تصميم: يوسف أيمن- المنصة

يومياتي مع كورونا| عندما حاربت لإنقاذ 4 لكنهم ماتوا في نفس اللحظة

منشور الاثنين 18 مايو 2020

الاسم: أميرة سيف.* المهنة: ممرضة. مكان العمل: مستشفى عزل تمى الأمديد- محافظة الدقهلية السن: 31 سنة.


شغلي في التمريض مش بيوفر لي فرص كبيرة إني أدخل تجارب مختلفة وأتعلم وأجرّب وأتعرف على مهارات جديدة. بعد انتشار الكورونا في مصر كنت بأتابع أخبار الوضع الصحي بحكم شغلي، وبعدين بالصدفة في ديسمبر عرفت من زميلاتي إنهم طالبين متطوعين من الفريق الطبي يروحوا العزل في إسكندرية أو مطروح. فرحت قوي وقولت خلاص هأقدم وأروح. دخلت لمديرتي في مستشفى تمى الأمديد، مركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية، وعرفت منها إن العدد اكتمل. زعلت شوية ورجعت مكاني، بعدها بأكتر من شهر، دكتور زميل قال لي "كنتِ عاوزة تروحي للكورونا، أهي جاتلك لحد عندك" عرفت منه أن المستشفى بتاعتنا هتتاخد عزل لحالات كورونا.

كل الطقم الطبي هنا اشتغل مع بعض علشان نِخلي المستشفى من الحالات العادية ونجهزها علشان تستقبل مصابين بالفيروس، ونجهّز غرف العزل وسكن للطقم ونشوف النواقص من المواد ونجرّب الأجهزة وغيرها من التجهيزات، وبعدين جالنا إخطار إنهم عاوزين يكوّنوا فرق للعزل الطبي مقابل مكافأة 22 ألف جنيه لكل واحد هيشارك في العزل.

أنا زوجة وأم لطفلين، 6 سنين و4 سنين، قبل ما آخد قرار العزل اتكلمت مع زوجي، علشان نقدر نوفر مكان آمن للولاد يقعدوا فيه، خصوصًا إني هأخرج من 14 يوم عزل صحي في المستشفى، وبعدهم أقضي 14 يوم عزل ذاتي في البيت، علشان ما أنقلهمش عدوى لا قدر الله. أول ما قولت لزوجي كان خايف جدًا وقلقان، بس قال لي ده دورك ولو ماروحتيش وخوفنا مين هيسد. كلامه شجعني وحمّسني زيادة، وروحت سجلت اسمي في العزل مع باقي زمايلي.

مفيش حالات والوضع هادي

قعدنا أسبوع أول مارس بناخد تدريبات من فريق مكافحة العدوى: إزاي نلبس البدلة وإزاي نعقم نفسنا، ونعمل سيناريوهات للتعامل مع الحالات، ونتعرف على أدوارنا الجديدة ومهماتنا. خامس يوم تدريب ودّيت ولادي عند قرايبي وبدأت أتجهز للعزل الفترة الأولى.

دخلت العزل يوم 14 مارس لحد 28 مارس ماجالناش حالات نهائي والجو هادي، بس شكّينا في حد من الفريق يكون عنده كورونا. بعد الكشف عليه وفحصه طلع التهاب رئوي عادي، وخرجت من الفترة الأولى يوم 28 روّحت البيت. تحملت يومين بس في العزل الذاتي وجبت ولادي أشوفهم وأتطمن عليهم، لكن بدأت الحالات تدخل يوم 29 مارس، بعد الفريق التاني ما استلم مكاننا.

أخدت أسبوعين في البيت، ورجعت العزل تاني يوم 14 أبريل. كنت متحمسة قوي وأنا داخلة وعارفة إننا هنقابل ضغط عمل رهيب. كمان كنت عاملة حسابي إن احتمال خروجي من هنا سليمة من غير عدوى ما يزيدش عن 1% بسبب كثرة الحالات اللي معانا وحالتهم المتدهورة.  

حصار الموت والإحباط

هنا كأننا بنحارب سراب، كل مرة يفاجئنا بمصيبة شكل. بعد أول كام يوم بدأنا نحبط بسبب الحالات اللي بتتدهور واللي تتوفى من غير أي سبب، وحالات كتير كنا متوقعين خروجهم وإنهم خلاص بيتحسنوا، بس فجأة كانوا بيموتوا.

في ست عمري ما هانساها كانت كويسة وبتاخد جلسة الأوكسجين بتاعتها فجأة راسها مالت. بنفوّقها لقيناها ماتت. يومها كنت خايفة ومخضوضة وحاسة بإحباط وألم أننا ما لحقنهاش. وفي يوم مرة واحدة أربع حالات الأوكسيجين بتاعهم نزل وماتوا في نفس اللحظة، كل الطقم كان في العناية بنحاول نلحق أي حد منهم، كأننا في فيلم رعب وبنحارب الموت المستخبي جنبنا وقريب قوي مننا وإحنا مش شايفينه.

أكتر حالة أثرت في كانت أول حالة استلمتها. دخل أول يوم لي بعد أول إجازة من العزل راجل اسمه عم إبراهيم**  كان راجل طيب وليّن وكمان مثقف قوي، ومن أكتر الحالات اللي متمسكة بالحياة بالرغم من حالته الصعبة. الأوكسجين في دمه كان في الأرض، وعلى عكس أي حد بيعاني من الاختناق بيكون متعصب؛ لكن هو كان مهذّب معانا وهادي في كلامه. كنت بأحب أدخل أكلمه، كأن هو اللي بيصبرني.

بعد 10 أيام الدكتور المتابع معايا الحالة كلمني وقال لي أخرج معاه في الطرقة وبلغني أن عم إبراهيم مات. حسيت كأن أبويا مات تاني. انهرت وفضلت أعيط و مقدرتش أتماسك خالص. على قد ما كان راجل طيب وكريم في معاملته معانا؛ كلنا لسه بنفتكره بالخير وبندعي له بالرحمة.

طبعًا بنعيش في العزل مشاعر ومواقف ملخبطة في نفس الوقت، حالة وفاة وفي نفس الوقت حالة بتتحسن وتخرج. يعني مع عم إبراهيم كان فيه مريض اسمه بولس** محجوز هو وزوجته وابنه، بس حالته كانت الأسوأ واتحجز في العناية المركزة. كان مصرّ يمشي من غير كمامة في الطرقة لما يطلع للحمام. فضلنا نقنعه أن لازم يلتزم بيها عشان سلامته وسلامتنا لغاية ما اقتنع، وخرج هو وأسرته في نفس وقت موت عم إبراهيم، فكنا فرحانين قوي وحسينا بالإنجاز مع بولس، ودا نفس اللي بنحسه مع كل حالة تخرج من المستشفى.

بنحاول دايما هنا في العزل نهوّن على نفسنا وعلى المرضى. الوضع صعب وإنك تقعدي أيام مابتشوفيش الشارع ولا بتشوفي ناس غير ناس لابسين بِدَل صفرا وطبقات فوق طبقات بتعزلك عن اللي قدامك وسامعين صوتك من الكمامة و الخوذة بالعافية؛ كل ده بيأثّر على النفسية، وبيخوّف المرضى على نفسهم، وبيحسوا إن حالتهم خطر.

جمعنا من بعض وجبنا عصاير وشكولاتة ومخبوزات وبقينا ننزل نوزع على الحالات ونطمنهم ونحاول نخلق وقت يفرّحنا ونفتكره بيننا وبين بعض خصوصًا إن ممنوع التجمعات وممنوع ناكل مع بعض.

جربتِ تمنعي نفسك من دخول الحمام 8 ساعات؟

في العزل مش مهددين بس بالكورونا، لكن ممكن ننصاب بأمراض تانية. أغلبنا جاله احتباس في البول لإننا بنقعد فوق الـ 8 ساعات بالبدلة، ودي صعب نقلعها ونروح الحمام. طالما لبستيها خلاص لازم تكملي، ده غير طبعًا أمراض الحساسية اللي بتصيبنا من لبس 9 طبقات فوق بعض، وكدمات في وشنا من الكمامة والخوذة باستمرار، ودا علشان نحافظ على مستلزمات الوقاية لإنها مش متوفرة بكميات كبيرة، وأحيانًا لو مش متوفر لبس عزل كامل؛ البنات (الممرضات) كانت بتخاف تدخل تتعامل مع المرضى ودا حقهم بصراحة يخافوا على حياتهم وهم شايفين الفيروس بيعمل إيه في الحالات.

كل اللي عيشناه جوا العزل ومواجهة الموت كوم، ومرحلة الخروج دي كوم تاني خالص. يوم 28 أبريل كنت بأجهز نفسي علشان أخرج، ولما خرجت ورجعت بيتي المرة التانية كانت أصعب فترة، لإن المرة اللي فاتت ما كانش لسه فيه حالات في المستشفى فعزلت نفسي عن الولاد يومين بس، لكن المرة دي قضيت 14 يوم كاملين لوحدي. لا عارفة أشوف ولادي ولا أتطمن عليهم بعد الغياب ده كله. وخايفة أنزل الشارع أكون حاملة للفيروس وأنا مش عارفة وأنقله لحد. حماتي ساكنة معايا في نفس العمارة، لو محتاجة حاجة كنت بخليها تحطها على الباب وتنزل. كانت تقول لي طيب عاوزة أتطمن عليكي، فكنت بأحاول أطمنها من ورا الباب إني بخير. بس خرجت منهكة جدًا ولا قادرة أتكلم أو أحكي أو أتعامل مع حد، مرهقة نفسيًا من اللي عشته و شوفته ولما خرجت مافيش أي تقدير معنوي أو مادي.

أنا من الطاقم الأساسي في المستشفى، الفريق الموجود في الأسبوعين دول من أماكن مختلفة، فأكيد لما هايقضوا مدتهم هيكلمونا علشان نرجع تاني، بس أنا مش حابة أكرر التجربة دي تاني بعد كل اللي شوفته، بس طبعًا مش هاقدر أستغنى عن مصدر رزقي، إحنا خرجنا من 10 أيام أهو وهم بيضغطوا علينا عشان يرجعونا، بس بنرفض وبنقول لهم عاوزين على الأقل مستحقاتنا عشان نحس بتقدير، و نصدق الإدارة إن لينا حقوق.


* هذه شهادة لممرضة تنشرها المنصة في باب مخصص، بعد التأكد من هوية الكاتبة والتحقق من شهادتها عبر اتباع الطرق المهنية والقانونية اللازمة، والحفاظ على خصوصية المرضى، مع عدم التدخل في صياغة الشهادة من جانبنا إلا لضبط اللغة إن كانت بالفصحى.

** كل أسماء المرضى تم تغييرها حفاظًا على خصوصيتهم.