تصوير: هاجر هشام
طلقات متناثرة في الحيّ جمعها الأهالي

9 مللي: أهالي "سوزان مبارك" بالدويقة في انتظار الرصاصة القادمة

منشور الاثنين 14 مايو 2018

 

اتخذ كريم محمد عبدالله، 22 سنة، قرارًا بالرحيل من مسكنه في المرحلة الخامسة بمساكن سوزان مبارك بالدويقة، التابع لحي منشأة ناصر، بسبب تكرار إطلاق النار من معسكر سلامة عبد الرؤوف للأمن المركزي المجاور للمساكن. المرة الأخيرة كانت الرصاصة قريبة منه. وقتها كان يقف عند ناصية البلوك رقم 33 بجانب البقّال الوحيد للمنطقة. صوت الرصاص ليس جديدًا عليه؛ لكن هذه المرة شعر بخطورة السكن في هذا المكان. محاولاته المستمرة لإيجاد شقة بعيدة توقفت يوم 27 فبراير/ شباط الماضي لأنه انشغل بأمر أخطر: رصاصة اخترقت صدر شقيقته الصغرى منّة، 10 سنوات.

من داخل الحي السكني

كانت منّة في طريقها للبقّال بصحبة ابنة أختها الصغيرة، 3 سنوات، تراجعت فجأة إلى الخلف، ثم سقطت أرضًا. نقلها الجيران إلى شقّة أختها الكبرى جيهان في البلوك رقم 32. الدماء التي أغرقت ملابس الطفلة دفعت جيهان لرفع ملابسها لتجد موضع رصاصة ودم نازف. طلقة اخترقت جسد الصغيرة لم يكن من السهل سماع دويّها وسط أزيز مئات الطلقات اليومية التي يسمعها الأهالي وتسقط مقذوفاتها في شوارعهم وأعالي أسطح منازلهم كل يوم، ولأكثر من 10 سنوات منذ نقلهم لهذه المنطقة.

قرار "الست" أمر

عائلة منّة وجيرانها قاطني مساكن سوزان مبارك، أو "الدويقة الجديدة"، هم أصحاب البيوت التي دمرتها صخور جبل المقطّم، وقتلت عددًا منهم في سادس أيام رمضان، والذي كان يوافق 6 سبتمبر من العام 2008، في الحادثة المعروفة إعلاميًا بـ "كارثة الدويقة"، لتنقلهم محافظة القاهرة، بعد إزالة ما بقي من منازلهم في شارع الخزّان، إلى منطقة تجاور قطاع سلامة عبد الرؤوف للأمن المركزي، سمّيت بمساكن سوزان مبارك.

تبدأ قصّة هذه المساكن منذ العام 1999، عندما وضعت سوزان مبارك، السيدة الأولى سابقًا، اللبنة الأولى لمشروع تطوير منطقة الدويقة، والذي نفذّته وزارة الإسكان بمنحة من صندوق أبو ظبي للتنمية لبناء 10 آلاف وحدة سكنية لتكون مآل ساكني الدويقة في المناطق الخطرة وغير الرسمية. بدأ تسكين الأهالي، بمعرفة محافظة القاهرة، على فترات متباعدة منذ العام 2000 وحتى قبل كارثة الدويقة وتحت رعاية جمعية الهلال الأحمر الذي كانت مبارك ترأسه، لكن ما حدث في 2008 سرّع وتيرة تسكين الأهالي في هذه المناطق هربًا من خطر الصخور المتساقطة على رؤوسهم، كان كريم وقتها طفلاً في الثانية عشرة من عمره يعيش أهله في شارع الخزّان، أحد الشوارع التي صنّفت بأنها خطرًا على أهلها، لينتقلوا إلى المرحلة الخامسة من المشروع، شقة نظيفة ومبنى جديد ومساحات واسعة بين العمارات، وأزيز رصاص لا ينقطع.

المعترضون

اعتراض وزارة الداخلية وقتها بسبب خطورة بناء منازل بالقرب من حرم المعسكر لم يجد آذانًا مصغيّة، فتنازلت الوزارة عن جزء من أراضيها لصالح مشروع تسكين الأهالي، بحسب مساعد وزير الداخلية الأسبق لشؤون التخطيط والمتابعة، اللواء بهاء حلمي الذي قال في اتصال هاتفي مع المنصة "حاولت وزارة الداخلية إبعاد المساكن الجديدة عن قطاع سلامة عبد الرؤوف قدر الإمكان، ولكن وبحسب العرف السائد ومراعاة للأزمة وظروف الأهالي في المنطقة، تم استقطاع جزء من مساحة المعسكرات لصالح الأهالي. عادة ده بيحصل كنوع من المشاركة المجتمعية من قوات الأمن".

محمد مصطفى المحامي بالجنايات، ومحامي عائلة الطفلة منّة، يقول في لقاء مع المنصّة أن ماحدث للطفلة ليس الحادث الأول "بالإضافة لواقعة إصابة منّة؛ هناك واقعة أخرى لمدرس أصيب بعيار ناري في فخذه أثناء مراقبته للامتحان في مدرسة الجبرتي الإعدادية يناير 2018، بمنطقة الدويقة". 

يتابع مصطفى القضيتين وينتظر تقرير الطبيب الشرعي للفصل في هوية الرصاصتين "المدرس أصيب برصاصة 7.62، دي رصاصة طلق آلي ومعاه التقارير اللي بتثبت حالته". يضيف المحامي أن أصوات الرصاص ووصوله إلى المناطق السكنية أمر معروف له ولكثيرين من سكّان المنطقة.

في ظلال الرصاص

يقول كريم "من ساعة ما جيت وبنسمع كلنا صوت الرصاص، من كُتر ما سمعته خلاص اتعودت عليه"، ظل كريم وباقي سكان المنطقة يسمعون الرصاص طوال فترة تواجدهم في المنطقة، حتى توقف تمامًا، بعد لحظات من إصابة منّة.

حين اكتشفت جيهان إصابة أختها الصغيرة، كان كريم في زيارة لأحد أقاربه، اتصلت به لتبلغه بما حدث، وأنهم نقلوا الطفلة إلى مستشفى الشيخ زايد بمنشية ناصر، أقرب مستشفى لموقع الحادث. سيلحق كريم سريعًا بأخته إلى المستشفى. سيظل بجانبها والرصاصة مستقرة خلف قلبها لساعات، دون حصولها على العناية الطبية اللازمة، بحسب روايته. سينفد صبره فينقلها إلى مستشفى الدمرداش بسيارة أجرة، بعد رفض مدير المستشفى خروج سيارة إسعاف لنقلها، متعللًا بالوقت اللازم للإجراءات، ليقوم الأطباء في الدمرداش بإجراء التحاليل والفحوصات اللازمة لها. سينقلونها بعد ذلك لقسم القلب لتستقر هناك حتى يوم الخميس 29 مارس عندما تواصل معهم مسؤولون من وزارة الداخلية عارضين إجراء جراحة لانقاذ الطفلة في مستشفى الشرطة وهو ما وافقت عليه الأسرة، حتى تعافت الطفلة بعد استخراج الرصاصة.

 

تقرير طبي عن الإصابة

في صورة التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة في واقعة منّة؛ قالت منى محمد إبراهيم، واحدة من الشهود على واقعة الإصابة، إنها نادت على جندي يقف حراسة على البرج القريب من طريق الخروج من المدينة طالبة منه التوقف عن إطلاق النار  "قلتله وقّف ضرب، اطلب من القائد يوقّف التدريب لأن في واحدة بتموت دلوقتي". الرواية تتطابق مع ما حكاه الأهالي للمنصة.

خلال تواجدهم لساعات في مستشفى الشيخ زايد، حضر أفراد من قسم منشأة ناصر لتحرير محضر بالواقعة، استجوبوا جيهان التي نفت أن يكون أحد الجيران هو مصدر الطلقات "قلت لهم معروف إن الطلقات دي بتيجي من ناحية المعسكر، خلوني أمضي على المحضر اللي عرفت بعد كده إنه اتسجّل ضد مجهول"، تضيف جيهان أن الجيران الموجودين معها في المستشفى أيدوا ما قالته لظابط المباحث، لكن وكيل النيابة، بحسب رواية الأخت والأخ، الذي حضر في اليوم التالي لأخذ أقوال ذوي الضحيّة أخبرهم أن محضر القسم مسجّل ضد مجهول. 

في المعسكر

المساحة الخاصة بالتدريب في القطاع الذي أنشيء في العام 1975، بحسب اللواء بهاء حلمي، مساعد وزير الداخلية الأسبق، تبلغ 4 أفدنة، تمتلئ بالدشم والأعلام ونماذج التدريب ولافتات تحمل آيات من القرآن وإرشادات عامة، بحسب صحيفة مصرية. رواية الأهالي تفيد بأن تبّة إطلاق النّار، أو الموقع الخاص بتدريب القوّات على إطلاق النار باتجاه أهداف محددة، تقع في إتجاه مساكنهم، ما يجعلهم عرضة للأعيرة الطائشة. أعيرة ظل أحمد خميس، زوج جيهان شقيقة منة الكبرى، يجمع مقذوفاتها بعد إصابة منّة لتكون دليلًا على صدق قصّتهم، وعلى أن رصاصًا كان يدوّي في هذا المكان قبل توقّفه بعد إصابة الطفلة مباشرة.

"الرصاص في كل مكان. العيال الصغيرة بتجيبه من الشارع وأسطح العمارات"، يقول خميس أن المقذوفات التي تصلهم جميعها مقذوفات حيّة، كتلك التي وجدوها في صورة أشعة الصدر الخاصة بمنة. أخذ خميس يبحث عن متضررين آخرين من الرصاص في نفس المنطقة، يقول أن عددًا من جيرانه حدثوه عن رصاصات اخترقت جدرانهم وشققهم "سألت الناس اللي ساكنين في العمارات اللي قبلي واللي بعدي، إللي يقولي دي دخلت البلكونة، وإللي رشقت في الحيطة" يقول خميس وهو يمسك كيسًا بلاستيكيًا شفافًا، ممتلئا بمقذوفات متنوعة في أحجامها وأشكالها، منها الجديد المحتفظ بلمعته الذهبية، ومنها الذي أكله الصدأ.

خريطة جوجل ماب تظهر فيها المسافة بين موقع الحادث وموقع التدريبات

على تطبيق خرائط جوجل، تصل المسافة بين موقع إصابة منّة، وموقع  تدريبات القوات على إطلاق النار الذي حددناه بناء على شهادات الأهالي، إلى 500 متر. وبحسب موقع NRA التابع للوبي الداعم لتوسيع استخدام السلاح في الكونجرس الأمريكي، فإن أنواع الأعيرة النارية التي تخرج من المسدسات النصف آلية، Semi-Automatic Pistol، هو النوع الذي تنتمي إليه مسدسات الـ9 مللي المصرية تحت اسم "حلوان" التي تنتجها القوات المسلحة وتستخدمها قوات الأمن المصرية، تتراوح في مداها الأقصى التي يمكن أن تقطعه قبل السقوط من 1090 ياردة (997 متر) وحتى 2295 ياردة (2099 متر). وهو نفس عيار الرصاصة التي يقول محامي عائلة منة أنها أصابتها.

المدى القاتل

في أحد فيديوهاتهم عن مراجعات الأسلحة النارية يقوم فريق Iraqvetran888، وهي شركة تقوم بإنتاج مراجعات مصورة عن الأسلحة والأعيرة النارية، بتجربة قدرة رصاصة 9 مللي على اختراق سطح خشبي عرضه ثلاث أرباع بوصة (1.9 سم). بحسب الفيديو الذي يمتد إلى 12 دقيقة، استطاعت الرصاصة اختراق السطح الخشبي من مسافة 440 ياردة (402 مترًا) ومن أسلحة مختلفة في إصابات مباشرة. 

 

 

وبحسب مقال لمجلّة فوربس، عن إمكانية قتل رصاصة أطلقت في الهواء لشخص ما، أو حالات الإصابة غير المباشرة، يقول إيثن سيجال، الكاتب المتخصص في علوم الفيزياء والمساهم في المجلة، إن أنواع من الرصاص يمكنها اختراق الجسم حتى في السرعات المنخفضة، فالرصاصة الـ9 مللي يمكنها اختراق الجسم عند سرعة 102 ميل/ ساعة (164كم/ ساعة).

بحسب المعلومات المنشورة عن الطلقة 7.62 على Army-technology، ودليل الأسلحة الخفيفة الصادر عن Bundeswehr Verification Center،  فإنها من نفس نوع الطلقة التي تستخدم في الرشاش المصري "المعادي مصر"، وهو النسخة المصرية من الرشّاش الروسي AKM الذي تستخدمه قوات أمن مصرية.

في قضيّة مماثلة لقضيتي المدرّس ومنّة، وهي إصابة الطفل يوسف العربي بطلقة طائشة في الرأس أدت إلى مقتله، تنص شهادة العقيد ضياء رجائي شنودة، من إدارة الأدلة الجنائية، أن المدى القاتل في حالة الإصابة المباشرة لرصاصة السلاح الآلي يتراوح ما بين 900 إلى 1200 متر، بينما في حالة الإصابة غير المباشرة فيمكن للرصاصة أن تسبب إصابة إذا جاءت من مكان مرتقع حتى مداها الأقصى، وهو 3 كليو مترات. وهو تقريباً المدى الذي يحدده دليل قوّات الشرطة لجنوب مقاطعة ويلز لنفس الطلقة في حالة الإصابة غير المباشرة.

 

صورة لطلب رسمي من نيابة منشاة ناصر للمستشفى المعالج للمدرس بكل بتسليمه كل الأوراق الخاصة بحالته، وذلك بعد أن وجد الظرف الذي به المقذوف الذي أصاب الرصاصة فارغاً.

بحسب إفادة المحامي محمد مصطفى للمنصّة، فإن الطب الشرعي استدعى الطبيب الذي قام باستخراج الرصاص من فخذ المدرّس، لأن المظروف الذي يفترض احتوائه على الحرز (الرصاصة) وُجد فارغاً.

المنصة تواصلت مع اللواء أشرف العناني، مدير إدارة الإعلام بوزارة الداخلية، عبر هاتفه الشخصي وعبر رسائل قصيرة للرد على وقائع خروج طلقات نارية حيّة من حرم معسكر التدريب تسببت في وقوع إصابات في صفوف السكان، إلا أنه وحتى لحظة نشر هذا التقرير، لم يصلنا رد منه.

9 مللي

لتحديد مدى إمكانية تحقق رواية الأهالي، وقدرة رصاصة من نوع 9 مللي قطع المسافة التي حددناها بين الموقوع التقريبي لإطلاق النار وموقع إصابة الفتاة، اتصلت المنصة باللواء فارس بقطر غبور، الخبير الجنائي السابق، تليفونياً، والذي شرح أن إصابة شخص بطلقة من عيار 9 مللي تعتمد على عوامل عدّة، كاتجاه الريح وسرعتها ومقدار الرطوبة في الجو، وزاوية إطلاق الرصاصة "المدى التي تستطيع أن تصيبه رصاصة الـ9 مللي إصابة غير مباشرة يبدأ من 900 متر ويصل إلى 1200 متر". 

يضيف غبور أن اختراق الرصاصة في أقصى مدى حققته لجسد بشري يعتمد هو الآخر على موقع الإصابة تحديدًا "في حالة الرأس مثلًا من الصعب اختراق عظام الجمجمة لكنها هتصيب فروة الرأس، في حالة الصدر، يعتمد الأمر على ما إذا كانت اصطدمت أو احتكت بعظام القفص الصدري أم لا". قال غبور في حديثه معنا إن "طلقات الآلي يمكنها أن تكون مؤثرة في حالة الإصابة غير المباشرة حتى مسافة 2 كيلومتر "اعتمادًا على نفس العوامل"، على حد قوله.

يشرح الدكتور أيمن فودة، كبير الأطباء الشرعيين السابق، العوامل التي قد تتسبب في خروج الطلقات من حرم التدريب في المعسكر "أن تكون تبّة التدريب أقصر مما يجب فالطلقات بتطلق لفوق، وممكن يكون عرضها أقل مما يجب فالطلقات تعدّي من الجنب"، يقول فودة في إتصال هاتفي مع المنصة إن وجود طلقات تصل إلى عمارات سكنية من معسكر تدريب قريب منها يستوجب أن يتم تغيير اتجاه تبّة إطلاق النار أو زيادة طول سور المعسكر، إضافة إلى وجوب أن يزن الظابط المسؤول عن التدريب اتجاهات إطلاق المتدربين، حتى لا يحدث أن تخرج طلقة عن المساحة المحددة لها.

 

 

خوفًا على أبنائه من مصير مشابه لمصير منة، حاول أحمد خميس، زوج جيهان شقيقة منة الكبرى، الوصول لرئيس القطاع، بحسب روايته، لكن دون جدوى "رحت لحد باب المعسكر وطلبت أقابل القائد"، يقول خميس أن ضابطًا طلب منه أن يعاود الحضور بعد فترة "قال لي تعالى بعد شوية كده، استنيت وروحت تاني، قال لي القائد مش موجود وتعالى له يوم السبت". 

الطلقة في المطبخ

بعد إصابة منّة، وصل بلاغ لكل من النائب العام وقسم منشأة ناصر بخصوص الواقعة. صاحب البلاغ كان كان محمد هاشم، ساكن البلوك 18، أحد العمارات التي تقع في الصف الأول المواجه لسور القطاع مباشرة.

في أكتوبر/تشرين الأول 2013، أذاع برنامج صبايا الخير الذي تقدّمه ريهام سعيد معايشة من داخل قطاع سلامة عبد الرؤوف للقوات الخاصة، استعرضت فيه تدريب القوات وتفاصيل يومهم. المشاهد تضمنت تدريبات بالمدرّعات والسيارات الشرطية، وإطلاق لأعيرة نارية وأسلحة ثقيلة كالآر. بي. جي. في الدقيقة الـ 50 من الحلقة سألت سعيد الضابط الذي كان بصحبتها عن نوع الرصاص المستخدم في التدريبات ليقول إنه رصاص حيّ، ثم يستدرك "بس إحنا مأمنين كويس"، هذه معلومة يعرفها محمد هاشم منذ سكنه في البلوك رقم 18، وهو يعاين أثر الرصاص بنفسه.

 

 

قبل عشرة أشهر، فوجئ هاشم بصوت على باب شقّته في الثالثة عصرًا، سيفتح الباب ليجد جاره يخبره بأن رصاصة اخترقت شباك مطبخه ثم باب شقته، لترتطم بباب شقة هاشم، في الدور الخامس والأخير من عمارتهم. هاشم روى لنا ما يعرفه عن الواقعة"بلّغنا النجدة وحررنا محضر والنيابة جات عاينت، وبعدين ماحصلش حاجة".

يقول هاشم إنه وجيرانه في العمارة يسمعون أصوات الرصاص المتطاير ناحيتهم من القطاع، ومن ثم يرون المقذوفات على سطح عمارتهم بأحجام مختلفة. مشهد الرصاص صار أمرًا معتادًا بالنسبة له وجيرانه منذ سكنهم في هذا المكان، لكن الخوف من اقتراب خطر حقيقي سيطر على هاشم عندما وجد فتحة في باب جاره خلّفها المقذوف الطائش. الجار أغلق شقته وترك المنطقة.

 

باب الشقة الذي اخترقته رصاصة يدعي الأهالي أنها أتت من معسكر القوات الخاصة، تصوير هاجر هشام.

"ابني كان واقف قدام البلوك 32 في الوقت اللي اتصابت فيه منّة بالرصاصة، فكّرت ساعتها إن الطلقة ممكن كانت تيجي فيه فبلغت القسم والنائب العام بالحادثة"، يقول هاشم أنهم لم يحاولوا شكوى القطاع طوال الفترة الماضية "أنا مواطن مدني، هاشتكي الحكومة يعني؟". حاول هاشم النجاة بعائلته بانتقاله من البلوك 18 لشقة والدته في البلوك 32 الأبعد نسبيًا عن مواجهة المعسكر.

مخرَج آمن

هشام محمد الطوخي، ساكن آخر يقيم في شقة ثالثة في الدور الخامس من البلوك 18، قام بخطوة أكثر جدّية من هاشم بعد الواقعة وعرض شقّته للبيع "منعت ولادي من دخول البلكونة وعرضت الشقّة للبيع عشان نمشي من هنا"، يضيف الطوخي "العَيّلة (منّة) جت لها الطلقة وهي في الشارع، فما بالك باللي واقف في الدور الخامس".

على سطح العقار رقم 18 (البلوك 18)، تجولت محررة المنصّة مع عدد من أهالي المنطقة، ووثقت وجود مقذوفات من أحجام مختلفة، وأضرار لحقت بواحدة من أطباق الإرسال التليفزيونية المنتصبة على السطح. إضافة إلى ما جمّعه الأهالي بأنفسهم من مقذوفات لأعيرة نارية مختلفة، تقدّموا بها بعد أيام من حديثهم معنا إلى النيابة، كأحراز.

واحدة من المقذوفات على سطح البلوك 18، تصوير هاجر هشام

في حديث تليفوني، ينفي مساعد وزير الداخلية الأسبق لشؤون التخطيط والمتابعة، اللواء بهاء حلمي، احتمالية خروج رصاصات من القطاع إلى المناطق السكنية المقاربة له. كما نفى اتجاه منصة الإطلاق ناحية السكّان، مستندًا في ذلك إلى وجود اشتراطات أمان خاصة بحرم التدريب لحماية الناس "لابد من وجود موانع مثل أشجار نخيل وإطارات، إضافة إلى وجود مسافة لا تقل عن خمسين مترًا للأمان، بجانب المسافة الخاصة بالحراسة"، لكنه في نفس الوقت لاينفي إمكانية حدوث خطأ ما.

يشرح حلمي أن أصل المشكلة يعود إلى الزحف العمراني بجانب معسكرات قوّات الأمن، مشيرًا إلى وجود حالات مشابهة مثل معسكر قوات الأمن في طنطا، وقطاع البساتين "في هاتين الحالتين فإن العمارات تطل على المعسكرين مباشرة، وفي هذه الحالة، ومن أجل السلامة، يتم نقل التدريبات في مناطق خارج المعسكر تمامًا".

يقول حلمي إن أغلب التدريبات التي تحدث داخل حرم المعسكرات عبارة عن تدريبات صوت، كما أن إطلاق النار، بحسب حلمي، يتم في ميادين مغلقة، أما عن الأسلحة الثقيلة والرشّاشات الآلية، فيتم التدرّب عليها خارج المدن تمامًا في ميادين تتبع القوات المسلّحة. حلمي قال للمنصة أن يستبعد تمامًا أن يكون مصدر الطلقة التي أصابت الطفلة منّة هو المعسكر "المنطقة دي بيتم استخدام السلاح فيها في الأفراح والمناسبات"، مشيرًا إلى إمكانية وجود مصدر آخر للرصاص.

النيابة تحقق

القصّة ماتزال بين أيدي النيابة التي تنتظر تحرّيات المباحث عن الواقعة. منّة خرجت من مستشفى الدمرداش وظلت الرصاصة وراء قلبها حتى يوم الخميس 29 مارس 2018، وهو اليوم الذي أجرت فيه عملية استخرجها على نفقة وزارة الداخلية في مستشفى الشرطة بمنطقة العجوزة.

يقول كريم "يوم الخميس 29 مارس، جاء لمنزل الأسرة سيارة إسعاف نقلت أختي الصغيرة إلى مستشفى الشرطة بالعجوزة، بعد تنسيق مع وزارة الداخلية" وهي الشهادة التي أكدها محامي الأسرة. الإثنان أفادا بأن الوزارة وعدت بالتكفّل بالمصاريف التي دفعها الأهل لعلاج منّة قبل دخولها مستشفى الشرطة. وهو نفس ما أذاعه برنامج "آخر الأسبوع" على قناة المحور في حلقة الجمعة 30 مارس 2018.

معظم الشهود: ماتوا أو في السجن

أغلب المسؤولين عن واقعة بناء المساكن ونقل السكّان إليها، ليسو متاحين للرد على الوقائع الواردة في هذه القصّة. توفّي كل من محافظ القاهرة، وقت تنفيذ المشروع، عبدالعظيم وزير، ونائبه، اللواء مختار الحملاوي، كما يقبع محمد إبراهيم سليمان وزير الإسكان الأسبق في الحبس في انتظار أحد القضايا المتّهم فيها، ووزير الداخلية الأسبق اللواء حبيب العادلي يمثل أمام محكمة جنايات.

حاولت المنصّة التواصل مع مسؤولين حاليين بمحافظة القاهرة ووزارة الإسكان لمعرفة المسؤول عن قرار تسكين مدنيين في حرم معسكرٍ للأمن المركزي. لكن المهندسة نفيسة هاشم، رئيسة قطاع الإسكان بالوزارة، نفت مسؤولية الوزارة عن اختيار مواقع مشاريع الإسكان، بينما قال محمد عبد الجليل رئيس حي منشأة ناصر إن المسؤولية تقع على عاتق وزارة الإسكان. بينما لم تستجب الدكتور مؤمنة كامل، أحد أعضاء مجلس إدارة جمعية الهلال الأحمر والمسؤولة عن تسكين ومساعدة أهالي الدويقة في ذلك الوقت، تحت رعاية سوزان مبارك، لمحاولتنا التواصل معها.

 

صورة أحد أطباق الاستقبال على سطح البلوك رقم 18، وبه ما يقول الأهالي أنه أثر اختراق أحد المقذوفات النارية، تصوير هاجر هشام

 

كريم وعائلته، ومحمد هاشم، وهشام الطوخي وبقيّة الأهالي يبحثون عن مخرج آمن من مساكنهم إلى شقق أخرى خوفًا على أرواحهم، ولا يظن هؤلاء أن حلًا جذريًا في الطريق. حتى مع توقّف صوت الرصاص منذ واقعة إصابة منّة، مازالت تردنا من فترة لأخرى شهادات للأهالي توفد بسماعهم أصواتًا بعيدة للرصاص، لكن التّأهب من عودة الأمور لماكانت عليه مازال موجودًا. يقول هاشم "بعد واقعة جاري رحت عند باب المعسكر وطلبت أتكلم مع المسؤول هناك، العسكري قالي الدخول ممنوع، لو عندك حاجة، روح بلّغ القسم".

شاهد النسخة المصورة من التقرير