الباحثة علياء مسلم

رجال مصر يفخرون بنسائها| علياء مُسلَّم.. طريق مغاير للأكاديميا والحق في المعرفة

منشور الأربعاء 9 مارس 2016

 

قبل ١٨ شهرًا، التحقت بقسم الأنثروبولوجي بالجامعة الأمريكية في القاهرة للحصول على درجة الماجستير، بعد محاولات عديدة للاتحاق بأي من الجامعات المصرية العامة، باءت جميعها بالفشل. فدراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية في الجامعات المصرية تستلزم أن تكون حاصلا على شهادة الليسانس أو البكالوريوس في أي منها؛ أما إذا كنت حاصلا على بكالوريوس الهندسة -كما هو الأمر في حالتي- فعليك أن تبقى طوال حياتك تدرس نفس التخصص، ولا يهم هنا إن كنت شخصا فضوليًا ترغب في معرفة المزيد، أو أنك توقفت عن ممارسة الهندسة منذ سنوات واتجهت للعمل الصحفي. كل ذلك لا يهم، فالحق في الوصول للمعرفة لا يحتل أولوية في بلد لا تعبأ كثيرا بالحق في الحياة نفسها.

في البدء كانت نبيهة

قبل الحديث عن علياء مُسلّم، هناك مقدمة طويلة نسبيا يجب ذكرها: أدرس في جامعة محاطة بأسوار وتقع في بقعة صحراوية في قلب مدينة مُصطنعة "التجمع الخامس". داخل الجامعة، أشعر وكأني في فقاعة، ففضلا عن موقعها الجغرافي الفريد في عزلته، فتكاليف الانضمام إليها تجعلها- في معظم الوقت- متاحة فقط لشريحة اجتماعية محددة، لا تبدو منزعجة من الصحراء أو المدينة المصطنعة أو العزلة داخل الأسوار. هي جامعة تشبه في كثير من أحوالها الحياة الأكاديمية في تيارها السائد، منعزلة ومتعجرفة.

فالأكاديميا لديها ذلك الوجه المتعجرف المتعالي، ولديها سلطة فرض ذلك الوجه على العاملين بها تدريسًا أو بحثًا. فالاعتراف بك جزءًا من ذلك "المجتمع الأكاديمي"، مرهون بعدد الأوراق البحثية التي نشرتها في دوريات يقرأها ذلك المجتمع، وعدد المؤتمرات التي حضرتها للحديث مع أفراده، وعدد السنوات التي قضيتها في جامعات مختلفة كدارس للدكتوراة أو باحث أو مدرس.

سميعة البرلسي.. علمتني أن المساواة هي الطبيعة

قد تعيش حياة أكاديمية رائعة، معترفًا بك، وتحظى بكل مميزات هذا الاعتراف؛ تستضيفك المؤتمرات والجامعات، ويقرؤك الأكاديميون ويشيرون إلى كتاباتك ويستخدمونها كمرجع لكتاباتهم التي سيقرأها أكاديميون أيضا، دون أن ينعكس ذلك بالضرورة على ما هو خارج ذلك المجتمع. هناك من صنع الفقاعة وأجبرنا على دخولها لنيل الاعتراف بنا كباحثين أو مدرسين. كل ذلك هامٌ بالطبع؛ النقاش بين الأكاديميين ضروري لتطوير المعرفة التي ينتجونها. ولكن تفقد تلك المعرفة أهميتها تمامًا، إذا ما ظلت متداولة فقط داخل تلك الفقاعة وبين من هم بداخلها.

هكذا يبدو حال التيار السائد للأكاديميا، غير أنه توجد دائما محاولات لدفع المعرفة خارج ذلك الإطار، مثل محاولات ميشيل بوراوي لخلق قنوات وتجمعات للمهتمين بعلم الاجتماع، Public Sociology، من الجمهور غير الأكاديمي وبلغة مختلفة عن تلك المستخدمة في الجامعات والمؤسسات البحثية. وفي مصر هناك تجارب عديدة شبيهة، مثل حلقة النقاش الشهرية التي تستضيفها مؤسسة "مساحة" في منطقة عابدين، ومجموعات القراءة في مركز الصورة المعاصرة في المنيرة و"الكابينة" في الإسكندرية، وفرص دراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية في معهد CILAS بالقاهرة، وكلها أماكن ومساحات متاحة ومفتوحة لجمهور أوسع من حلقة الأكاديميين التي تظل ضيقة مهما بلغ اتساعها. وسط كل هذه التجارب، يمكن تقديم علياء مُسلّم وتجربتها مع ورشة "احكي ياتاريخ".

هبة خليفة الفنانة الطيبة

حصلت علياء على شهادة الدكتوراة في التاريخ من كلية لندن للإقتصاد والعلوم السياسية London School of Economics and Political Science عن أطروحاتها عن التاريخ الشعبي للحقبة الناصرية. في دراستها وثّقت علياء  اللحظات التاريخية الكبرى التي شهدتها تلك الفترة عن طريق التاريخ الشفهي والأغاني الشعبية. تحكي علياء أن فكرتها دائما كانت الوصول للأصوات غير المسموعة في التاريخ، أصوات من عاشوا تلك الفترة والتي يتم تأريخها عادة وفق السردية الرسمية التي تنتجها الدولة. فحملت رسالة الدكتوراة الخاصة بها روايات مجموعات المقاومة المدنية في بورسعيد وقت حرب ١٩٥٦، وأغاني أهالي النوبة المُتعلقة بالتهجير وقت بناء السد العالي، وروايات بناة السد عن رحلة ومعاناة البناء، وحكايات السويس عن الفترة بين حربي ١٩٦٧ و١٩٧٣. تطرح علياء هنا تاريخا أكثر إنسانية يحمل كل المشاعر الطبيعية من شك وارتباك وعدم يقين وإحساس باليأس والظلم أو الفخر والاعتزاز، تاريخًا أكثر حيوية.

بعد عملها كمدرس مساعد غير متفرغ بالجامعة الأمريكية، بدأت علياء في في التفكير في نقل ذلك الاهتمام بالتاريخ الشفهي إلى دوائر أوسع خارج الجامعة، ربما شعرت بنفس حالة الاغتراب التي شَعُرْت بها داخل الفقاعة، فأسست ورشة "احكي ياتاريخ"، التي تحولت إلى طقس سنوي أحرص على المشاركة فيه. بدأت الورشة في أسوان سنة ٢٠١٥، ثم انتقلت إلى بورسعيد في يناير الماضي. وفي كل مرة يشارك عدد يتراوح بين ١٤ و٢٠ شخصا من خلفيات مهنية ودراسية مختلفة، معظمهم من خارج القاهرة. يجتمعون لفترة أسبوعين تقريبا ثم يغادرون الورشة وقد تغيرت علاقتهم بالتاريخ، وحكايات أسرهم عمّا عاشوه، والمقتنيات الشخصية التي تحمل دائما زخْمًا وقصصًا قد لا ندركها للوهلة الأولى.

أن تكون "تحية كاريوكا"!

يغادر المشاركون الورشة وقد تركت فيهم أثرًا لا يزول، وينعكس دائما في صورة فعاليات أخرى. فعلى سبيل المثال، قامت مجموعة "بورسعيد على قديمه"، المهتمة بالتراث المعماري لمدينة بورسعيد، بتنظيم ورشة أخرى تالية على "احكي ياتاريخ" لنقل المعرفة لآخرين لم يشاركوا في المرة الأولى، لتتسع دوائر المهتمين بتوثيق التاريخ الشفهي.

يبدو الأمر مختلفًا عن مجرد نشر كتاب أو مقال عن أهمية التاريخ الشفهي قد يقرأه البعض ثم يتركونه جانبا. الورشة تخلق حالة مستمرة من المشاركة في إنتاج المعرفة، خاصة مع الإصرار على أن يكون ختامها دائما بمنتج متاح لعموم الناس. ففي بورسعيد اتّبع المشاركون طريقة لرسم خريطة اجتماعية للمدينة، بحيث يتم ربط كل المواد التي جمعها المشاركون، من تسجيلات صوتية وصور وأغاني وقصصات صحف وغيرها، بخريطة رقمية للمدينة وأخرى ورقية، مفتوحة لمزيد من المشاركات من المواطنين أنفسهم. وتم تدشين الخريطة في فعالية مفتوحة حضرها العديد ممن لم يشاركوا في الورشة. كما نُظّم عرض "حكي" أُعيد فيه بناء القصص التي استمعنا إليها في مزج بين الوقائع والخيال، قادر على نقل صورة أكثر إنسانية وزخما لما حدث، وكل ذلك يقوم به جمهور من غير المتخصصين في البحث التاريخي.

في كل مرة تذهب علياء إلى مدينة انعقاد الورشة تحمل معها طفلتها "تايا" وشغفها، ليس فقط بتوثيق التاريخ الشفهي، ولكن بنقل المعرفة وتحريرها وإتاحتها لمن يرغب، أي كانت إمكانياته المادية أو خلفيته الدراسية أو موقعه الجغرافي، لتنقل ذلك الشغف لباقي المشاركين. وعقب كل ورشة ينضم أفراد جدد لفريق الإعداد للورشة التالية، ليتحول المتدربون إلى مدربين، في سلسلة لا يجب لها أن تنتهي.

في كل مرة تتقاطع أيام الورشة مع ذكرى ثورة ٢٥ يناير، بشكل مقصود، فيدور نقاش حول ما جرى وما آلت إليه الأمور بعد مرور هذه السنوات؛ ودائما ما يسري إحساس بالامتنان بين المشاركين الذين جمعتهم تجربة الورشة دون سابق معرفة. امتنان أن التحرير فعل لا يحدث فقط في الميادين؛ وأن انتزاع جانبٌ من الحق في المعرفة وتحريرها من أسوار الحياة الأكاديمية بكل متطلباتها؛ لا يقل أهمية عن كل اشتباك مباشر مع قضية سياسية. وأن تحرير التاريخ من سرديته الرسمية الدولاتية يعيد للناس أصواتهم في كل حدث تاريخي، ويعيد لنا إنسانيتنا وذواتنا. وكل ذلك بدأ بشغف لدى علياء مُسلّم بتلك الأصوات وهذه الذوات.