محمد خان.. ومن لا يعرف الحريف؟

منشور الأربعاء 8 نوفمبر 2017

هل تتذكر صوت أنفاس فارس التي تسبق ظهوره فى الكادر؟ هل تتذكر حركة الكاميرا على فم الضابط، وهو يأكل الستيك هو وزوجته؟ هل تتذكر محطة حلوان، التي كان شمس يواجه فيها صراعاته؟ هل تتذكر هند؟ هل تتذكر كاميليا؟ هل تتذكر الكاميرا، التى تجعل المكان بطلا للفيلم، وتجعل المخرج جديرا أن يُنسب له العمل، لا للبطل؟ هل تعلم الآن عن من أتكلم؟ عن رائد السينما الواقعية، محمد خان.

كثيرًا ما كنت أرى هذا اللقب، ولكنّي لم أكن أفهمه بشكل كبير. ولكن عندما كبرت فى السن قليلًا، وأصبحت مُلمَّا أكثر بمفاهيم السينما، وعند مشاهدتى لفيلم "الحريف" خصوصًا، و"زوجة رجل مهم"، أصبحت أعرف معنى ذلك.

"الحريف!" من لا يعرف "الحريف"؟ فهو الفيلم الذى يقوم ببطولته واحد من أشهر وأهم نجوم السينما المصرية، سواء أحببته أم لا، ولكننا لا نختلف على موهبته، وعلى قدراته التمثيلية. كنت أرى أفراد أسرتي يشاهدون ذلك الفيلم بنوع من الفتور، وحتى حينما يصادفونه على إحدى القنوات الفضائية، يمرون عليه مرور الكرام. وقال لى أحد أقاربى فى مرة، "الحريف ده مش من اﻷفلام اللى بحبها لعادل امام".

شاهدت الفيلم بمفردي بعدها. حينها، سحرنى كل شيء: الموسيقى، وصوت أحمد زكي فى البداية. أُعجبت بالحكايات الثانوية، عن كابتن مورو، وعن نجاح الموجى. من منا لم يشعر بالحزن، عندما بكى نجاح الموجى، عندما دفع السيارة؟ من منا لم يرى القاهرة بعين أخرى، ولم يعرف أكثر عن عالم كرة الشوارع؟ من منا لم يشعر بأنه هو البطل، هو من يكتشف، هو من يلاحظ، وليس عادل امام؟

- أمي ماتت يابا!

- كلنا هنموت. معاك سيجارة؟

يسحب فارس سيجارةً ويعطيها لوالده، الذى يلتقطها ويشرب منها، ثم ينفث الدخان في أسً، ثم يتابع الكلام مع فارس عن ضائقته المادية. يُخرج فارس عدة جنيهات من جيبه، على الرغم من أنها كل مايملك! مشهد فارس بعدها، تحت لوحة الإعلانات الضخمة، التي تضاء بالأضواء الزاهية، متجاهلةً حزنه، يُظهره صغيرًا، بعد معرفته بوفاة والدته. كأن الكاميرا تخبرك، أن مشكلته صغيرة مقارنة بالآخرين. أنفاس فارس المتقطعة، التى يتنفسها أثناء لعبه، ليست تعبًا من الركض، إنما تعب من كل شى فى حياته. كلمات فارس قليلة، تعبيراته جامدة، بدون أحاسيس، لا تجعلك تتأثر به، على الرغم من فرحتك بكل هدف يسجله.

الجدير بالذكر ان الفيلم بدون موسيقى تصويرية. إنما تزينه مقطوعة "الشوارع حواديت"، لهاني شنودة، في عدة مشاهد، كعامل مساعد، مع الراديو، الذي استخدم أيضًا للتعبير عن كل تلك الحقبة، بما فيها من مشاكل وهموم، وحتى اهتمامات.

هل لاحظت كم مرة ذكرت اسم عادل امام، فى حوار أو مواجهة للتعبير عن شيء؟  الاجابة: لايوجد. كل شيء قامت به الكاميرا. الكادر كان البطل، كحركة الكاميرا التي يقوم بها. هى كانت البطل.  تلك التي يوجهها المخرج، الذي ظل على نفس المنوال فى افلامه الأخرى، مثل "ضربة شمس".

مشاهد القاهرة، وخصوصًا محطة المترو. مشاهد ركوب شمس الموتوسيكل، وتجواله فى الشوارع. كلها كانت عوامل مساعدة أدت إلى ترسيخ شيء ما في أسلوبه الثائر، في كل أفلامه: "خرج ولم يعد" ، "يوم حار جدًا"، "فارس المدينة"، "في شقة مصر الجديدة"، "موعد على العشاء"، "فتاة المصنع"، و"زوجة رجل مهم"، ذلك الفيلم الذي يُعتبر تفجرًا لأسلوبه، وأيقونة لترسيخ مدرسته في عالم الإخراج، ذلك الفيلم الذي ركز فيه على علاقة السياسة بالسلطة، على علاقة الفتيات بعبد الحليم، على استغلال النفوذ، على مشاكل تلك الفترة بشكل كبير. وساعده في هذا دور أحمد زكى المتقن، ودور ميرفت امين أيضًا.

ظل محمد خان مخلصًا لأفكاره وأسلوبه، يعبر عنها بوضوح، مهما كان ما سيقوم بإخراجه. والحقيقة أنه لم يرضخ لمنتج، وإنما كانت تتراكم عليه الديون، لينتج فيلمًا يعبر عنه بشكل كامل، على أن يتركه لمنتج يهمه الربح في المقام الأول، ولا يهمه تدمير العمل. وحتى عندما رضخ أحيانًا، كما في فيلم "مستر كاراتيه"، الذى يعتبر بمقاييس ماقدمه من قبله، فيلمًا تجاريًا، ولكنه لم يكن فيلمًا مسفًا، أو مبالغًا فيه. بل كان محافظًا على سمات خان، الذى رسخ في كل أعماله ﻷسلوب ورؤية خاصة، وهو ما أدى إلى صدقها، سواء أحببتها وفهمت ما تحمله من رسائل، أم لا.

فى 26 يوليو/تموز 2016، رحل عنا محمد خان مخلفًا شعورًا غريبًا من الحزن والفرح. حزن لأننا لن نرى اسمه على فيلم مرة أخرى، وفرح لأننا سنشاهد أعماله ثانية، لنحكى عنها لمن لم يراه، ولم يشاهد أفلامه. شعور مختلط، كاختلاط شعورك عند تسجيل فارس لهدفه الأخير.

فرحت بتسجيل الهدف، ولكنك حزنت، لأنه الاخير، ولأن "زمن اللعب راح"، حقا. مهما حزنت، وحزن على فراقه كثيرون، سيظل حاضرًا بأعماله. سيظل الحريف حريفًا، فليس هو من "خرج ولم يعد"، إنما ذهب مع "فارس المدينة"، مصطحبا "زوجة رجل مهمة"، إلى "موعد على العشاء"، فى نهاية "يوم حار جدا"، أصيبت فيه "فتاة المصنع"، "بضربة شمس"، ولكنهما ذهبا في النهاية إلى "شقة مصر الجديدة"، ليشاهدا معا "أحلام هند وكاميليا"، التي تشبه أحلامهما وأحلامنا جميعًا فى الحياة.