لوحة للرسام الانطباعي إدجار ديجا

حين يذهب"ساراماجو" إلى السينما

منشور السبت 24 سبتمبر 2016

الحديث عن الأعمال الأدبية العظيمة على مرّ السنين سيجعلها غواية دائمة للسينمائيين. ربما يشاهد البعض فيلمًا محكم البناء، متكامل في قصته وحبكته، فيقول لا بد إنه قائم على رواية بالأصل، لكن متعة السرد الأدبي ووصف الأحداث والتفاصيل عادة ما تختصرها الأفلام في معالجتها للأعمال الروائية، وهو ما يطرح مشكلة اختلاف الوسيط وتباين تفاعل الجمهور مع المنتج النهائي لعملية المعالجة.

في الأفلام تأتي جماليات جديدة مع شريط الصوت والموسيقى والألوان والمونتاج، وكلّ ما تتيحه فسحة الخيال السينمائي.

ثمة نظرية تقول أن الراوية والسينما فنّان منفصلان، كل منهما له أسسه وأجواؤه وحيثياته وبنيته الفنية الخاصة به، لكن ثمة علاقة فنية بينهما؛ إذ أن الكلمات تتحوّل على يد السيناريست والمخرج إلى صور نابضة حية، ويتحول الفنّ المقروء إلى فنّ مرئي ومسموع على شكل لقطات سينمائية موحية ومؤثرة.

الرواية قد يقرؤها ألف قاريء، بينما الفيلم الذي يستند إلى نفس الرواية من الممكن أن يشاهده ملايين المشاهدين. كما أنه من الوارد ان يطرأ تغييرات عندما تتحوّل الرواية إلى مُنتَج سينمائي، وهذا يتوقف على رؤية المخرج وكاتب السيناريو ومن ورائهما المنتجين.

وعادة ما يعتمد اختيار النص بشكل كبير على رؤية الشركة المنتجة، لكن الأصح دائمًا أن يختار المخرج القصة الأقرب إلى قلبه، التي يشعر بها عن قرب، كي يستطيع أن يعيد صياغتها سينمائيًا بشكل متقن.

بالطبع ليست كل رواية ناجحة تصبح فيلمًا ناجحًا، فتحويل رواية جميلة إلى فيلم جميل تحدٍ غير بسيط بالنسبة لكاتب السيناريو، وكذلك للمخرج مع الوضع في الاعتبار اختلاف جماليات وأسباب قوة الرواية عنها في الفيلم، فالرواية تعتمد اللغة أساسًا في إنتاج جمالياتها، وما يستتبع ذلك من حوار وتداعٍ ذهني وتعمّق في الشخصيات من خلال المونولوج، أو حتى استدعاء التاريخ والأسطورة أو التحليل النفسي، أما الفيلم فيعتمد على أدوات مغايرة أساسها الصورة وما يستتبع ذلك من الصوت واللغة الجسدية والسيناريو.

 

ساراماجو

من بين أدباء كُثُر شقّت إبداعاتهم طريقها إلى شاشة السينما الكبيرة؛ كان للأديب البرتغالي الكبير جوزيه ساراماجو نصيب في هذا المجال بوجود ستة أفلام مقتبسة عن أعماله، آخرها سيظهر في عام 2019 القادم.

ساراماجو  هو الروائي البرتغالي الأبرز والحائز على جوائز أدبية عديدة أبرزها جائزة نوبل في للآداب في عام 1998، وهو ليس غريبًا على القاريء العربي؛ إذ قامت مجموعة متنوعة من المترجمين العرب بنقل أعماله الكاملة تقريبًا إلى العربية.

مؤلفاته، التي يمكن إعتبار بعضها أمثولات، تستعرض عادة أحداثًا تاريخية من وجهة نظر مختلفة تتمركز حول العنصر الإنساني، ووصفه الناقد الأمريكي البارز هارولد بلوم في 2002 بأنه " أعظم الروائيين الموجودين على قيد الحياة" معتبرًا إياه جزءًا هامًا ومؤثرا في تشكيل أساسيات الثقافة الغربية.

بدأ ساراماجو حياته صانعًا للأقفال ثم صحافيًا ومترجمًا قبل أن يكرس وقته كليًا للأدب.  أصدر روايته الأولى "أرض الخطيئة" عام 1947 وتوقف عن الكتابة ما يقرب العشرين عامًا، ليصدر عام 1966 ديوانًا شعريًا، ثم عاد لكتابة الرواية. له أكثر من عشرين كتابًا ويعتبره النقاد واحدًا من أهم الكتاب في البرتغال بفضل رواياته المتعددة الأصوات والتي تستعيد التاريخ البرتغالي بتهكّم دقيق قريب من الأسلوب الذي اعتمده الأديب الفرنسي فولتير. 

كان عضوًا في الحزب الشيوعي البرتغالي منذ عام 1959 وحتى آخر أيامه، نشط في في محاربة العولمة، كما كان من المشككين في الرواية الرسمية لأحداث 11 سبتمبر وداعمًا قويًا للقضية الفلسطينية، ولم يتردد في نقد ازدواجية الولايات المتحدة في التعامل مع مشكلات الشرق الأوسط. توفي في 18 يونيو/حزيران 2010 عن عمر يناهز 87 عامًا في بيته في جزر الكناري.

في السطور التالية نقدّم نظرة على فيلمي "عمى" Blindness للمخرج البرازيلي فرناندو ميراليس و"عدو" Enemy للمخرج الكندي دوني فيلانوف اللذين استندا على روايتي ساراماجو "العمى" و"القرين" على الترتيب، لنرى كيف اختلف الفيلمان عن أصليهما وإلى أي مدى نجحا في الحفاظ على مضمون وقيمة الروايتين.

 

العمى: احترس.. البشرية ترجع إلى الوراء

هناك بعض الروايات عصية على السينما بسبب خصوصية أسلوبها الذي ربما يعتمد على الذهنية المفرطة فتصبح قراءتها ممكنة دون مشاهدتها مجسّدة بأشخاص وأحداث. المخرج البرازيلي فرناندو ميرياليس Fernando Meirelles قرّر خوض تحدٍّ مع نفسه لتحويل واحدة من تلك الروايات إلى فيلم سينمائي حين وقع اختياره على رواية ساراماجو "العمى"، وهو الذي كان بنى شهرته العالمية على فيلم  "مدينة الله" (City of God) المأخوذ بدوره عن رواية بنفس الاسم للروائي البرازيلي بولو لينس.

صدرت الرواية بالبرتغالية عام 1995 وترجمت إلى الإنجليزية بعدها بعام، وبعدها بعام آخر عرض المخرج على الروائي مشروعًا لتحويل روايته إلى فيلم، الأمر الذي رفضه تمامًا ساراماجو لأن "تجسيد العمى سينمائيًا سيكون أمرًا سيئًا جدًا"، ولكن دخل على الخط كاتب السيناريو دون ماكيلار (Don McKellar) الذي عرض الفكرة مجددًا على صاحب رواية "عام وفاة ريكاردو ريس" وحاول إقناعه بأهمية أفلمة الرواية لتأخذ صدى عالميًا.

ويبدو أن الأمر كان أشبه بالمثل الشعبي المصري الذي يقول "الزن ع الودان أمرّ من السحر"، فقد وافق الأديب البرتغالي بعد مشاهدته أفلام ميراليس واقتنع بأن مثل هذا المخرج قادر على الخروج بفيلم جيد من روايته الصعبة، بالإضافة إلى أخذه وعد بأن إنتاج الفيلم سيكون خاليًا من أية مشاركة هوليوودية (اشترك في إنتاج الفيلم جهات من البرازيل واليابان وكندا وإنجلترا بميزانية بلغت 25 مليون دولار.)

أثناء قيادته للسيارة، يصاب رجل أسيوي  بالعمى (Yûsuke Iseya) يتوقف في الإشارة الضوئية الحمراء، تخضّر الإشارة ويتسبب توقفه في تعطيل الطريق المزدحم بالسيارات. يقوم رجل آخر بمساعدته وإيصاله إلى أحد العيادات الطبية ثم يقوم بسرقة السيارة! تتابع الأحداث المنفصلة إلى أن يصاب طبيب العيون (Mark Ruffalo) بهذه الحالة الغريبة من فقدان البصر.

تتالى الأيام والليالي وتتوالى الضحايا في هذه المدينة: فتاة ليل (Alice Braga) وطفل (Mitchell Nye) ولصّ (Don McKellar) وموظف (Joe Cobden)، حتى يطال المرض عددًا هائلاً من ساكني تلك المدينة، وتعلن السلطات عنه كوباء من الدرجة الأولي يستلزم الكثير من الأبحاث والدراسات لمعرفة ماهيته وأسبابه وعلاجه، وتخرج وزيرة الصحّة لتعلم المواطنين باتخاذ كافة الاحتياطات اللازمة للحد من انتشاره (لاحقًا ستصاب الوزيرة نفسها بالعمى).

 تحكي رواية ساراماجو عن وباء غريب ومفاجيء يحلّ على سكان مدينة مجهولة الاسم فيصيبهم جميعًا بالعمى الأبيض، أي أن ما يظهر أمامهم هو البياض بدل السواد، ينتج عن ذلك حالة من الفوضى والاضطراب والعنف والخوف، فيتمّ إدخالهم في الحجر الصحي للحدّ من إنتشار ذلك الوباء الغامض.

نكتشف أن هناك شخصًا واحدًا لم يصبه ذلك الوباء، إنها زوجة طبيب العيون (Julianne Moore)، التي لا تعلن عن نجاتها من الإصابة بالعمى لكي تظل بصحبة زوجها والتي ستصبح بمثابة نور يقود المصابين بالوباء. المدينة المجهولة تصبح مجازًا لمسيرة العميان التي تمشي على هديها البشرية وهو ما يحاول المخرج وكاتب السيناريو التعبير عنه في معرض تعليقهما على الفيلم من خلال إدراكهما للفارق بين فكرة ساراماجو، وبين كليشيهات أفلام الخيال العلمي الهوليوودية.

يقول ميراليس: "أنا لا أحاول شرح ما أحبّه في الرواية أو كيف سأحكيها. كل ما أستطيع قوله إنني سآخذها بعيدًا عبر رؤية تنقل العمل من الفضاء الروائي إلى السينمائي، من خلال التركيز على فكرة فقدان البشرية للبصيرة قبل البصر، وكيف أننا ما زلنا على قدر من الحيوانية المغطاة بقشرة الحضارة، والتي سرعان ما تسقط عنا، ويسقط معها المنجز الإنساني، وتحديدًا في إصرارنا على تخريب هذا الكوكب الذي يحملنا بصبر، وقد ضاق ذرعًا بنا".

 

تبدو الرواية ملتبسة في زمانها، فهي من جهة تبدو معاصرة، ومن جهة أخرى تبدو دون زمن محدد. يحطم كاتبها القواعد الذهنية المتعارف عليها في الكتابة الأدبية منذ كتاب أرسطو طاليس "فنّ الشعر"، وهي التي تدور حول تحديد الزمان والمكان وتوصيف الشخصيات، ولكن ساراماجو لم يبال بكل هذا، بل وأكمل عادته الصعبة في إغراق روايته بالجمل الطويلة الخالية من علامات الترقيم والتي يتداخل فيها السرد مع الحوار.

صنّاع الفيلم لم يردوا أن يدخلوا أنفسهم في متاهة تفسير كلّ شيء لأن هناك أشياء كثيرة للغاية تقولها الرواية، وحاولوا ترك الأمور معلّقة ليصل إليها المشاهد. ما يريدون قوله، ولكنه يأتي بشكل تعليمي بعض الشيء، هو أن الحضارة الحديثة بكل ما توصّلت إليه تبقى هشّة وضعيفة وعاجزة عن بناء إنسان كامل يصمد في وجه المصائب الطبيعية والكوارث التي يتسبب بأفعاله في حدوثها المدمّر، كالحروب والمجاعات والأمراض المستجدة.

ومن ثمّ تتهاوى كل قيم التحضّر التي يتباهى بها الإنسان المعاصر ليرتدّ إلى كائن برّي متوحّش لا يحكمه شيء سوى غريزة البقاء. يريدون قول إننا نسينا إنسانيتنا وأنه لا فرق بين من يرى بعينيه ومَنْ لا يرى بهما، بل يمكن أن يكون فاقد البصر أكثر رحمة ووعيًا بالانسانية، وهذا بالضبط ما تمثّله شخصية الممثل داني جلوفر  (Danny Glover) والذي ستنشأ قصة حب رقيقة بينه وبين فتاة الليل التي ستعتني به (وهي عمياء)، من دون النظر لفارق العمر ولون البشرة بينهما.

وبينما تتركز الشخصيات الأساسية في ثلاثة رجال وثلاث نساء وطفل وكلب، يتحوّل مستشفى المجانين الى مصحّة مزدحمة بالعميان الى جانب محجر للمشتبه بهم.

وفيما تتكدس المجموعات البشرية الهائمة الباحثة عن طعام الرعاية، يطلق الجنود النار على المجموعات الهائجة في المصحّة قبل أن تفقد السلطة سيطرتها على تفشي الوباء الذي أصبح شاملًا ومصحوبًا بالمزيد من العنف.

وحتى في ظل وضع خانق وكابوسي مثل هذا سنجد صراعات وأحزاب تقوم بين الموجودين من المصابين: أحد المصابين (Gael García Bernal) يترأس مجموعة عصابية تضع قوانين قاسية على العميان الآخرين ويبتزهم بأوامره للحصول على المال والمتعة مقابل الطعام، وفي واحد من أشد الكوابيس البشرية التي يعرضها الفيلم، تأتي مجموعة من رجال العصابة مدعومين بذكوريتهم وأسلحتهم التي تتنوع بين خناجر ومسدسات وعصي، يأتون لطلب النساء لمضاجعتهن أمام أزواجهن في مقابل الحصول على الطعام والشراب، يتم عقد صفقة الاغتصاب بالتراضي بين العصابة وبين المحرومين من الأكل والشرب لعدة أيام.

 

التنفيذ والاستقبال

اختار  المخرج التصوير في مدينة "ساو باولو" البرازيلية لإظهار الازدحام البشري الذي يرمز للوفرة المكدّسة.

بينما صور مشاهد محددة في أونتاريو بكندا ومونتفيديو عاصمة الأورجواي، واستعان بأكثر من 700 ممثل ثانوي (كومبارس) في محاولة لرسم صورة مُصغّرة للبشرية، واضطر ميراليس إلى تدريب كادر كامل من الممثلين على تقمّص دور العميان لساعات طويلة حتى لا يقوم أي ممثل بالنظر سهوًا نحو الممثلين الآخرين ولو لثانية واحدة. لذا استخدم عدسات لاصقة شفافة تمنع الممثل من النظر تمامًا، وبهذه التقنية المؤلمة تمكّن المخرج من السيطرة على الممثلين بعد تدريبات مضنية استمرت لأسابيع.

كذلك لجأ المخرج إلى أسلوب الكاميرا الذاتية، إذ تتولّى الكاميرا نقل العالم الذي أمامنا كما تراه الشخصية، بدلًا من الكاميرا الموضوعية التي تنقل المشهد من وجهة نظر المخرج. وربما أراد ميراليس من خلال تلك التقنية الوفاء لرؤية ساراماجو الذي يختم روايته بقوله: "لا أعتقد أننا أصبنا بالعمى، بل نحن عميان من البداية. حتى لو كنا نرى، لم نكن حقًا نرى"، لنكون أمام احتمال "البشرية في عمائها" والذي لا يختلف كثيرًا عن البشرية وهي مبصرة.

ولعل ذلك هو محور قوة الرواية، وليس الفيلم، أن الصراع هنا لا يكون مع قوة شريرة بقدر ما يكون صراعًا بين البشر أنفسهم للتكيّف مع حياتهم في أطوارها المختلفة. يصبح عزل البشر في الحجر الصحي بسبب الكارثة الصحية الطارئة مفتاحًا للكشف عن عودة الإنسانية إلى بدائيتها فيظهر التسلّط والتقسيم والرغبة في السيطرة والصراع على البقاء وهيمنة الأقوى كما لو كانت الحياة تدور في اتجاه معاكس لدورة الحضارة.

 من تابع الصخب المحيط بأخبار الفيلم منذ عرضه للمرة الأولى في افتتاح مهرجان كان السينمائي في العام 2008 هيّأ نفسه لاستقبال ما يشبه الفتح السينمائي الذي سيعيد تشكيل العلاقة بين الأدب والسينما، لكن خيبة الأمل لدى النقاد والجمهور كانت حاضرة ودعمتها أيضًا الإيرادات الهزيلة التي حقّقها الفيلم في شبّاك التذاكر (لننس تلك الحفنة من الجوائز التي حصل عليها).

وبدا واضحًا أن فرادة النص الأدبي ورموزه وبلاغته اللغوية لم تجد لها مكانًا كافيًا في مشروع ميراليس وماكيلار. جاء الفيلم بمثابة بحث صعب وغير موفق للوقوف على الخط الفاصل بين الخيال العلمي الهوليوودي الذي كان يتخوّف ساراماجو أن تتحوّل إليه روايته حين تذهب إلى السينما، وبين الخيال العامر بالمجازات كما ظهر في الرواية.

جاء فاقدًا القدرة على اقناع المتفرج وقاريء الرواية، عاجزًا عن الوصول إلى إجابات عديدة على المستويين الفلسفي والجمالي بدت الرواية قادرة على إيجادها. و قد ساهم ذلك الفشل في تأجيل مشروع لإنتاج فيلم لاحق، مقتبس عن رواية ثانية لساراماجو، كان أصدرها بعد "العمى" ليروي فيها ما يحدث للناس أنفسهم والمدينة بعد الوباء الأول بثلاث سنوات. كما أثار الفيلم بعد صدوره العالمي انتقادات مارك مورار، رئيس اتحاد العميان في أمريكا، إذ أصدر بيانًا قال فيه "إن الفيلم يصوّر العميان كوحوش، وأنا مؤمن بأن الفيلم مجرد كذبة".

هذه التجربة الباهتة لتحويل الرواية الأيقونية إلى فيلم سينمائي ربما تكون ساهمت بشكل مباشر في تجنب السينمائيين لأعمال ساراماجو، ولكن واحدًا منهم، لديه بعض الموهبة والنشاط، قرر بعد خمس سنوات تجربة حظه والشروع في تحويل رواية أخرى لا تقل شهرة عن "العمى" إلى الشاشة.

 

"عدو": لن تستطيع الهرب من نفسك

غالبا ما تتأسس أعمال ساراماجو على افتراض واقعة غريبة متخيّلة: في "الطوف الحجري" يفترض انفصال شبه الجزيرة الإيبيرية عن باقي أوروبا، في "انقطاعات الموت" يأتي ببلد يغيب عنه الموت فيطول احتضار البشر، في "العمى" يفترض بلدًا يصاب جميع ساكنيه بالعمى، في "القرين" لا يختلف الوضع كثيرا، فنجد أستاذًا للتاريخ يكتشف وجود شبيهه في أحد الأفلام المغمورة.

المخرج الكيبيكي دوني فيلانوف (Denis Villeneuve) من جانبه عمل في مسيرته السينمائية على التنقيب في تفاصيل النفس البشرية ودواخلها، وربما المثال الأبرز على ذلك هو فيلمه "سجناء" (Prisoners) أول أفلامه الناطقة بالإنجليزية.

(في الحقيقة فقد تم إنجاز فيلم "عدو" قبل فيلم "سجناء" ولكن الأخير هو الذي نزل إلى صالات السينما أولًا للعرض التجاري). في "سجناء" ينسج المخرج "بازل" مأساويًا غامضًا تتداخل فيه ثيمات الخلاص البشري بالمعضلة الأخلاقية وهاجس النسل وتعدّد الفرد في أجساد الآخرين. في "عدو" تعاود ثيمة التعدد الظهور، ولكن من خلال التواجد في أكثر من مكان بنفس الجسد.

بطل الفيلم الممثل الأمريكي جاك جلينهال (Jake Gyllenhaal) - في تعاونه الثاني مع المخرج - ويؤدي دورين: آدم بيل، مدرّس تاريخ بإحدى المدارس الثانوية في تورنتو، وأنتوني كلير، ممثّل ثانوي يقوم بأدوار صغيرة في أفلام مغمورة. يبدأ الفيلم بحديث عن الديكتاتورية وهوسها بالتحكم في كلّ شيء، والفوضي وما يمكن أن تجلبه إلى حياة الإنسان. "الفوضي ترتيب ينتظر مَنْ يفك شفرته" يخبرنا الفيلم في بدايته ليؤسس حكايته التي تأخذ المشاهد في لعبتها الدرامية بإدخال الرموز وترك الأمور دون تفسير واضح. يتحدّى هذا المفتتح الغامض مُشاهد الفيلم كي يعثر على مفتاح للدخول في أجوائه، قبل أن يقع في فتنته.

الهوية والشخصية وما بينهما

أصبحت مواجهة توأمين غريبين فكرة مألوفة في السينما بفضل أفلام مثل "Dead Ringers" للكندي ديفيد كروننبرج و"The Double Life of Veronique" للبولندي كريستوف كيسلوفسكي و"The Parent Trap" للأمريكية نانسي مايرز وصولًا إلى فيلم "The Double" للإنجليزي ريتشارد آيوادي المقتبس بدوره عن رواية "القرين" للأديب الروسي فيودور دوستويفسكي.

تلك الأفلام بطروحاتها الغامضة والمفتوحة عن الهوية والشخصية والبحث عن الفرادة في المجتمع الحديث الذي يعجّ بالكيانات "الافتراضية" وأزمات الخصوصية والتحقّق، تحاول البحث عن إجابات من دون الوعد بتقديمها قبل نزول تيتراتها الختامية.

الأمر نفسه موجود في الأدب منذ زمن بعيد على سبيل المثال: رواية أوسكار وايلد "صورة دوريان جراي"، ورواية "دكتور جيكل ومستر هايد" لروبرت لويس ستيفنسون. يقول المخرج دوني فيلانوف: "هناك شيئ بخصوص تلك الأفلام، بعض الأفلام التي تقدّم فردًا واحدًا بشخصيتين تتكلّم عن فئة بعينها، ربما تربطها بمرض نفسي ما. هذا الموضوع تم استكشافه كثيرًا في الروايات."

"لقد كان هيجل هو من قال إن جميع الأحداث العالمية الكبرى تحدث مرتين، ثم أضاف كارل ماركس أن المرة الأولى تكون تراجيديا والمرة الثانية تكون ملهاة". هكذا يقول أستاذ التاريخ في إحدى محاضراته في الفيلم، مقدمّا إشارة خفية عن حياته التي ستأخذ طريقًا مشابهًا.

ترتوليانو ماكسيمو، بطل الرواية في رواية ساراماجو، يتحوّل في فيلم فيلانوف إلى آدم بيل، مدرس تاريخ انطوائي وملول، بعد إنفصاله عن زوجته يدخل في علاقة مضطربة مع صديقته ماري (الممثلة الفرنسية ميلاني لورون Mélanie Laurent) (لا ترد سوى إشارة عابرة في الفيلم عن تاريخ آدم السابق). ملل أستاذ التاريخ يكسره زميل له في المدرسة، مدرّس رياضيات ينصحه باستئجار أفلام كوميدية للتخفيف من رتابة أيامه، ويوصيه بفيلم معين إسمه "من يبحث يجد".

وبالفعل يجد ترتوليانو نفسه أمام شبيهه على الشاشة، بشكله وصوته وحركات وجهه. في "عدو" سيتغيّر إسم الفيلم الكوميدي إلى "حيث توجد إرادة، يوجد طريق". يشاهده أستاذ التاريخ الفيلم ثم يخلد إلى النوم ويحلم بأحد مشاهده التي تذكّرنا بأحد مشاهد الفيلم الأيقوني " Last Year at Marienbad".

يقوم آدم مفزوعًا من نومه ويعيد تشغيل الفيلم ليكتشف صورة طبق الأصل منه تظهر على الشاشة. يبحث على جوجل حتى يحصل على أي من الممثلين الثانويين يحمل اسم ذلك الشخص الذي يطابقه.

 

تبدأ الأمور في التصاعد ونتابع هوسًا متناميًا من جانب أستاذ التاريخ للوصول إلى توأمه المجهول. في الرواية، تأخذ تلك الفترة منحى بوليسيًا يمتليء بالأسرار والألغاز والمغامرات المتخيّلة، وهو ما يتحوّل في الفيلم إلى أحلام غامضة وغير مفهومة وإشارات من صنّاع الفيلم تلمّح ولا تصرّح. "هذا الوضع فريد من نوعه.

لا يوجد سابقة مماثلة يمكن القياس عليها لتحديد معايير السلوك المقبول اجتماعيًا في وضع كهذا"، يقول ترتوليانو في الرواية،  وبأساليب صعبة ومعقّدة يصل إلى شبيهه، دانييل سانتا كلارا. يراسله، يبحث في دليل الهاتف، يتحايل، يبتكر حتى يهاتفه ليأتيه صوت شبيهه من الجانب الآخر لسمّاعة الهاتف. يخبره باكتشافه ويطلب منه اللقاء بدافع الفضول.

في الفيلم، سيتصل آدم بهاتف الممثّل فتردّ عليه زوجته (Sarah Gadon)، وهو ما يتسبب في ارتباك لدى الجانبين حيث تتعرّف الزوجة في صوته على صوت زوجها. الإرتباك سيتحوّل إلى اضطراب وأسئلة حين ينفي آدم أنه زوجها. بعد أيام، يعاود الاتصال فيردّ عليه الممثّل، الذي يهدّده ويطلب منه عدم الاتصال مجدّدا. ولكن آدم –مدفوعًا بهوسه الجديد- يصرّ على لقاءه.

يلتقي الشبيهان وسط دهشة أولية ستتعاظم حين يكتشف الإثنان تطابقهما في كل شيء تقريبًا: الشكل، والصوت، وتاريخ الميلاد، والندوب،حتى أن كليهما اختارا امرأة شقراء بملامح ناعمة لتكون شريكته. ولكن ماذا عن الداخل: الرغبات والانحيازات؟ هل يتسع العالم لمثل هذين الشخصين؟

 يشير ساراماجو في الرواية إلى أن على أحد "الشبيهين" التلاشي، حتى يتم احترام نظام الكون. ينصرف آدم مفزوعًا ومؤنّبًا نفسه على التوّرط فيما يبدو أنها قصة ليست ذات نهاية سعيدة، ولكن أنتوني ينتقل إليه هوس شبيهه فيبدأ في البحث عن عنوانه، يراقب صديقته ويتتبّعها وتنمو بداخله فكرة شيطانية. في الرواية، تتوالي مع اكتشافات الحكاية أسئلة وجودية مؤرّقة يلقيها ساراماجو في وجه القاريء قبل التقاء الشبيهين، يفرد صفحات عديدة لألعابه السردية المعتادة والإبحار في خبايا شخصياته مستطلعًا أحلامها وهواجسها، يأخذ أستاذ التاريخ عتبةً للحديث عن التاريخ وطريقة تدريسه في المدارس، يُدخله (أستاذ التاريخ) في مونولوج مع ذاته كي يجد حلًا لمأساته الطارئة.

يتقاطع مسار الشبيهيين وتتداخل حياتهما بطريقة غريبة. كلّ منهما يجد ما يجذبه في شريكة الآخر. تتعقّد القصّة من الناحية النفسية حتى تبدو وكأنها حكاية خيالية، ولكن المخرج بمؤثراته الصوتية والمونتاجية يحافظ على تثبيت الحكاية في أرض الواقع.

تعيد الرواية إلى الأذهان الأسطورة الإغريقية "نرسيس" الذي أحبّ صورته على صفحة الماء حتى غرق فيه: بطل الرواية/الفيلم يجد صورته على الشاشة ثم يبحث عنها على أرض الواقع حتى يجدها، لتبدأ أرض يقينه في الاهتزاز تحت قدميه. الرواية/الفيلم يقدّم اللغز ويوّرط المشاهد/القاريء في حلّ شفراته حتى يصل إلى الصفحة الأخيرة/المشهد الأخير ليفاجأ بالكثير من الأسئلة المعلّقة. في الفيلم يختتم فيلانوف حكايته بمشهد مرعب لعنكبوت ضخم يذكّرنا بافتتاحية رواية "المسخ" لفرانز كافكا حين يصحو بطل الرواية، جريجوري سامسا، ليجد نفسه وقد تحوّل إلى حشرة.

 

رؤية

التقى المخرج بالممثل جاك جلينهال للمرة الأولى في "عدو" بعد أن أرسل إليه سيناريو الفيلم "الذي كان معقّدًا بدرجة كبيرة" مصحوبًا برسالة منه أشبه ببيان كي يحثّه على قبول الدور.

وتعاون فيلانوف مع كاتب السيناريو خافيير جويون (Javier Gullón) الذي أدخل تغييرات عدة على بنية الحكاية نفسها: زوجة، ونادٍ جنسي غامض، وعنكبوت يظهر في أكثر من موضع في الفيلم. العنكبوت العملاق يمكن اعتباره رمزًا للعدو الخفي المتربص بالفرد لإحداث الفوضى في حياته أو ربما هو الخوف من الأم المتسلّطة (Isabella Rossellini).

يقول فيلانوف: "أنا أخاف العناكب، وهي تعني لي شيئا محدّدا. بالنسبة لتفسير ما تمثّله في الفيلم فإنه أمر متروك للمشاهد لضمان استمرارية اللغز". وفي محاولته لإضفاء لمسة مغايرة عن عمل ساراماجو، فعل مثلما فيرناندو ميراليس في فيلمه فانتقل بمكان الحكاية إلى تورنتو المعاصرة بدلاً من المدينة غير المسمّاة في رواية ساراماجو والفترة الزمنية التي تدور فيها الرواية (الثمانينيات قبل سقوط الاتحاد السوفييتي وتغيُّر التاريخ). في الفيلم، تظهر تورنتو مغلّفة بأجواء ضبابية كأنها حبيسة شبكة عنكبوتية غير مرئية.

يقول فيلانوف: "أتمنى أن تشبه تلك التجربة تجربتي مع مشاهدة فيلم ستانلي كوبريك "2001: A Space Odyssey" للمرة الأولى. أن تغادر صالة السينما وأنت مستثار من فكرة أن كلّ ما شاهدته قد يكون خاطئًا في النهاية.

لا أريد أن يشعر الجمهور بالتوتر أو الخوف تجاه الغامض من الأشياء ولكن بالحماسة والإثارة". جلينهال من جانبه صرّح بأن الفرق بين الشخصيتين كان "شبيهًا بالفرق بين شخص يذهب إلى حفل عشاء ثم يذهب إلى منزله. أعتبرهما شخص واحد ولكن فيلانوف يعتبرهما شخصين متناقضين"، غير أنه أكد أنه "إذا نجح الفيلم، فأعتقد أنه سينتاب المشاهد المشاعر التي تأتينا بعد الاستيقاظ من حلم ما.

هناك أمور لا نفهمها ولكننا نعلم بوجودها. هذا الشعور مهم وسيدرك المشاهدون أهميته بطريقة ما بعد مشاهدتهم للفيلم".

 

إنها التفاصيل الصغيرة هي ما تجعل "عدو" فيلمًا مميزًا: الإضاءة تجعل زوجة أنتونى (Sarah Gadon) في بياضها (هل تكون جوليان مور الجديدة؟) أشبه بملاك قادم من خارج كوكب الأرض. المتسلسلة الحلمية الأولى التي تدور في ذلك النادي الجنسي الارستقراطي، والتي تمكّنت في ثلاث دقائق من القيام بما فعله ستانلي كوبريك في فيلمه "Eyes Wide Shut" بميزانية تفوق ميزانية هذا الفيلم عشرات المرّات وفي مدة تزيد عن العشرين دقيقة.

ومثلما تألّق التوقيت والمزامنة في فيلمه السابق "سجناء"، عاود فيلانوف الكَرّة في "عدو" مضيفًا إليها مزاج ديستوبي ما بعد كروننبرجي (نسبة إلى مواطنه ديفيد كروننبرج)، مقدّمًا عملًا متماسكًا -ربما نال بعض الثناء من ساراماجو لو كان على قيد الحياة- قارب فيه ثيمات عدة: المخاوف الذكورية والهوس الذاتي والرغبة في التسلّط، يساعده في ذلك أداء بارع من جاك جلينهال وموسيقى حافظت على التوتر من داني بينسي وساوندر جوريانز وكاميرا ذكية لنيكولاس بولدوك، الأمر الذي يجعله ناجحًا نسبيًا في اختبار  بث الروح السينمائية في رواية ساراماجو  الصعبة.