح محدد المعالم والأركان، لا يحمل امتيازات لفئة من المتعلمين على حساب الفئات الأخرى. 

وجاء السادات ليغير من هذه الصيغة قليلا بما فرضته عليه الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والأمريكان حلفائه، فأسلم الأزهر للسعودية والوهابية وشارك شيخ الأزهر عبد الحليم محمود في كل البرامج الأمريكية السعودية المعادية للشيوعية، ولما فرضت الأوضاع السياسية على السادات إطلاق تصريحات من نوعية تطبيق الشريعة الإسلامية، تولى الأزهر وشيخه إعداد القوانين اللازمة لتطبيق الحدود على السارق و"الزاني"، ولكن البابا شنودة وأقباط مصر في المهجر أجهضوا هذا المشروع. 

ورغم استمرار الأزهر في تخريج الآلاف من كلياته كل عام، إلا أن مستواهم العلمي لا يختلف كثيرا عن مستوى خريجي المدارس والجامعات، وغالبيتهم لا تحفظ القرآن كاملا، ولم يتحقق مشروع الطبيب المسلم والمهندس المسلم ولم تتحقق طموحات الناصرية ولا الساداتية لأن الأزهر تحول إلى قلعة من قلاع الفكر الوهابي وفقد استقلاله السياسي والفكري وتحول إلى إدارة تديرها الحكومة بالطريقة التي تراها تحقق رغبات الجالس على عرش البلاد.