تصوير نورا يونس، بإذن خاص لـ المنصة
عمال شركة غزل المحلة يقرعون الطبول مطالبين بأجر عادل وتطبيق وعود الرئيس مبارك أثناء اليوم السادس للاضراب الذي شارك فيه آلاف العمال، مصنع غزل المحلة، 28 سبتمبر 2007

"عمال على طريق يناير".. حركات عمالية بشرت بالثورة

منشور الأربعاء 1 مايو 2024

بقصد أو بدون، يؤرخ البعض لثورة 25 يناير بأنها انتفاضة شبابية دعت لها مجموعات على السوشيال ميديا ضد ممارسات الشرطة، متجاهلين أن لا ثورة تقوم من عدم، وأن الشرارة التي أطلقتها ليست هي السبب الوحيد للثورة، وإنما لحظة انفجار الإناء.

في كتابه عمال على طريق يناير، الصادر في 2024 عن دار المرايا، يطرح الصحفي العمالي هشام فؤاد رؤية مختلفة عن وقود ثورة يناير، موضحًا أن البخار الذي رفع غطاء الإناء كان نتيجة حركة اجتماعية واسعة؛ وعت وأدركت ونشطت وتحركت وصعدت وهبطت، ودفعت الثمن غاليًا.

غلاف كتاب عمال على طريق يناير

يشير هشام، في حديثه لـ المنصة، إلى أن إهمال دور العمال في ثورة يناير ربما يكون مقصودًا "فكلما أبعد النظام الثورة عن جوهرها الاجتماعي والاقتصادي كان ذلك أكثر أمانًا له، لأن هذه الأوضاع لم تتغير بل زادت سوءًا، وبالتالي أسباب الثورة لا تزال قائمة".

ويضيف أن الناظر إلى التحركات الشعبية الكبيرة التي شهدها المجتمع المصري خلال الـ100 سنة السابقة، يرى أن جميعها أتت في خضم تحركات عمالية ونقابية كبيرة انتفض فيها عشرات الألوف من العمال، تنوعت مطالبهم بين تحسين أوضاعهم المعيشية والحريات النقابية، إلى جانب مطالب سياسية ووطنية. حدث ذلك في ثورة 1919، وانتفاضة 1977، وأيضًا في 25 يناير 2011. 

من خلال كتابه، يرصد هشام ثلاث قصص من نضالات الطبقة العاملة خلال الفترة من 2006 وحتى 2011: عمال غزل المحلة، موظفو الضرائب العقارية، وعمال طنطا للكتان. ويقول إنه اختار هذه الحالات الثلاث "لأنني كنت حاضرًا فيها وشاهدًا عليها ومتابعًا عن قرب كصحفي وسياسي ومهتم".

ويلفت إلى أن هذه النماذج تعد دليلًا على أن الحركة التي قادها العمال في مواقع مختلفة، رافعين مطالب مرتبطة بالحد الأدنى للأجور، وحرية تأسيس النقابات، والمساواة والعدالة، إنما كانت البشرى بثورة يناير، فجاءت مطالبها الثلاث وشعارها الأشهر "عيش، حرية، عدالة اجتماعية" منصفة للعمال الذين خاضوا معارك طويلة لأجلها.

الشرارة من المحلة

"سامع صوت المكن الداير بيقول بس كفاية مذلّة.. نفس الصوت اللي فـ حلوان بيقول شدي الحيل يا محلّة"، من أبرز هتافات عمال المحلة الذين يسرد هشام قصتهم "لا أبالغ حين أقول إن عمال المحلة كانوا وقود ثورة يناير لأنهم ببساطة كانوا شرارة انطلاق حركة اجتماعية واسعة، وبفضل تحركهم الشجاع والبطولي تحرك العمال في مواقع عدة".

"تحرُّك عمال المحلة من أجل أجر عادل، فتح الباب واسعًا لمناقشة عدالة توزيع ثمار التنمية، وما الطبقات المستفيدة منها؟ وهل تقتصر على الرأسماليين؟"، يوضح هشام.

وبينما يسرد تاريخيًّا قصة تأسيس شركة غزل المحلة، يحكي نقلًا عن رواية الرحلة للقيادي العمالي في الشركة فكري الخولي، كيف انضم أبناء الفلاحين إلى الشركة الجديدة التي أسسها طلعت حرب، وصوت المنادي الذي كان يطوف القرى والنجوع يدعو الفلاحين لإرسال أبنائهم للعمل في الشركة الوطنية، ويعدهم بالأجر الثابت الذي سيحصلون عليه أول كل شهر.

ينقل هشام عن فكري الخولي الصورة الوردية التي رسمها الفلاحون للعمل في الوظيفة الجديدة، وصدمتهم من بيئة العمل السيئة واستغلالهم باسم الوطنية. وعن أول إضراب كبير نظمه العمال في يوليو/تموز 1938 بسبب تطبيق نظام جديد للعمل يتألف من ثلاث ورديات، كل وردية ثماني ساعات بدلًا من ورديتين، كل وردية 11 ساعة، ولأن العمال كانوا يتقاضون أجورهم بنظام القطعة، كان هذا التغيير يعني نقص أجورهم.

يبقى 17 فبراير 2008 أحد أهم أيام الحركة العمالية عندما رفع عمال المحلة مطلب تطبيق الحد الأدنى للأجور

عبر صفحات الكتاب ينقلنا هشام إلى عام 2006، ويُرجع الفضل للعمال في إحياء الأمل بعدما أصاب اليأس الجميع، "نظام مبارك أجرى التعديلات الدستورية، وجمال مبارك أصبح مؤهلًا لوراثة حكم والده، وسيطر النظام على احتجاجات القضاة، ونشر الخوف في نفوس الجميع، فجاء عمال المحلة وكسروا الصمت".

بالنسبة لهشام كانت احتجاجات ديسمبر/كانون الأول 2006 هي الأهم في موجة الإضرابات التي بدأت منذ 2004، حيث شارك فيها أكثر من 25 ألف عامل يشكلون قرابة ربع قوة العمل في صناعة الغزل والنسيج التابعة لقطاع الأعمال. فتحت تلك الاحتجاجات الباب أمام انتشار الموجة في مواقع عمالية أخرى مثل عمال الإنشاءات ومواد البناء وقطاع المواصلات ومترو الأنفاق ومصانع الغذاء وعمال المخابز، والعاملين في قطاع النفط في السويس، وكذلك الموظفين الحكوميين.

لكن يبقى يوم 17 فبراير/شباط 2008 أحد أهم الأيام في تاريخ الحركة العمالية، عندما رفع عمال المحلة مطلب تطبيق الحد الأدنى للأجور، وهو المطلب الذي يمكن أن يجتمع عليه ملايين العمال والموظفين ويوحد تحركاتهم، ما أحدث هلعًا للنظام. خاصة بعدما انضم لدعوتهم بالتظاهر يوم 6 أبريل/نيسان 2008 قوى سياسية دعت إلى عصيان مدني، ورفعت شعار خليك في البيت.

في ميدان الشون هتف العمال "يا جمال قول لأبوك.. المحلة بيكرهوك"

تعاملت السلطة مع هذه الدعوة بحزم، وتواجد الأمن في الشركة ومنع أي تجمعات، واعتقل ثلاثة من القيادات العمالية: كريم البحيري وكمال الفيومي وطارق أمين، لرفضهم مطالب الأمن وإصرارهم على المشاركة، وكذلك أعلنت الشركة الاستجابة لبعض المطالب بشرط عدم المشاركة في التظاهر.

إلا أن كل ما قدمته السلطة لم يكن كافيًا، وشهد ميدان الشون، أحد أشهر ميادين المحلة الكبرى، خروج عمال وحرفيين وموظفين وعاطلين في مظاهرة وُصفت بأنها الأضخم وقتها، هتفوا بتحسين أحوالهم المعيشية وتوفير فرص عمل، وأسقطوا صورة مبارك التي كانت تتوسط الميدان. في هذا اليوم تردد هتاف "يا جمال قول لأبوك.. المحلة بيكرهوك".

"كانت هذه بروفة حقيقية لثورة يناير، المشهد نفسه رأيناه بعد ثلاث سنوات في كل ميادين مصر، صورة مبارك كانت تحت أقدام الثوار"، ويضيف هشام "أظهرت 6 أبريل رعب النظام من تسييس الحركة العمالية".

أول نقابة مستقلة

"الموظف الشريف.. ييجي معانا عند نظيف

المواطن الشريف..  ييجي معانا عند نظيف"

اعتصام المئات من موظفي الضرائب العقارية أمام مكتب رئيس الوزراء بالقاهرة ضمن فعاليات إضراب الضرائب العقارية، 11 سبتمبر 2007

بهذا الهتاف الذي ينقله هشام في كتابه، يلخص الوعي الذي وصلت إليه حركة موظفي الضرائب العقارية في مسيرتهم الشهيرة من أمام وزارة المالية إلى مجلس الوزراء بشارع القصر العيني يوم 21 أكتوبر/تشرين الأول 2010، هذا الهتاف يعني ببساطة وحدة مطالب كل العاملين بأجر ووعي الحركة وتطورها.

يشير هشام إلى أن تحركات موظفي الضرائب العقارية، واعتصامهم أمام مجلس الوزراء، كانا مهمين على أكثر من مستوى؛ أولها دلالة التحرك "الموظفون عادة هم جزء من بيروقراطية الدولة، وهم في الغالب يفضلون المشي جنب الحيط، فلا يشاركون في احتجاجات ولا يتمردون".

الدلالة الثانية، حسب هشام، هي خطوة تأسيس كيان نقابي مستقل لأول مرة منذ سيطرة دولة يوليو 1952 على الحركة العمالية ضمن مشروعها لتأميم المجال العام ومصادرة حرية الرأي والتعبير.

ضد الخصخصة

"يسقط يسقط الاستثمار .. يسقط يسقط رأس المال"

"باعو شركتنا بلترين جاز.. للمستثمر في الحجاز"

هتافات القصة الثالثة التي رواها هشام، تعود إلى عمال شركة طنطا للكتان، معتبرًا أنها واحدة من القصص التي يجب أن تُروى وتحكى للأجيال المقبلة، ومثال واضح على أن العمال لا يتحركون فقط من أجل مطالب ضيقة، وإنما ضد سياسات الليبرالية الجديدة.

يحكي هشام القصة من البداية كمثال واضح على سياسة الخصخصة التي اتبعها نظام مبارك وشابها الكثير من الفساد، وحكمت المحكمة ببطلان عقود بعض الشركات التي بيعت بأقل من قيمة الماكينات التي بها.

ويتتبع في فصل كامل تحركات العمال التي شملت الإضرابات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية وانتهت بالمطالبة القضائية مع عدد من الشركات الأخرى بالعودة إلى القطاع العام.

ينقل الكتاب عن قيادات عمالية في الشركة، أنه تم بيعها للمستثمر السعودي عبد الإله الكعكي بقيمة 83 مليون جنيه على ثلاثة أقساط، بينما كان على أرض الشركة خامات وقطع غيار قُدِّرت بنحو 30 مليون جنيه لم تُحسب في الصفقة، وبعد فترة قصيرة سرَّح الكعكي 320 عاملًا عن طريق المعاش المبكر، وفصل 9 آخرين، منهم اثنان من أعضاء اللجنة النقابية.

وكذلك امتنع الكعكي عن دفع الأرباح كباقي الشركات، ولم يلتزم بالبنود التي تحمي حقوق العمال في العقد الموقع مع الحكومة. وأمام الإضرابات العمالية وإصرارهم على الحصول على حقوقهم، ترك مصر وعاد إلى السعودية، تاركًا العمال دون حل جاد لمطالبهم. 

نشرات العمال

حرص هشام طول الكتاب أن يظهر صوت العمال؛ البطل الحقيقي، بالإضافة إلى مشاهداته الشخصية في الأحداث، وكذلك اعتمد على الإصدارات والنشرات العمالية التي نقلت مطالبهم، ومن أشهرها "الوعي العمالي"، و"نوبة صحيان"، و"صوت السائقين"، و"اللي بنى مصر"، و"عمال ناروبين"، و"نقابتنا" و"كلام صنايعية"، و"صوت العامل".

وفي الفصل الذي خصصه للنشرات والمجلات العمالية يؤكد هشام أن دورها لم يكن يستهدف تنمية وعي العمال فحسب، وإنما العمل على خلق شبكة واسعة من المراسلين من العمال؛ يكتبون الأخبار والتقارير عما يدور ويوزعون الجريدة، ويلعبون دورًا في تنظيم الحركة.

ينتهي الكتاب إلى ضرورة تشجيع القيادات العمالية والمراكز الحقوقية والمثقفين التقدميين والأحزاب على جمع تراث الحركة العمّالية قبل أن يطويه الإهمال.