كنسية قبطية بالقاهرة الصورة لـ Andrea Kirkby من فليكر - برخصة المشاع الإبداعي.

بين عهدين: هل تذهب عشور المسيحيين إلى حيث ينبغي؟

منشور الاثنين 15 نوفمبر 2021

 

يقف ناصف شحاته (52 عامًا) خادم كنيسة العذراء مريم بقرية البرشا بمحافظة المنيا، ممسكًا بدفتر إيصالات العشور، يقطع منه واحدًا ويعطيه لصاحب المنزل الذي كال له "كيلتين شامي" من غلال محصول الذرة الشامية الذي أنتجته أرضه الصيف المنقضي. يضيف خادم الكنيسة كمية الذرة إلى ما جمعه في أجولة يحمّلها على "تروسيكل" يلف به القرية، لجمع عشور الفلاحين المخصصة للكنيسة، كما تعود منذ خمسة عشر عامًا.

صاحب المنزل هو إسحق منسي (49 عامًا)، يمتلك عدة أفدنة في القرية، يزرع أغلبها ويؤجر الباقي لأحد الفلاحين، ويوضح للمنصة أن "الغلة بالذات كل الكنايس في البلد لازم تاخد منها العشور، حتى لو كنيسة إنجيلية مش أرثوذكس. وأيضا يأخذ منها الحفارون المسؤولون عن التُرب والمقابر، لكنها تسمى عليق".

تعلم إسحق دفع العشور من والده الراحل، الذي كان يقتطع عشوره من الغلال والبهائم كل عام للكنيسة، ويوزعها على الفقراء الذين يعرفهم، ويوضح "سمعت البابا شنودة مرة بيقول إن الأقارب الفقراء أولى بالعشور، لذلك أخصص مبلغًا من المال لبعض الفقراء الذين أعرف ظروفهم جيدًا من أقاربي، وقد يخجلون من طلب المساعدة من الكنيسة، أما الكنيسة فلها عشور الغلال والحيوانات والعطاء والتبرعات على مدار السنة".

ووردت "شريعة العشور" في سفر اللاويين بالعهد القديم من الكتاب المقدس، واستمرت حتى مجيء المسيح، فقد كان لزامًا على الإنسان اليهودي أن يقدم عُشْر المحاصيل والحيوانات للاويين (سبط لاوي وهم الكهنة في اليهودية). وإذا كان المرء يملك 9 حيوانات فقط لا يكون هناك تعشير للحيوانات بالنسبة له. فيما كان عدم دفع العشور في العهد القديم بمثابة انتهاك للعهد مع الرب، أو "سرقة الله".

ولم يرد ذكر العشور بشكل مباشر في العهد الجديد ولكن في أحد لقاءاته المسجلة، استدل البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الراحل على استمرار إلزامية دفع العشور بما قاله المسيح في إنجيل متى "إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين، لن تدخلوا ملكوت السموات". والكتبة والفريسيون كانوا بلا شك يدفعون العشور إذن لا بد أن تدفع أكثر، وأن الكنيسة المسيحية أخذت نسبة 10% عن العهد القديم وطبقتها "كأقل نسبة مطلوبة" من المسيحي في العطاء. وهذا يعنى في بعض الأحيان تقديم أكثر من 10% وفى أحيان أخرى أقل.  هذا يعتمد على مقدرة المسيحي.

رأي البابا شنودة في العشور.


يزرع إسحق القصب أيضا، بخلاف القمح والذرة، لكنه يدفع عشوره للكنيسة من المكسب أخر العام. ويشرح ذلك بقوله "لو الفدان صرف 20 ألف جنيه في السنة وبعت المحصول بـ 40، أقطع ألفين منها كعشور للكنيسة، وكذلك في مواليد المواشي. أدفع من ثمن البطش(صغير الجاموس أو العجل بعد بيعه)". كما يتذكر أيام زمان عندما كانت والدته تحرص على إرسال عشور طيورها للكاهن في منزله، فلو كانت تربي البط أو الفراخ، تأخذ من كل عشرة واحدة وتذبحها وترسلها لكاهن الكنيسة، ومثلها كانت تفعل أغلب الأمهات، قبل أن تبطل هذه العادة.

ولكن على الجانب الآخر، لا يثق واصف لبيب (45 عامًا) صاحب مصنع مستلزمات كهرباء، في رجال الكهنوت بالنسبة لمسألة توزيع العشور على مستحقيه، إذ يقول للمنصة "لن أدفع أموالًا للكنيسة ليشتروا بها سجادًا فاخرًا أو غيره من مظاهر البذخ في الكنائس، أقوم بتوزيع العشور بنفسي على من أعرفهم، حتى لو لم يكونوا مسيحيين، فأنا أرى مسألة مساعدة المحتاج باستقطاع مبلع معين مسألة إنسانية بحتة ولا أحسبها باعتبارها فرضًا دينيًا".

يتعرض واصف، المسيحي الأرثوذكسي، لما يسميه "ابتزاز" بعض رجال الدين الذين يعرفهم ويطلبون منه العشور بشكل مباشر، ويقول "هؤلاء تحديدًا أتهرب منهم، ولا تعجبني طريقتهم في طلب العشور، فهي مسألة بين الإنسان وربنا، ولا تحتاج لإحراج الناس لدفع العشور"، فيما يحرص كل عيد على إرسال ربع ما يتم ذبحه لكنيسته في قريته بمدينة سمالوط، وهي العادة التي لا يغفلها أبدًا.

هل ما زالت العشور واجبة؟

أحيانًا يصعب فهم منطق "العشور" على كثير من المسيحيين اليوم، فهل الوصية تخص العهد القديم فقط، أم أن أثرها يمتد إلى ما بعد مجيء المسيح. وهناك تركيز كبير في العديد من الكنائس على مسألة تقديم العشور من الشعب فيما يرى كثيرون أن العشور من مبادئ العهد القديم التي فرضت على بني إسرائيل فقط، لكن العهد الجديد لا يجبر أو حتى يقترح على المسيحيين أن يكون لديهم نظام يقنن العشور. 

حسب أستاذ العهد الجديد واللغة اليونانية في المعهد اللاهوتي الإنجيلي جون دانيال، كان اليهود في العهد القديم يعشّرون ما يملكون للرب، كفكرة بديلة للضرائب، لأن في ذلك الوقت كانت الدولة هي الكنيسة "جماعة الرب".

ويقول للمنصة "لكن في العهد الجديد اختفت العشور وظهرت مرحلتان من العطاء، الأولى كانت جماعة المؤمنين الناشئة الصغيرة، وقوامها بضع مئات وجميعهم في أورشليم، حيث كان يقوم الرسل بجمع الأموال من المؤمنين وتوزيعها حسب الحاجة. المرحلة الثانية جاءت بعد توسع الكنيسة وتحول الموضوع لفكرة العطايا التي تُمنح للقائمين على عمل الله. أو عطايا لكنائس عندها احتياجات خاصة، مثل كنيسة أورشليم".

ويضيف دانيال "لكن من الواضح أنه، وبعد أن صارت الكنيسة نظامية، عادت فكرة العشور للكنيسة كنوع من تكريس لفكرة الدولة داخل الدولة، ولتلبية احتياجات الكنيسة وتوسع نشاطاتها، ما أظهر بعض المشاكل، فمن المفترض أن جزءًا كبيرًا من هذه العشور تُدفع لتكييف الكنيسة ومبانيها التي يستفيد منها الشعب. أو لدعم مؤتمرات ورحلات للشباب والأسر المسيحية. يعني شكليا إنك تدفع العشور (عطاء للرب وللفقراء). لكن في الحقيقة أنت تدفع ضرائب لدولة الكنيسة، تعود عليك بالنفع إما مباشرةً من خلال الاستفادة من هذه المزايا، أو بشكل تكافلي لغير القادرين على الاستفادة بتلك المميزات. فهناك فارق مهم بين الضرائب والعطايا. فالعطايا لا يستفيد منها المُعطي لكن الضرائب يستفيد منها الجميع".

نظام العشور بالنسبة للمسيحيين الكاثوليك لا يختلف كثيرًا عن الأرثوذكس، حسب تأكيد صبحي مناع (57 عامًا) وهو مدرس فيزياء مصري مسيحي كاثوليكي يعيش في مركز أبو قرقاص بالمنيا وتعمل زوجته موظفة في المحكمة، إذ يؤكد للمنصة حرصه على "دفع العشور كل شهر أنا وزوجتي منذ بداية زواجنا، باقتطاع نسبة 10% من دخلنا".

يعطي صبحي الدروس الخصوصية أيضا، لكنه يقتطع عشورها بالعام حسب دخله الإضافي منها، ويضيف "الأهم بالنسبة لي هو دفع العشور بالكامل ليبارك الله لي في رزقي وبيتي، فقد ينسى الشخص بسبب مشاغل الحياة أن يتصدق أو يساعد الفقراء، الذين لهم واجب على المؤمنين كما يأمرنا الكتاب المقدس، لذلك فدفع العشور في مواعيدها تريح ضمير الإنسان من هذا الجانب". ويعرف مناع أيضا من يدفع عشوره بشكل مباشر إلى المحتاجين الذين يعرف ظروفهم، وقد لا تصل إليهم مساعدات الكنائس، لكنه يريح نفسه ويخوّل الكنيسة في صرف عشوره كما ترى.

يوضح الأنبا فلوباتير أسقف أبو قرقاص وتوابعها، أن "العشور والتقدمات واجب يفرضه الكتاب المقدس على جميع المؤمنين، والعشور هو عشر ما يحصل عليه الإنسان من أي دخل له، سواء المرتب أو  تجارة أو إرث أو حتى هدايا، وبدأ العشور في العهد القديم وعندما جاء السيد المسيح صدق على استمرارية وصية العشور في العهد الجديد. أمّا التقدمات فهي العطاء مما تبقى بعد اقتطاع العشور".

ويضيف "الصدقات هي ما يتصدق به الإنسان على المحتاجين أو إخوة الرب أو التبرع لمستشفى مثلًا. أما النذور فهي وعد يصرح به أمام الله لأجل نوال مراحمه أو انتظارًا لنوال ما نبتغيه، ويتم تقدمتها كشكر لله بعد تحقق المراد. والنذور وعد مقدس كالقسم أمام الله، وأن عدم إيفاء النذر استهانة بالله.  كما يوجد ما يسمى البكور وهي بكر الحيوان أو أول أرباح، أو أول إنتاج، أو أول مرتب، أو أول حصاد وكل شيء على هذا النموذج".

ويستدل الأنبا فلوباتير على استمرارية وجوب تقديم العشور على المسيحيين بآيات في العهد الجديد تحث المؤمنين على العطاء "من سألك فاعطه" (متى 5: 42) وأيضًا "لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض، بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء" (متى 6: 19، 20) "ما يعني أنه لا يصح أن تكتفى بدفع العشور، وتكنز الثروات ولا تعطى من يحتاج".

و يوضح الأنبا فلوباتير أن هناك تطورًا في طرق دفع العشور حاليًا مقارنة بأيام زمان، ويشير إلى تراجع عدد دافعي العشور اليوم، مع تحسن أحوال الكنائس أيضًا عما سبق. ويقول "الفلاحون في بلادنا لا يعرفون سوى العشور العيني على الزرع والبهائم، والنذور بالدم من حيوانات يربونها. لكن الموظف أو التاجر الآن بضغطة زر يمكنه استقطاع العشور من مرتبه وتحويله للكنيسة". ويلفت النظر إلى اختفاء عادة تقديم "الأبكار"، التي كانت منتشرة بين الأثرياء من الفلاحين والتجار زمان.

رقابة صارمة أم عدالة غائبة؟

ويشير إلى طرق التصرف في العشور والتبرعات والنذور التي تأتي للكنيسة "بناء على لوائح صارمة موضوعة، وتخضع للرقابة الكنسية"، ويوضح أكثر "تصرف العشور على منشآت وخدمات الكنيسة وإخوة الرب، وكل ما تحتاجه الكنيسة ومؤسساتها الدينية والاجتماعية والخيرية، وتوزع اللحوم على الفقراء، كذلك من يتبرع بملابس أو أدوية، يتم توزيعها حسب حاجة كل إيباراشية أو كنيسة".  

ويضيف "أن العشور والتبرعات اليوم تتم عن طريق إيصالات مختومة من الإيباراشية والكنيسة، كما تشرف لجنة مالية من مجلس الكنيسة، على التبرعات، وكذلك اللجنة المالية للإيباراشية التابعة لها كل كنيسة، كما يتم وضع صناديق النذور في الكنائس مغلقة، بواسطة اللجنة المالية لمجالس الكنائس، تضم كهنة وعلمانيين، ويتم جرد تلك الصناديق بشكل مستمر عبر محاضر رسمية.

أحد المستفيدين من عشور الكنيسة في قرية البرشا بمحافظة المنيا يوضح للمنصة أن "الكنيسة بتوزع على الفقراء في الأعياد لحمة وبتكسي عيالنا، وبتصرف علاج وأدوية مجانًا للمرضى، وحتى فلوس العمليات الجراحية للغلابة بتدفعها الكنيسة". ويضيف الرجل الستيني الذي فضّل عدم ذكر اسمه، أن لديه ابن متزوج أصيب مؤخرًا بجلطة في المخ تسببت في إصابته بشلل نصفي، ما يستدعي علاجًا طويل الأمد، ومكلفًا بالنسبة له "الشهادة لله، كتر خيرهم، من يوم ابني ما رقد وهما شايلينه شيل، بيصرفوا له 300 جنيه علاج في الشهر، ومش إحنا بس دي كل الفقراء في البلد الكنيسة عرفاهم بالاسم وبتساعدهم".

ولكن على الجانب الآخر يرى جورج كرم المدرس الذي يعيش في مغاغة بالمنيا، أنه لا توجد عدالة في توزيع العشور في بعض الكنائس. ويقول "هناك أشخاص يسجلون أسمائهم في كشوف إخوة الرب، وهم مقتدرون ولا يحتاجون للمساعدة، لكن بالمجاملة والمحسوبية يتم كتابة أسمائهم ويحصلون على ما لا يستحقونه، وعلى الجانب الآخر تجد بعض الفقراء لديهم كرامة وعزة نفس تجعلهم يخجلون من طلب المساعدة من الكنيسة، رغم حاجتهم لها".

 القس سوريال زكي راعي كنيسة الشهيد أبو سيفين في دير البرشا بالمنيا، يشرح طرق توزيع وصرف الكنيسة للعشور التي تتحصل عليها من رعيتها، بقوله إن "عشر ما يتم جمعه يذهب إلى المطرانية التابع لها الكنيسة لتتصرف فيه كيفما ترى، والباقي يوزع حسب احتياجات الكنيسة وفقراء شعبها. ففي مواسم الأعياد وتذكارات الشهداء يرسل البعض من لحوم الذبائح، وتقوم الكنيسة بذبح كمية أخرى لتكفي الجميع، أما بخصوص المحاصيل، فيتم جمعها في المواسم، ومن ثم بيعها وصرفها في بنود مختلفة لاحتياجات "إخوة الرب"، وبالنسبة للقمح تحديدًا يتم حجز كمية منه لعمل القربان طول العام. وهناك من يتبرع بأشياء عينية للكنيسة مباشرة، سجاد جديد لكنيسة، أو بضع أيقونات، أو حتى أدوية.

ويضيف زكي أن "هناك بعض الكنائس تجمع أكثر من حاجتها، وكنائس أخرى لا تصل إليها التبرعات أو العشور، وهنا يمكن المساهمة في تغطية احتياجات الأخيرة، من الجزء الذي تحصل عليه المطرانية، أو من الكنائس الأخرى مباشرة". ويشير إلى قلة وعي البعض زمان كانت تعرض رجال الكهنوت للإحراج بسبب إرسال الطيور والبيض والسمن والخبز إلى منازلهم، لكن مع زيادة الوعي وتنبيه رجال الدين مؤخرًا بالامتناع عن تلك العادات، ساهم قليلًا في اختفاء مثل هذه الأشكال من العشور في الريف.

تظل العشور العينية والنذور من الحيوانات والطيور والمحاصيل وأيضًا مصاغ النساء، بالنسبة لمسيحيي الصعيد بمختلف طوائفهم، من أهم أشكال التدين والتعبير عن الإيمان، والعلاقة مع الله، لاسيما لغير المواظبين على الصلاة والصوم والاعتراف أو حتى الذهاب إلى الكنيسة، لكنه لا يستطيع أن يخلف في عشوره وتقدمة التبرعات والنذور بانتظام والحفاظ على هذه الطقوس، كأحد أشكال التفاخر والتقرب من رجال الدين، الذين قد يلجأون في بعض الأحيان لطلب التبرعات من رجال الأعمال الذين يعرفونهم، أو حتى القيام بجولات في القاهرة لزيارة رجال الأعمال المسحيين المعروفين وطلب التبرع لكنيسة نائية في الصعيد.