أصدقاء الغريب| أبانا الذي في السماوات

منشور الأربعاء 4 أبريل 2018

اليوم أصبح لنا أبً في السماوات.

التقيته منذ أربع سنوات في معرض القاهرة الدولي للكتاب. وقفت ما يزيد على الساعتين في طابور طويل ممتد، فقط لأحصل على توقيعه للفتاة التي أحببتها وتعشقه. تخيلت أن الأمر سيسعدها وربما يكون مجرد عربون محبة وهي التي لا تكف عن الحديث عنه. واجهني بابتسامته العذبة وملامحه الطفولية وصوته الذي يحتويك فورا ويزيح عنك التوتر. قال لي بمودة: الاسم؟ 

قلت له اكتب الإهداء باسم إيمان وبين قوسين "ماجي". وجدته يضحك ويقول "وياترى هي شبهها". طبعًا أجبته بنعم.

كتب الإهداء بخطه المنمق، وتمنّى وهو يمد يده لي بالعدد الأخير من سلسلته الأثيرة "ما وراء الطبيعة" أن يقابل شبيهة ماجي في يوم من الأيام، هو لا يعرف أنها جلست بجواره يوما على منصة جامعة المنصورة أثناء إحدى ندواته.

تدور الأيام، وتصبح تلك المرأة خطيبتي وزوجتي بعد ذلك. أنشأنا مكتبتنا المشتركة. ووسط كتب نجيب محفوظ وديستويفسكي وآلان بو وفرناندوا بيسوا وجمال الغيطاني وخيري شلبي وغيرهم الكثير. أصرت أن يكون هناك رف كامل لكتب ومؤلفات العرّاب. طبعًا توحش الرف بعد ذلك إلى رفين وثلاثة. 

كل صباح تداهمني صورته التي نشرتها إحدى الصحف على غلافها وهو متكئ على أريكة ممسكًا بعدساته الطبية، واضعًا ساقًا فوق الأخرى وناظرًا إلى بعيد. وضعتها زوجتي في غرفة النوم منذ أمد طويل، وأصبحت يوميًا أستيقظ كل صباح فأجده لا يزال ينظر لبعيد، تلك النظرة التي انطفأت الآن، للأبد.

في ليله رحيله المأساوية كنت أواسيها، ولكنني حتى اللحظة لم أعرف بالضبط من كان يواسي من. 

 

 

الوعي والوجدان

كلمات هلامية، إكليشيهية نوعًا ما، ولكنها بالتأكيد تعبر عن شيء ما بداخلنا. الجميع يتكلم عن تأثير أحمد خالد توفيق في وعي وجدان أجيال كاملة، ولكنني أشك أن أحدًا منهم يعرف تفاصيل هذا النحت المستمر الذي مارسه الرجل طوال ربع قرن داخل روح كل منا وطوال سنوات عمر هذه الأجيال الضائعة.

كان حاضرًا باستمرار مثل ظلك، لا يفارقك، ولا يمل من الوجود. كان موجودًا في لحظات الضيق قبل الفرح،  في تلك اللحظات التي تخلى عنا فيها الأصدقاء وتركونا فريسة للوحدة تنهش أرواحنا الهشة. فقط افتح رواية واقرأ. لم يأخذ أحد بأيدينا مثله، وبتفان منقطع النظير، ووقت أن تخلى عنا الأمل. ساعدنا لنعبر تلك الهوة السحيقة التي أطلت علينا بعد ثورة يناير. 

هو الوحيد الذي عليك أن تعبره ليرشدك بكل الحب عن  نجيب محفوظ وديستويفسكي وعن موزارت وبيتهوفن وعن تارنتينو وستيفن سبيلبيرج ولا يخيب أملك أبدًا. كان الأب الذي يراقب من بعيد ويوجه من بعيد. هو الوحيد الذي ساعد كل هذه الأجيال لتعبر تغريبتها التي كانت بفعل فاعل. هذا هو الوعي والوجدان ياحضرات.

جنازة مهيبة، دموع، عيون شاردة وبؤس يغطي الوجوه. لا شيء رسمي فيها إلا صكوك المحبة، لا مظاهر مبتذلة، لا شيء إلا الصدق والحب والإخلاص. 

أليس هذا ما كنت تحارب من أجله يادكتور ؟ 

خسارتنا فادحة. الآن فقط تداعى آخر حائط كنا نستند عليه. نحن الآن عرايا إلا من ورقة توت أخيرة. أبانا الذي كان يسكن طنطا، الآن في السماوات. 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.