الموقع الرسمي لمحكمة النقض
دار القضاء العالي

فلسفة جديدة للقوانين المصرية: المتهم "مُدان" حتى تثبُت إدانته

منشور الثلاثاء 13 مارس 2018

 

ينتظر أن تُقر اللجنة التشريعية بمجلس النواب أكبر مشروع تعديلات في تاريخ قانون الإجراءات الجنائية منذ وضعه عام 1950. وهو المشروع الثاني الذي تتقدم به الحكومة للتعديل على نفس القانون خلال أقل من عام. فسبق وأن أقر البرلمان تعديلات عدة في قانون الإجراءات الجنائية في أبريل/ نيسان 2017. لتصدر التعديلات تحت اسم القانون رقم 11 لسنة 2017. 

ومن أبرز التعديلات التي أقرها البرلمان وقتها؛ إعطاء صلاحية للسلطة التقديرية لقاضي محكمة الجنايات في التخلِّي عن سماع الشهود، مع تسبيب ذلك في الحكم. وكذلك جواز حضور محام بتوكيل، بديلاً عن حضور المتهم بشخصه للمحاكمة، وصلاحية محكمة النقض في التصدي للموضوع عند الطعن بالنقض من المرة الأولى. دون الحاجة لإعادة القضية إلى دوائر الجنايات مرة أخرى.

كانت تلك التعديلات مجرد بداية لتغييرات كبيرة في مواد قانون الإجراءات الجنائية. وتتجه فلسفة التعديلات الجديدة نحو الانتقاص من حقوق وضمانات المحاكمة العادلة، كما تنتقص من حق المجتمع وحق المتهم في تقصِّي الحقيقة من كافة أطراف الدعوى، وفي القلب منهم شهودها.

منذ إقرار دستور 2013 (بدأ العمل به رسميًا عقب الاستفتاء في 2014)، ونحن أمام استحقاقات دستورية في الحقوق والحريات. ولكن في خِضَم جهود مواجهة الإرهاب وموجة الخوف العام المترتبة عليه، تعالت الأصوات المنادية بقوانين استثنائية، لم تتوقف عند القوانين المنصوص عليها دستوريا كـ"إعلان حالة الطوارىء"، ولكن توسعت لتشمل تحركات حقيقية تعطِّل ضمانات الحقوق الشخصية للمواطنين، واللجوء للتحايل على مواد الدستور، وأحدث هذه التحركات؛ مشروع تعديلات قانون الإجراءات الجنائية مثار النقاش الآن باللجنة التشريعية بمجلس النواب.

أي إرهاب؟

رغم أن البرلمان نفسه أصدر تشريعات عدة قبل إقدامه على تعديل قانون الإجراءات الجنائية، حوت موادها ما هو كفيل بمواجهة الإرهاب، بدءًا بنصوص قانون العقوبات؛ إلا أن هذا لم يكن كافيًا للحكومة التي تتوسع بمساعدة البرلمان في تعديل البنية التشريعية الجنائية، ما انعكس على حقوق المواطنين العاديين أطراف عملية التقاضي.

ظهر هذا في مشروع التعديلات الأخيرة لقانون الإجراءات الجنائية الذي قدمته الحكومة والبرلمان للرأي العام تحت شعار "العدالة الناجزة" للقدرة على مواجهة الإرهاب.

وباستعراض بعض قوانين البنية التشريعية الجنائية التي سبقت مشروع القانون الجارية مناقشته لتعديل "الإجراءات الجنائية"، نجد أنها شملت توسعة ولاية المحاكم العسكرية لتشمل مدنيين، بالإضافة إلى إعلان حالة الطوارئ. كانت البداية في عام 2014 بإصدار قرار بقانون 136 لسنة 2014 بشأن تأمين وحماية المنشآت العامة والحيوية، الذي سمح في مادته الثانية بمحاكمة أي متهم بالاعتداء على المنشآت والمرافق والممتلكات العامة أمام القضاء العسكري.

مثّل هذا القانون بداية للتحايل على نص المادة 204 من الدستور التي تنص على أن "يختص القضاء العسكري دون غيره بالفصل في كافة الجرائم المتعلقة بالقوات المسلحة وضباطها وأفرادها ومن في حكمهم،. ويسري هذا الحكم على أي اعتداء أو الشروع فيه على الكمائن المشتركة المُشكَّلة من أفراد القوات المسلحة والشرطة المصرية".

صدر هذا القرار مُقيدًا بقيد زمني يحد تطبيقه بعامين اثنين. إلا أن رئيس الجمهورية جدد العمل به لخمس سنوات إضافية بدأت في 2016، وذلك رغم اعتراض أعضاء جبهة الحقوق والحريات - وأنا عضو فيها- على هذا القرار أمام لجنة حقوق الإنسان بالبرلمان في الجلسة المخصصة لمناقشة مد العمل بالقانون، والتي عقدت في  يونيو/ حزيران  2016. حينها؛ دافع مساعد وزير الداخلية للشؤون القانونية-وقتها- اللواء عادل حسن عن موقف الحكومة، قائلاً إن المحاكمات العسكرية للمدنيين إجراء استثنائي، وأنها ستتوقف في أكتوبر/ تشرين أول 2016 وفقا للقانون الذي تم وضعه في 2014 بسبب الظروف الخاصة التي تمر بها البلاد. لكن القانون تجدد بكل مواده بما فيها المحاكمة العسكرية للمدنيين بعد شهرين اثنين من هذا التعهد.

ورغم ذلك لم تكن تلك القوانين كافية، فصدرت عدة قرارات بتخصيص دوائر للإرهاب، تميزت بطابع استثنائي في انعقادها بأماكن شُرطية خاضعة لسيادة وإدارة وزارة الداخلية. وضمت تلك المحاكمات قضايا تظاهر لا تُدخل في نطاق جرائم "الإرهاب"، مثل قضية أحداث مجلس الشورى.

تكليفات رئاسية 

بعد أيام قليلة من تسلُّمِه مهام منصبه رسميًا كرئيس للجمهورية، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي قرارًا جمهوريًا في يونيو 2014، بإنشاء اللجنة العليا للإصلاح التشريعي، وكُلَّفَت اللجنة بالعمل على "تعديلات قانون الإجراءات الجنائية"، وأُعلن أن مشروع التعديلات يستهدف الالتزام بالاستحقاقات الدستورية. ومع ذلك لم يكن هناك إفصاح عن عمل اللجنة وما وضعته من اقتراحات. وظل العمل مستمرًا حتى جاءت حادثة اغتيال النائب العام الأسبق المستشار هشام بركات.

قفص الاتهام في معهد أمناء الشرطة

باغتيال بركات صبيحة يوم 29 يونيو 2015، بدأت مرحلة جديدة وبدأ معها خطاب جديد. لم يعد الحديث عن تعديل البنية التشريعية لإجراءات التقاضي والعقوبات باعتباره سبيلاً لتحقيق الضمانات الدستورية في الحقوق والعدالة؛ بل صارت التعديلات بغية "تحقيق العدالة التي تغلها بعض القوانين" بحسب تصريحات رئيس الجمهورية، التي أكدتها تصريحات وزير العدل -وقتها- أحمد الزند، الذي تحدث علنًا للمرة الأولى عن إعداد مشروع لتعديل قانون الإجراءات الجنائية.

دُشِّن شعار "العدالة الناجزة" عنوانًا للتغييرات القانونية التي طالت قانون الإجراءات الجنائية. وكانت البداية بالمادة 12 التي اختُصرت بموجبها درجات التقاضي من ثلاث درجات إلى درجتين اثنتين، كما منحت التعديلات الجديدة للقاضي حق الاستغناء عن الاستماع لشهود النفي بموجب المادة 277 من القانون. وبالإضافة لذلك صارت الأحكام تصدر بصيغة الحكم حضوريًا في غياب المتهم؛ إلا في حالة حضور محاميه بتوكيل دون حضور المتهم شخصيا، وذلك في  المواد 384 و395.

وفي 27 أبريل 2017، نشرت الجريدة الرسمية تصديق رئيس الجمهورية على تعديل قانون الإجراءات الجنائية بقانون جديد حمل رقم 11 لسنة 2017، وكذلك تصديقه على تعديلات قانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض الصادر بالقانون رقم 57 لسنة 1959، وقانون تنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين رقم 8 لسنة 2015، وقانون مكافحة الإرهاب الصادر برقم 94 لسنة 2015.

كانت السمة الواضحة في هذه التعديلات جميعها؛ التوسُّع في  التقييد والجور على حقوق المتهمين، وافتراض سوء النية فيهم والإسقاط الكامل للمبدأ الذي طالما مثل جوهر قوانين العقوبات والتقاضي في مصر، وهو مبدأ أن المتهم بريء حتى تَثْبُت إدانته. هذه القراءة لا تتجنى على فلسفة التعديلات القانونية التي تتبناها الحكومة ومن ورائها البرلمان، فالمذكرة الإيضاحية الصادرة عن مكتب وزير العدل لتعديلات قانون الإجراءات الجنائية تقول: "مما لا شك فيه أن الممارسة العملية أثبتت سوء نيه بعض المتهمين أو المدافعين عنهم في استغلال بعض الثغرات القانونية، ومنها ما جاء في المواد 277 و289 من قانون الإجراءات الجنائية بشأن طلب سماع شهود أدلوا بأقوالهم بالتحقيقات، مستغلين أن القانون أوقف أمر سماع الشهود بقبول المتهم أو المدافع عنه ذلك".

وبعد أول تطبيق للتعديلات السالفة، وبعد مرور شهر في 14 مايو/ أيار 2017، أوقفت محكمة جنايات دمنهور برئاسة المستشار شوقي الصالحي نظر الجناية رقم 8390 لسنة 2016، لحين الفصل فى مدى دستورية المادتين 395 و384 من قانون الإجراءات الجنائية، واللتان تسمحان بحضور محامي بالتوكيل نيابة عن المتهم أمام محكمة الجنايات. وكان ذلك أول طعن أمام المحكمة الدستورية فيما يتعلق بالتعديلات.

المتهم "مُدان" حتى تثبت إدانته

تأتي خطورة التوسُّع في تعديل قانون الإجراءات الجنائية وفقًا لتلك الفلسفة الجديدة؛ من كونه القانون الرئيس المنظم لمشروعية الإجراءات التي تكفل للمواطن المطالبة بالحماية القانونية أمام القضاء، كما ينظم حق الفرد في الدفاع عما يطلبه أو يُطلَب منه أمام المحاكم.

وقانون الإجراءات الجنائية يضم مجموعة من القواعد التي تنظم وسائل التحقق من وقوع الجريمة، ومحاكمة مرتكبها، وتوقيع الجزاء الجنائي عليه، والفصل في الدعوى المدنية التى قد تُرفع إلى القضاء الجنائي. وكذلك القواعد الخاصة بالطعن فيما يصدر عن هذا القضاء من أحكام، ثم آليات تنفيذ تلك الأحكام. هذه القواعد كلها مرتبطة بالأساس بالمظلة الحمائية التي يكفلها الدستور.

وقد أقرت تلك النصوص الدستورية الحق في التقاضي والحق في الدفاع والحق في المحاكمة العادلة والمنصفة أمام قضاء طبيعي مستقل، وأن المتهم بريء حتى تثبُت إدانته في محاكمة عادلة ومنصفة، لا يُحرَم فيها من الضمانات الدستورية في كفالة حقوق أطراف التقاضي، سواء كان متهما أو مجني عليه.

والإقدام على تعديل هذا القانون يجب يُراعَى عنده تحقيق التوازن الضروري بين حماية الحرية الشخصية وما يتعلق بها من حقوق الإنسان، وحماية المصلحة العامة. وبالتالي تحقيق فاعلية العدالة الجنائية. وبدون هذا التوازن لا يمكن ضمان ممارسة الحرية الشخصية، كما أن المحاكمة الناجزة السريعة، وإن كانت مطلوبة، فإن شرط نجازتها هو ألا تمس سرعة التقاضي حقوق وضمانات المتهم في جميع مراحل الدعوى الجنائية.

ومشروع تعديلات القانون الحالي هو الأكبر في تاريخ تعديلات قانون الإجراءات الجنائية منذ وضعه عام 1950، إذ يشمل تعديل 270 مادة من أصل 560 مادة تمثل  إجمالي مواد القانون. وتتضمن التعديلات الحالية استبدال 150 مادة واستحداث 44 مادة جديدة.

                                       

قليل من الخير

حين نستعرض التعديلات المطروحة الجارية مناقشتها حاليًا بالبرلمان، سنجد أن بعضها استجاب لاستحقاقات دستورية منها استحداث درجتين للتقاضي في محكمة الجنايات، بإنشاء دوائر استئناف لأول مرة. وكذلك استحداث صلاحيات للنيابة العامة في استخدام التدابير الاحترازية بجانب إجراء الحبس الاحتياطي، وتنظيم التعويض المادى للمحبوسين احتياطيا. وكذلك تنص التعديلات المقترحة على وضع إجراءات للطعن على المنع من السفر، ونظام جديد للإعلانات القضائية عن طريق التليفون المحمول وبيانات بطاقة الرقم القومي، بالإضافة لمعالجة أفضل لتعامل القضاء مع المتهمين المصابين باضطرابات نفسية.

ولكن ما أعطاه المشرع في التعديلات باليد اليمنى، استرده باليد اليسرى في مواد خطيرة تسلب المحاكمة ضمانات عادلة وجوهرية في حقوق المتهمين. ناقشتها ندوة عقدتها مؤسسة الحقانية للحقوق والحريات في ديسمبر/ كانون أول 2017 حول مشروع التعديلات، كانت أولى توصيات الندوة هو توسيع دائرة النقاش حول التعديلات، وإرجاء المناقشة البرلمانية حتى يتسنى لجميع الأطراف المعنية إبداء ملاحظاتها على المواد المقترح تعديلها، والمواد المُستَحدَثَة.

من بين الملاحظات المهمة على التعديلات المقترحة، هو إغفال المشروع المقترح لاستحقاقات دستورية أبرزها نص الماده 74 من الدستور، التي منحت المجلس القومي لحقوق الإنسان الحق فى التدخل في الدعوى المدنية منضمًا للمُدَّعِى بالحق المدني، بالإضافة إلى نص المادة 99 من الدستور التي نصت على أن كل اعتداء على حق من الحقوق الدستورية؛ جريمة لا تسقط بالتقادم.

انتهاكات بالجُملَة

اشتمل مشروع التعديلات على العديد من المواد التي تنتهك حقوق التقاضي والدفاع، بالإضافة لقرينة البراءة الثابتة في قوانين الإجراءات الجنائية، ومبدأ أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.

فبداية؛ حَرَمت التعديلات المُتقَاضِي حق "رد القاضي- رد المحكمة" سوى مرة واحدة فقط طوال فترة المحاكمة، وهذا يتناقض مع حق المتهم في الاطمئنان لقاضيه، وكون أسباب رد القاضي تختلف في كل مرة. كما تنص التعديلات الجديدة على تغريم طالب الرد بغرامة لا تتجاوز عشرة آلاف جنيه بخلاف مبلغ الكفالة "إذا كان طلب الرد فيه سوء نية"، ما يجعل نص الغرامة به تَزَيُّد لا داعي له، ويبعث على خوف أي متهم من طلب رد المحكمة، رغم كونه حق أصيل وضمانة مهمة لعدالة محاكمة المتهمين.

بموجب هذا المبدأ، تم الالتفاف على مبدأ "لا يمكن أن يُضار الطاعن بطعنه"، ويظهر هذا كذلك في نص المادة 417 في مشروع التعديلات، القاضي بتغريم المُستأنِف بغرامة لا تتجاوز خمسمائة جنية إذا قُضِي بعدم قبول الاستئناف أو رفضه.

أما حق الدفاع فهو معرض للانتهاك في عدة مواد بالتعديلات الجديدة للقانون، إذ أنه في سبيل تسريع وتيرة التقاضي بهدف تحقيق "العدالة الناجزة"؛ أطاحت بعض مواد القانون بشرط عدم الانتقاص من حق المتهم في التقاضي وإبداء الدفاع. وظهر ذلك في نصوص المواد 240 و241، اللتان تمنحان المحكمة الحق في عقد المحاكمة دون إعلان بعض المتهمين بالحضور للجلسة.

ففي حالة عدم إعلان بعض المتهمين وإعلان آخرين؛ يُصبح الحكم حضوريًا على جميع المتهمين، ما يحرم المتهم من ضمانات إبداء الدفاع أو استدعاء شهود، أو أي إجراء يراه ضامنًا لعدالة المحاكمة طبقًا للحقوق التي يمنحها نص المادة 96 من الدستور، التي تكفل حقوقًا ثابتة أثناء نظر الدعوى الجنائية.

فإذا كان للمجتمع مصلحة في أن يعرف المجرم الحقيقي حتى لا يظل دون عقاب، فإن هناك مصلحة أهم و أشمل وأجدر بالحماية، وهي أن لا يُدان بريء واحد ظُلما. ومن هذا المنطق يُقاس نجاح أي نظام قانوني بمدى التوافق بين مصلحة المجتمع في استيفاء حقه في عقاب الجناة، ومصلحة الفرد في إثبات براءته، وذلك عن طريق كفالة حقه في الدفاع عن نفسه.

وفيما يتعلق بالحبس الاحتياطي، فالمشروع وإن جاء بصلاحيات جديدة للنيابة العامة في استخدام تدابير احترازية بالإضافة إلى الضمانة القائمة بالفعل وهي الحبس الاحتياطي؛ إلا أنه لم يَحدُّ من اتساع أسباب الحبس الاحتياطي، ولم يسع في تضييق استخدامه ليقتصر على حالة وجود أسباب جوهرية. وتستمر في المشروع الجديد نفس نصوص المواد التي تسمح بإطالة فترة الحبس الاحتياطي على ذمة التحقيق ثم المحاكمة. بالإضافة إلى كون المواد -لأول مرة- تحد من حقوق المحبوسين احتياطيا من خلال إعطاء صلاحية للنيابة في منع زيارة الأسرة عن المحبوس احتياطيًا، وقصر الزيارات على محاميه طبقًا لنص المادة 125 في مشروع التعديلات.

وداعًا للعلانية بنص القانون

علانية المحاكمة من الضمانات المهمة في الحق في المعرفة والشفافية، وأحد أهم  آثار قرينة البراءة. إلا أن نص المادة 268 مكرر ضمن التعديلات جاء بعدم نقل أية وقائع خاصة بالمتهمين في بعض القضايا، وهو ما كان متروكًا القرار فيه للقضاة بإصدار أوامر - استثنائية- بمنع إذاعة الجلسات أو منع نشر مجريات لقضية، أما في التعديلات الجديدة، فقد صار المنع قاعدة لا استثناء. وهذا يتناقض مع افتراض قرينة البراءة، وأن المتهم بريء حتى تثبُت إدانته في محاكمة عادلة ومنصفة.

أخيرا لم يشهد مشروع التعديلات نقاشًا مجتمعيًا على عكس ما ينص عليه الدستور، وانفردت اللجنة التشريعية في البرلمان بالمناقشة دون عمل لجان استماع في مشروع قانون بهذه الخطورة، واكتفت اللجنة بدعوة بعض أعضاء مجلس النقابة العامة للمحامين وبعض النقابات الفرعية في بداية النقاشات، ومع ظهور اعتراضات من نقابة المحامين على نص المادة 245 الخاصة باحالة المحامي للنيابة في حالة "إحداث تشويش" بالجلسة، ثم اعتراض نادي القضاة على نص المادة 134 الخاصة بحصيل نصف أموال الكفالات المالية لصالح صندوق رعاية القضاة، ما يجعل المادة مشوبة بعدم الدستورية وتثير الشكوك حول حياد القاضي؛ توقف الحوار المجتمعي وتستكمل تشريعية البرلمان النقاش بمفردها دون التفات لرؤى الأطراف المعنية.

فلم نر مشاركات ولجان استماع سواء من مجلس القضاء الأعلى، أو إدارة التشريع بوزارة العدل أو النيابة العامة، أو حتى استعانة برأي أساتذة القانون الجنائي والإجراءات الجنائية بالجامعات المصرية والجمعية المصرية للقانون الجنائي، ولم يُلتَفَت لاستطلاع آراء رؤساء الدوائر الجنائية بمحاكم الاستئناف والقضاء العسكري ونقابة المحامين والمجلس القومي لحقوق الإنسان ونادي القضاة ومنظمات المجتمع المدني.

إن إقرار مشروع التعديلات بهذه النصوص يسلبه الحماية الدستورية لمخالفته نصوص الدستور المنصوص عليها بالمواد 54 و96 المتعلقتان بضمانات وحق الدفاع، وكذلك المادة 97 المتعلقة بحق التقاضي. ما يجعل القانون المُنتظر مُهددًا بالطعن عليه بعدم الدستورية.

الإطاحة بفلسفة القانون

في هذا المشروع نشهد استحداث فلسفة تشريعية جديدة تقضي بالتزيُّد في العقاب، وانتهاج العقاب الجماعي في حق المتهمين في القضايا الكبرى، وهو ما ظهر في إقرار تعديل المادة 102 التي تخلت عن المبدأ القانوني الراسخ في القوانين المصرية والدولية بعدم معاقبة أسرة المتهم بما جناه، إذ ينص التعديل الأخير على عقاب أفراد الأسرة حال علمهم بحيازة الشخص المنتمي إليهم مواد متفجرة، بالمخالفة لنص المادة 95 من الدستور التي تنص على أن العقوبة شخصية. هذه المادة تعد نموذجًا صارخًا على شبهة عدم الدستورية في فلسفة التشريع الجنائي المُتبناه حاليًا.

ما يجري الآن في اللجنة التشريعية بالبرلمان هو تقنين استمرار تطبيق نصوص قانون الطوارىء الاستثنائية في غير حالات الطوارئ، عبر تضمينها في القوانين غير الاستثنائية المُؤسِّسَة وعلى رأسها قانون الإجراءات الجنائية، ما يعبِّر عن نية لاستدامة الاستثناء عبر نصوص تسلب المواطنين حقوقهم الشخصية، وتحوِّل "قانون الأبرياء" كما يُطلق على قانون الإجراءات الجنائية؛ إلى "قانون للمذنبين"، في تكريس لاستدامة القهر حتى مع انتهاء أية أوضاع استثنائية.