تصميم: هشام عبد الحميد

الثمن الباهظ للصوت: مصابو متلازمة واردينبيرج ولدوا ليعيشوا مختلفين

منشور الخميس 18 نوفمبر 2021

عندما كانت ريم في المرحلة الثانوية، قال لها مدير المدرسة "مش عايزينك بسماعتك، إحنا مستحملينك بالعافية".

تعاني الفتاة التي تبلغ من العمر حاليًا 23 سنة، منذ ولادتها من الإصابة بمتلازمة واردينبيرج، وهي اضطراب وراثي نادر يتميز المصاب به بدرجات متفاوتة من الصمم والاضطرابات السمعية والبصرية وتصبغات جلدية وازرقاق العينين بشكل لامع أو اختلاف لونيهما تمامًا، وهو ما عرض ريم منذ طفولتها المبكرة لكثير من وقائع التنمر. في الابتدائية مثلًا، قام مدرسوها بحرمانها من صديقتها المقربة بدعوى أنها تحتاج للاعتماد على نفسها، وحتى لا يتأثر المستوى الدراسي لتلك الصديقة حسبما أكدوا لأهل ريم ساعتها، أما في الثانوية، فلم يكن مدير مدرستها يترك فرصة، حسب أمها التي تحدث للمنصة، إلا وسخر منها وأهانها.

 

ريم مع إحدى لوحاتها- الصورة بإذن للمنصة

تدرس ريم حاليًا في قسم المكتبات بكلية الآداب، وهو المجال الدراسي الذي نصحها أبواها باختياره، بعدما لم يسعفها مجموعها في الثانوية العامة في الالتحاق بكلية الفنون الجميلة التي كانت تحلم بالالتحاق به، ورغم ما تملكه من موهبة تشكيلية لافتة.

يعود سبب الإصابة بمتلازمة واردينبيرج في المقام الأول إلى عوامل وراثية، نتيجة إصابة الأبوين أو أحدهما بها، وقد تحدث الإصابة نتيجة لطفرة جينية، ويرجع الفضل في اكتشاف المتلازمة للدكتور بطرس واردينبيرج عام 1948، أما اللون الأزرق الذي يصبغ كلا العينين بالنسبة للمصاب، أو اختلاف لونيهما، فيعود إلى شذوذ في قزحية العين تؤدي إليه المتلازمة. هذا الشكل المغاير الذي يبدو عليه المصاب بالمتلازمة بالإضافة إلى ما يعانيه من صمم جزئي أو كلي وتعثر في النطق، يضعه عرضة للتنمر والقسوة.

وتشير الدكتورة وسام عبد المنعم أستاذ مساعد طب الأطفال بجامعة الزقازيق واستشاري أمراض الوراثة الإكلينيكية والتمثيل الغذائي، إن هناك طفلًا مصابًا بمتلازمة واردينبيرج في كل 42 ألف طفل مولود سنويًا، كما يقدر عدد المصابين بالمتلازمة بما يتراوح من 1 إلى 3% من مجمل الأطفال المولودين بالصمم، وعن الأعراض المصاحبة لها والتي نستطيع من خلالها تشخيص الإصابة بالمتلازمة، تقول عبد المنعم للمنصة إن هناك أعراض رئيسية مثل" خصلات الشعر البيضاء أو الشيب، والعيون الزرقاء اللامعة بمعنى شذوذ صباغية في قزحية العين هذا بالإضافة لضعف السمع الشديد أو الصمم"، ووفقًا للأكاديمية بجامعة الزقازيق يعانى المصاب بمتلازمة أيضًا من مشكلات القولون لفقدان الخلايا العصبية المتحكمة فيه، مما يتسبب له في ألم و انتفاخ في المعدة باستمرار.

من جهته، يؤكد الدكتور هاني عبده، أخصائي طب السمع والاتزان ورئيس وحدة السمعيات بمستشفى عسير المركزي بالمملكة العربية السعودية للمنصة أن الإصابة بمتلازمة واردينبيرج منتشرة و تسبب ضعفًا شديدًا في السمع، ويرجع أسباب تزايد نسبة الإصابة بها لارتفاع نسبة زواج الأقارب في مصر، حيث إن المتلازمة تعد اضطرابًا وراثيًا في المقام الأول.

وتوضح أستاذ مساعد طب الأطفال بجامعة الزقازيق، أن الأعراض تنتقل بنحو 50% من الأبوين المصابين لأطفالهم نتيجة عوامل التوريث، مشيرة إلى أنه بات يمكن التعرف مبكرًا على إصابة الطفل وهو ما يزال جنينًا عن طريق بعض الفحوصات الطبية.

فيما يشير هاني عبده إلى أن معدلات الإصابة تتزايد في الريف عن المدينة حيث ترتفع معدلات زواج الأقارب خاصة في نطاق محافظات وجه بحرى وصعيد مصر، لافتًا إلى أن المصاب بالمتلازمة يتأهل بعد تركيب سماعة أو زراعة قوقعة ليصبح عضوًا فاعلًا في المجتمع، حيث إن زراعة القوقعة تجعله أقرب للشخص الطبيعى، مشيرًا إلى معاناة نسبة كبيرة منهم من البطالة لعدم تأهيلهم بشكل مناسب وإهمال الأسرة على حد قوله، لكن عبد المنعم ترى كذلك أن جلسات التخاطب للأطفال المصابين بالمتلازمة لا تقل أهمية عن القوقعة، فنتيجة لتضرر العصب السمعي، يتأثر بعضهم كثيرًا بقدرتهم على الاستيعاب والحفظ والتركيز.

ما نريده حياة طبيعية

زرع محمد رفعت (27 سنة) قوقعة في أذنه وهو في الثالثة من عمره، حيث اكتشفت أسرته إصابته بالصمم الكلي منذ الولادة، وشخصها الأطباء نتيجة عوامل وراثية لأن عمته صماء، لكنه عندما وصل إلى سن الالتحاق بالمدرسة لم يجد أبواه فرصة سهلة لإلحاقه بالتعليم الحكومي، واضطرا لإلحاقه بمدرسة خاصة، وهناك "تعرضت للكثير من التنمر من قبل زملائي الذين كانوا يرددون عبارات جارحة بين الحين و الآخر مثل إزاي بتتكلم وأنت لا تسمع جيدًا، بينما قال أحد المعلمين لي لن تستطيع تحقيق حلمك كمهندس أو دكتور أنت أصم لن تسمع أو تفهم شيئًا، و هو ما دفعني لتحدي كافة الصعوبات و عدم التراجع عن تحقيق أحلامي".

وفي الجامعة أيضًا، لم يكن طريق محمد ممهدًا "خلال فترات الدراسة الجامعية واجهت معاملة سيئة من قبل عدد من موظفي الجامعة الذين كانوا يعاملوني بشكل غير لائق لعدم سماعي حديثهم، حيث سمعت عبارات مثل " كيف لك أن تحاول الالتحاق بالجامعة وأنت أصم "، لكنه استطاع في النهاية التخرج في قسم الديكور بكلية الفنون الجميلة، وحاز درجة الامتياز في مشروع تخرجه "وعقب ذلك تواصل معي أحد أعضاء هيئة التدريس وطلب ندبى لأدرس للطلبة في الكلية"، حسب قوله للمنصة.

 

محمد رفعت- الصورة بإذن للمنصة

لكن ذلك التفوق الدراسي، فيما يبدو، لم يكن كفيلًا لإنهاء معاناة محمد مع ما يتعرض له من مشكلات بسبب إصابته بالمتلازمة، فبعد صد كثير واجهه في سوق العمل بدعوى أنه "لن يسمع العملاء جيدًا حتى يفهم ما يريدون تنفيذه"، قرر في النهاية أن يبدأ عمله الخاص في مجال العمارة والديكور.

ويشير أحمد ممدوح، أحد مؤسسي مبادرة صوتك ونس المعنية بتقديم خدماتها لضعاف السمع والمصابين بالصمم، إلى أن نحو 80 % ممن يعانون من مشاكل سمعية في مصر يواجهون أزمة بطالة حيث ترفضهم الكثير من أماكن العمل، بحجج واهية مما يدفع بعضهم لتحقيق ذاته عن طريق العمل المستقل.

تعمل المؤسسة، التي بدأت نشاطها، في شهر يناير/ كانون الثاني عام 2018، بتقديم الخدمات التوعوية بالإضافة للتعريف بالإنجازات التي يحققها ضعاف السمع و مصابي الصمم في مصر في المجالات الفنية والعلمية على حد سواء، والذي لا يقتصر عددهم على المصابين بالمتلازمة فقط.

ووفقا لإحصائية للاتحاد العالمي للصم يوجد 72 مليون أصم في كافة أنحاء العالم يعيش 80% منهم في البلدان النامية، ويستخدمون أكثر من 300 لغة إشارة، وتشير منظمة الأمم المتحدة إلى أن هناك نحو 7.5 مليون أصم في مصر بحسب إحصائية أجريت عام 2018، وكشف تقرير صادر عن وزارة الصحة المصرية عن أن نسبة المصابين بضعف السمع بين الأطفال حديثي الولادة في مصر تقدر بثلاثة أطفال من كل ألف طفل، وتبلغ نسبة المواليد السنوية 3 ملايين طفل مما يعني أن هناك نحو 8 آلاف طفل يولدون سنويًا مصابون بضعف السمع.

الثمن الباهظ للصوت

 

الطفلة أروى- الصورة بإذن خاص للمنصة

رزقت لمياء السيد (32 سنة)، وهي أخصائية نفسية بإحدى مدارس الأقصر، بأروى (5 سنوات)، واكتشفت أن ابنتها التي لم تكمل شهرين من العمر بعد تعاني من تصبغات جلدية بيضاء وبنية اللون مع ضعف السمع، لكنها استطاعت أن تزرع لها قوقعة مع بلوغها سن الثالثة، لكن أروى التي ينتظرها مستقبل طويل مع العلاج التأهيلي، هي الإبنة الرابعة لأسرة تعيش على دخل شهري لا يتخطى الخمسة آلاف جنيه.

تتكلف عملية القوقعة الواحدة من 250 ألف لـ 300 ألف جنيه، علاوة على حاجة الشخص لبرمجة و أعمال صيانة للقوقعة بشكل منتظم، وهي عملية تبدأ من 300 لـ 1000 جنيه في المرة، بينما تصل تكاليف جلسات التخاطب والتأهيل في الحضانات المتخصصة إلى ثلاثة ألف جنيه شهريًا مما يفوق قدرة أي أسرة، بحسب أحمد ممدوح.

و يشير مؤسس مبادرة صوتك ونس إلى تكفل الدولة بإجراء عمليات زراعة القوقعة عن طريق التأمين الصحي، أو من خلال العلاج على نفقة الدولة الذي تتحمل فيه الجزء الأكبر من العبء، ولكن يحتاج الأطفال للسرعة في عمليات الزراعة لتحقيق القدرة السمعية بالتوازي مع الأطفال في أعمارهم، متابعًا "لكن يبقى العبء الأكبر على الأسرة في تحمل تكاليف الصيانة و الاستخدام و البرمجة بالإضافة لجلسات التأهيل و التخاطب و هو ما يفوق قدرة أى أسرة لارتفاع تكاليفها".

كان الدكتور محمد ضاحي، رئيس هيئة التأمين الصحي، أشار خلال اجتماع لجنة الشؤون الصحية بمجلس النواب في شهر مارس/ آذار الجاري، إلى أنه سيتم دراسة تحمل الهيئة تكاليف زراعة القوقعة، مضيفًا "تحملنا نحو 47 مليون جنيه خلال عام 2020 في عمليات زراعة القوقعة فيما تحملت الهيئة 50% من تكلفة الجزء الخارجي من القوقعة خلال عام 2020 أيضًا"، قائلًا إن "تحمل قطع الغيار قد يصل لنفس المبلغ لذا نحن بحاجة لدراسة الأمر.

وتؤكد علياء البدالي، باحثة ماجستير تربية خاصة جامعة دمياط ومديرة إحدى مراكز التخاطب، للمنصة أن زراعة القوقعة في سن صغيرة تترك أثرًا إيجابيًا على الطفل، لكن التأهيل التخاطبي والسمعي له تأثير كبير أيضًا، فالطفل قبل زراعة القوقعة ليس لديه أي مدخل سمعي، لكن التخاطب يلعب دورًا هامًا بعدها، حيث "نبدأ تدريبه على الانتباه السمعي ليستطيع الانتباه للأصوات الصادرة في محيطه فيستوعبها"، مؤكدة في تصريحات للمنصة أنه " كلما عملنا على التخاطب ترك ذلك أثر إيجابي لدى الطفل المصاب و ساعد على نجاح عملية زراعة القوقعة".

و تشير البدالي إلى استجابة أطفال الإعاقة السمعية في الجلسات بعد زراعة القوقعة بنسبة كبيرة ولكن تبقى المشكلة في رفض بعض الحالات التغيير، حيث يقوم الطفل بغلق السماعة أو نزعها فيصبح غير قادر على السمع ويحتاج لتأهيل نفسي إلى جانب التأهيل التخاطبي، وعن مستوى التحصيل الدراسي وعلاقته بضعف السمع، تلفت البدالي إلى أن "التأهيل يساعد الأطفال على امتلاك معدلات ذكاء طبيعية، لكن دونه يؤثر الجانب اللغوي على معدله".