فيلم Annihilation.. رحلة إلى اللا مألوف

منشور الأحد 15 أبريل 2018

أسوأ الأفلام حظًا مع شباك التذاكر، هي تلك التي تتخذ من الرمزية أساسًا ترتكز عليه أحداثها، فترهق المُشاهد بمحاولة إيجاد تفسير لتلك الرموز، وهي محاولة ربما تأتي على حساب استمتاعه بالمشاهدة، وخاصة إذا كانت تلك الرمزية تحتمل عدة تأويلات ويمكن تناولها من وجهات نظر مختلفة، وهو ما حدث مع فيلم "Annihilation" أو "إبادة"، أحدث أفلام المخرج أليكس جارلاند والمُقتبس عن رواية تحمل نفس الاسم للكاتب جيف فاندرميير.

من أجل ذلك، منحت شركة Paramount Pictures الموزعة للفيلم، حقوق توزيعه عالميًا لشبكة Netflix، بعد أسابيع قليلة من عرضه بشكل محدود داخل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والصين، خشية خسائر مادية كالتي لحقت بها بسبب توزيعها فيلم المخرج دارين أرنوفكسي الأخير "Mother"، الذي اتخذ من الرمزية الدينية أساسًا بُنيت عليها أحداثه.

وقد حدث أن خلق كلا الفيلمين حالة كبيرة من الجدل لدى المشاهدين، فتباينت آراء المتلقين لفيلم "Annihilation"، بين فئة تُشيد به، وأخرى ترى أن أليكس جارلاند قد ذهب بفيلمه إلى غير المألوف، فجاء الفيلم مشوشًا ومضطربًا. ولكن ألا يتشابه هذا الاضطراب مع طبيعة النفس البشرية؟!

تدور أحداث الفيلم حول لينا (ناتلي بورتمان)، أستاذة علم الخلايا بجامعة جونز هوبكنز والضابطة السابقة بالجيش الأمريكي، التي تحاول التغلب على وحدتها بعد رحيل زوجها كين (أوسكار إيزاك) منذ نحو سنة في مهمة سرية تابعة للقوات الخاصة، لم يعُد منها، ويُعتبر مفقودًا من قِبل الحكومة الأمريكية.

يعود كين إلى المنزل في أحد الأيام، لتكتشف لينا أنه فقد ذاكرته، حتى أنه لا يتذكر كيف عاد، وتزداد الأمور سوء حين يسقط مصابًا بنزيف، تحاول لينا على إثره نقله إلى المستشفى، ولكن يتم اعتراضهم من قِبل إحدى الجهات الحكومية، التي تتولى التحقيق مع لينا بعد ذلك حول واقعة اختفاء زوجها وكيفية عودته مرة أخرى.  

المنطقة إكس

 

تظهر في المشاهد الأولى للفيلم، كتلة نارية تسقط من السماء لتضرب منارة على الساحل الأمريكي. ومع الوقت تخلق تلك الظاهرة حقلًا من الطاقة يتسع شيئًا فشيئًا ليلتهم المنطقة من حوله، ويغير خصائصها البيئية.

ثلاث سنوات مرت على تلك الظاهرة، حسب قول د. فينتريس الطبيبة النفسية ومسؤولة البعثات الاستكشافية بمؤسسة ساوثرن ريتش "Southern Reach"، التي أنشأتها الحكومة الأمريكية أمام تلك المنطقة التي منحتها الرمز "إكس"، بغرض البحث عن أسباب تلك الظاهرة ومحاولة القضاء عليها.

وقد تشكلت نظريتان حول مصير البعثات التي تم إرسالها من قبل إلى داخل المنطقة إكس، ولم يُكتب لأحد من أفرادها العودة باستثناء كين، كما يتبين للينا من خلال حوارها مع فينتريس. فتقول النظرية الأولى إن شيئًا ما داخل المنطقة إكس هاجم أعضاء البعثات وقتلهم، وترى الأخيرة أن أعضاء البعثات أصابهم الجنون فقتلوا بعضهم بعضًا.

تتطور أحداث الفيلم مع دخول كين في غيبوبة، تجعل لينا تنضم إلى فريق البعثة الجديد الذي يتم تشكيله من مجموعة من نساء الباحثات، تقودهن د. فينتريس بنفسها هذه المرة.

رحلة داخل النفس البشرية

 

سرد المخرج أليكس جارلاند أحداث فيلمه عبر ثلاثة خطوط زمنية، شكل كل منها فترة من حياة بطلته لينا؛ التي تلعب دور الراوي في الخط الزمني الأول، حين تخضع للاستجواب عن رحلتها داخل المنطقة إكس، ويتولى جارلاند، في الخط الزمني الثاني، سرد الأحداث بشكل متتالٍ، فيرصد حياة لينا قبل عودة زوجها والأحداث التي تلت ذلك حتى قيامها بالرحلة، ويكتفي في الخط الزمني الثالث، بتقديم مجموعة من مشاهد الفلاش باك من حياة لينا، ساهمت في تسليط الضوء على القضية الرئيسية التي يطرحها من خلال فيلمه.

يستعرض أليكس جارلاند من خلال فيلمه رؤيته الشخصية عن النفس البشرية التي تسعى إلى تدمير ذاتها، والدفع بنفسها إلى كل ما هو غير مألوف. فبالعودة إلى المشهد الأول للفيلم، نجد لينا تجلس في قاعة المحاضرات تشرح لطلابها الخلايا السرطانية، فتصفها كمجموعة من الخلايا العادية بدأت في الانقسام والتكاثر بطريقة غير مألوفه لتدمر جسم الإنسان من الداخل.

لم يكتفِ أليكس جارلاند بعرض وجهة نظره عن تدمير الإنسان لذاته، فتساءل حول أسباب ذلك الخلل في النفس البشرية، وحاول البحث عن بعض التفسيرات من الناحية البيولوجية والنفسية، قد تقدم إجابة عن ذلك التساؤل. ففي أحد المشاهد تتعرض لينا لفكرة حمل الإنسان للخلل بداخله، وتتناول ذلك من الناحية البيولوجية؛ فتشرح كيف تُعتبر الشيخوخة مثلاً خللأ جينيًا في جسم الإنسان حين تتوقف الخلايا عن الإنقسام وتموت. الأمر كذلك نستشفه من حوارها مع فينتريس حول الأسباب النفسية التي دفعت بزوجها كين للانضمام إلى تلك المهمة التي وصفتها بالانتحارية.

ورغم المباشرة التي لجأ إليها أليكس جارلاند في طرحه لوجهة نظره، فقد جاءت مشوشة ومربكة لعقل المُشاهد، ربما بسبب طريقة السرد التي اعتمد عليها جارلاند، أو الفيلم نفسه الذي لا يمكن اعتباره اقتباسًا دقيقًا عن رواية جيف فاندرميير؛ حيث أوضح جارلاند في حوار له أنه اعتمد على ذاكرته ورؤيته الشخصية كقارئ للرواية عندما قام بنقلها لشاشة السينما، حتى أنه لم يشغل باله بإعادة قراءة الرواية مرة أخرى للوقوف على التفاصيل التي ذكرها جيف فاندرميير، ليخرج الفيلم في النهاية مشوشًا ومضطربًا كرؤية جارلاند الشخصية للطبيعة البشرية.

خلف "الوميض"

 

يستمر أليكس جارلاند في استعراض وجهة نظره السوداوية عن طبيعة الجنس البشري؛ فمع عبور فريق البعثة لحقل الطاقة، الذي يفصل المنطقة إكس عن العالم الخرجي، والمعروف بـ "الوميض"، يتطرق جارلاند للتاريخ الشخصي لعضوات فريق البعثة، والذي يُظهر سعي كل واحدة منهن في حياتها السابقة نحو تدمير ذاتها؛ فنتعرض للمُسعفة أنيا ثورينسن مدمنة للمخدرات، والفيزيائية جوزي ريديك التي تُحدث ندوبًا على ساعدها لإيذاء نفسها. هناك أيضًا الطبيبة النفسية فينتريس المصابة بسرطان الدم، وكاس شيبرد التي تعمل على دراسة حقل الطاقة "الوميض"، وتحمل ذكرى سيئة حول طفلتها وكذلك حياتها السابقة، وحتى لينا نكتشف أنها قامت بخيانة كين دون سبب واضح سوى نفسها التي دفعتها للقيام بتجربة غير مألوفة.    

يضع أليكس جارلاند شخصيات فيلمه التي تسعى إلى ما هو غير مألوف، في مواجهة مع طبيعة لها خصائصها البيئية المختلفة عن الأخرى خارج "الوميض"، وكأنهم في مواجهة مع أنفسهم؛ فكما أوضحَت فينترس أن صفة تدمير الذات مدرجة داخل خلايا جسم الإنسان، تَظهر الطبيعة خلف "الوميض" وكأنها تحمل هي الأخرى شيئًا من الاضطراب مدرج بخصائصها، فتعكس الحمض النووي للكائنات الحية بها دون التميز بينها، فتخلق كائنات جديدة تجمع بين الصفات الوراثية للإنسان والحيوان أو الإنسان والنبات. وقد اختلفت طريقة رسم جارلاند لتلك الطبيعة، تبعًا لرؤية بطلات فيلمه لها؛ فمرة يُظهر ما بها من اختلاف كونه يحمل جانبًا من الجمال، ومرة وحشًا مخيفًا يطاردهن، ومرة يمزج جارلاند بين القبح والجمال اسقاطًا على رغبات كل منهن في حياتها السابقة خارج "الوميض".

نجد جارلاند كما تعرض لمأساة تدمير الإنسان لذاته ومحاولته البحث عن الأسباب التي قد تدفعه لذلك، يستعرض في نهاية فيلمه فلسفته الشخصية حول سبيل النفس البشرية لتجاوز ذلك الخلل والنجاة بنفسها، رغم افتتاحية الفيلم التي قد تُنبئ بالنهاية المأساوية لأبطاله. فيقدم جارلاند من خلال فيلمه أنواعًا مختلفة من الأنفس البشرية، تستمر إحداها في السير نحو غير المألوف وتنتهي بتدمير ذاتها، وتستسلم الأخرى للأحزان التي تركها الماضي بداخلها فتنتهي كالأولى، ويأتي النوع الآخير الذي يعكس مفهوم جارلاند للنجاة، حيث يتصالح ذلك النوع مع ماضيه ويتغاضى عن الخلل بداخله ليبدأ حياة جديدة.

 

في النهاية، قد يجد المشاهد صعوبة في وضع فيلم "Annihilation" ضمن تصنيف مُعين، فلا يمكن اعتباره كفيلم خيال علمي رغم النظريات العلمية التي عرضها وطرحها للمناقشة؛ فقد جاء الفيلم كوجبة دسمة تنوعت بين الخيال العلمي والرعب النفسي، وتخلله الكثير من اللحظات الدرامية التي أظهرت الروابط العاطفية التي تشكلت بين أبطاله، بالإضافة إلى الرمزية التي احتوى عليها، فجعلته أشبه بفنتازيا لتجربة إنسانية حملت بصمة المخرج أليكس جارلاند، وهى جميعها مقومات تبحث عنها Netflix في الأفلام التي تطرحها للعرض على شبكتها، لتحقق أعلى نسب للمشاهدة وتُرضي جميع الأذواق.