تصميم: يوسف أيمن- المنصة

الخصوص: بلاد ما وراء الدائري

منشور الخميس 12 نوفمبر 2020

في زيارتي كل مرة إلى الخصوص، كأني أترك العالم، أتحرك من فوضى القاهرة المحسوبة بدقة، إلى فوضى من نوع آخر، حيث تسود القوانين العائلية، سواء كانت عائلتي أو ما يُكون البلد من عائلات أخرى هناك، صانعة هيراركية مختلفة، لا تحتل فيها الدولة قمة الهرم، بل تشغل، كشريك، خانته الثانية أو الثالثة.

لقد شاهدتُ على مدار العشرين سنة الماضية تحولا كبيرا في البلدة التي كنت أحسب أنها "مصر"، وأنها المقابل الحتمي لبلدي في الصعيد، حيث أسافر في الإجازات لزيارة الأقارب، وخوض مغامرة أبدو فيها أجنبية.

 

الطريق إلى مدينة الخصوص. الصورة: هدى عمران

كانت الخصوص منذ وقتٍ قريب جدا مجرد بلد نائية هادئة، تتمتع بتنوع سكاني محدود، لكن خلال العشر سنوات الماضية، دخل فيها ما نستطيع تسميته تحديثًا modernization ، ليس بسبب تحول اسمها من مركز إلى مدينة عام 2006، ولكن لأسباب أخرى؛ أولها وجود جيل جديد متعلم تربى في المدينة، وثانيها استثمارات أهل البلد أنفسهم، الذين ارتبطوا بها، وأدركوا أنها ستصبح سوقًا تجاريًا مربحًا مع الوقت، لذلك تحول الطريق الطويل الذي كنا نقطعه مراهقين نحو سنترات الدروس بكل سلاسة، إلى موقف للمنيباصات ثم إلى سوق مزدحم جدا يأتيه أهل المدينة والمدن المجاورة لشراء كل مستلزماتهم، خاصة في مواسم الأعياد.

بحسب التقسيم الجغرافي تنتمي الخصوص إلى محافظة القليوبية، لكنها تقع فعليا على حواف القاهرة وحواشيها، وفي كل مرة يتخطى الميكروباص فيها القاهرة نازحا إلى أطراف المدينة، يتعثر على الطريق المتعرج، ويدوس أوراق وفروع الكرنب التي ألقاها الفلاحون في الصباح بعدم اهتمام. يمر الطريق على شارع الشركات، الذي يمتلئ حاليا بأطنان من الرمل والخرسانة في خطوة جديدة لتطويره بعد افتتاح الرئيس عبد الفتاح السيسي لمصنع النصر للكيماويات الوسيطة، ومطالبته بالاهتمام بالمنطقة المحيطة بالمشروع، لتنهال عليها التبرعات للتطوير.

وصلت قيمة  المشروع، بحسب ما نشر من تصريحات المسئولين في الصحف، إلى 4.3 مليار دولار، تم ضخها في صورة استثمارات وقروض من 35 مؤسسة عالمية، من اليابان وكوريا والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي ودول خليجية، وخمس مؤسسات محلية، وهو يستهدف توفير فرص عمل لأهالي مسطرد اللذين لا يقارن عددهم بعدد أقرانهم في مدينة الخصوص.

 

المسجد. تصوير: هدى عمران

إلى الخصوص، يمتلئ الطريق بكميات من التراب لا مثيل لها على طرق مصر اﻷخرى، نمر على مسجد كبير ملحق به قاعة مناسبات تؤجر لإقامة الأفراح، بُني  الجامع على أرض مهجورة بأموال التبرعات التي جمعت على مدار سنين، حيث كان يقف رجل مسن بجلابية، ممسكا بصندوق، يتحين الفرصة لتوقف أي ميني باص كي يصعد وينادي "تبرعوا لبناء المسجد".

على الشريط الشمالي للطريق توجد "ترعة الإسماعيلية"، بنيت فوقها بعض الكافيتريات، حتى إن إحداها كتب عليه "تخص نقابة المحامين"، وعندما حاولنا الدخول والجلوس فيها باعتبارها ناديًا عامًا، كان يتم تطفيشنا، حيث غلب على المكان طابع الملكية الشخصية، يحوزه -فيما يبدو- بعض اﻷشخاص اللذين كانوا يتحلقون حول طاولة كبيرة، ويتناقشون في أمر ما ويدخنون الشيشة.

 أوعز لنا أحد سكان المدينة أن بناء كافيتريا هنا يحتاج لشخص يملك نفوذًا أو علاقات، يضع يده على اﻷرض، ثم تسير بقية الأمور بسلاسة، على عكس ما كان يحدث في الماضي، عندما كانت عملية وضع اليد أسهل ولا تحتاج سوى لجرأة وسور حول الأرض، ثم تأتي المصالحة وتسوية الأوضاع لاحقا.

عندما تدخل إلى الخصوص الآن، فإنك كمن يدخل غابة خرسانية، كما بتعبير رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، وهو  يستعرض فيديو  مصور عن المدينة، خلال اجتماعه مع الصحفيين سبتمبر الماضي، مؤكدًا أنها بنيت بالكامل على أراض زراعية.

آخر ما كنت أتصوره أن يتحدث رئيس الدولة، ورئيس الوزراء عن الخصوص، التي كنت أتخيلها مجهولة، أو بقعة منسية على الخريطة؛ عندما كنت تقول لأحدهم الخصوص، إما أنه لن يعرفها أو سيأتي في ذهنه مباشرة صور لبيوت من الصفيح وعصابات وبلطجية، ناهيك عن سائقي التاكسي الذين سيتركونك على الطريق إذا اكتشفوا أنهم ذاهبون إلى هناك؛ أصبحت المدينة حديث مصر ومادة جيدة للكوميك والميم في ليلة وضحاها.

 

شارع تجاري بالخصوص. تصوير: هدى عمران

بحسب الإحصاءات الرسمية، فإن عدد سكان مدينة الخصوص، يصل إلى 700 ألف نسمة، لكن محصل النور أخبرني، أن المدينة بها حوالي 2 مليون منزل، ما يعني أن عدد سكانها الفعليين قد يصل لأكثر من  مليوني شخص على أقل تقدير. يتنوع هؤلاء السكان بطرق هائلة، فهناك سكان البلد الأصليين، ومعهم المهاجرين الأقدم، اللذين أخذوا نصيب الأسد من الأراضي بوضع اليد، ويسمون أنفسهم الخصايصة، ثم السكان الأوائل، ولهم نفوذ العارف بالبلد، وهؤلاء كونوا شبكات علاقاتهم واستوطنوا شوارع بعينها واستقدموا أقاربهم للعيش إلى جوارهم، وزوجوا أبنائهم، وخلقوا تجارتهم واقتصادهم العائلي، وهناك السكان الجدد اللذين دفعتهم أسعار الشقق الرخيصة للحضور إلى هنا، وشجعهم على ذلك وجود البلد على الطريق الدائري، وهو ما تغير اﻵن، بعد أن تحولت المدينة إلى مركز تجاري مليء بمحلات الملابس والأحذية، وارتفعت أسعار الشقق فيها ليصل سعر الواحدة منها إلى 200- 300 ألف جنيه، ويصل إيجار المحل في المنطقة الحيوية  إلى 10000- 20000 شهريا.

سألت أحد السكان القدامى عن قدومه للعيش في الخصوص، فقال إنه أصلا من الصعيد وكان يقطن حي بولاق في الثمانينات، إلى أن دله أحد أقاربه عن بيوت وأراض بأسعار رخيصة في بلد نائية، فجاء مع أخوته واشتروا بيتا، من رجل كان يمتلك كل الأراضي في الشارع، ودفعوا ثمنه بالتقسيط، ثم كونوا مجتمعا صغيرا ضم أقاربًا آخرين، وتجارة مربحة دفعتهم للتمسك بالمكان، بالرغم من ما استطاعوا جمعه من ثروة.

لكن ذلك شعور غير جمعي، فثمة معلمة في مدرسة خاصة في المدينة وزوجها مهندس، تحكي أنها جائت إلى هنا أثناء الثورة عن طريق النصب، حيث أوهمهم أحد المعارف بأن المنطقة رخيصة وقريبة من الطريق الدائري، لكنها تشعر اﻵن بالندم، ولا تمتلك رفاهية الانتقال إلى حي راقي. 

لكن لماذا تكونت الخصوص؟ أو ما الذي حدث؟ وهل يمكن أن نسميها منطقة عشوائية؟

في بحثها عن استراتيجيات البقاء والمقاومة، تستعرض الصحفية ندى زين الدين، كتاب مايك ديفيز المهم "كوكب العشوائيات"، الصادر عن المركز القومي للترجمة بترجمة ربيع وهبة؛ بحسب ديفيز، فإن العشوائيات تتكون في بعض الحالات كمنتج تقدمه الدولة، أو أحد أطرافها بما لا يمر بعيدًا عن علمها أيضًا، عن طريق خطط التنمية الطرفية؛ إما عن طريق وضع اليد، وهو حيازة الأرض الطرفية منعدمة التكلفة تقريبًا، وتقديم دعم غير مخطط لأفقر الفقراء، من قبل أسواق خفية للعقارات ومقاولات العمران الحضري السحري، ووضع اليد هذا يمر بتكلفة تفتضيها الأعراف بدفع الرشاوى للساسة أو الشرطة أو البلطجية أو كلهم معًا بنسب متفاوتة، بهدف السيطرة على الموقع، ثم البدء في تحصيل هذه التكلفة إما على هيئة إيجارات من الساكنين أو خدمات وظيفية كأصواتهم في الانتخابات على مدى سنين.

السياسة الأخرى، كما يوضح ديفيز، هي عمران القرصنة حيث الأسر ذات الدخل المنخفض وما بين المنخفض والمتوسط تخضع لسيطرة سوق السكن الرسمي، حيث يمتلك المقاولون قطع أراضي غير مخططة ويقسمونها بدون الانصياع للوائح التقسيم ويطرحونها للبيع، وبعد إتمام بيع القطع كاملة، تبدأ البنية التحتية الأساسية في التطور في عملية يسميها مايك ديفيز بخصخصة أراضي وضع اليد.

هذا النمط الذي يطرحه ديفيز لا يختلف مطلقا عما حدث في مدينة الخصوص،  لكن بنظرة سريعة على الكثير من مدن الدلتا سنجد أنه نمط سائد في معظمها، ما يُصعب من إطلاق لفظ عشوائية عليها، لأن وجودها المستقر وقصدية عمرانها وتوفر الخدمات واستقرارها ينفيان عنها صفات المناطق العشوائية التي نشأت صدفة، أو نتيجة لكارثة محلية أو بيئية مع انعدام الخدمات وفقر التنوع، لكن"مدن الأطراف" أو "مدن الهامش" كما أفضل تسميتها أقرب، حيث إنها تجمع بين سمات المدن والقرى؛ قربها من القاهرة وارتباطها بعلاقات مصالح مع المدن الكبيرة، وثقلها الكمي  والكيفي من حيث عدد السكان وتنوعهم وتأثيرهم في عمليات التنمية،  وتحكمهم في اللعبة السياسية على أرض الواقع.

مثلا، يقال إن من يريد الفوز في الدائرة الانتخابية، سواءً كان مرشحا مستقلا أو ضمن قائمة، لابد من أن يضمن أصوات الخصوص أولا، وأن يمر هناك ويوطد علاقاته مع كبار البلد، ويعد الأهالي بتسوية أوضاعهم. كانت البلد هنا مركز ثقل أساسي لجماعة الإخوان المسلمين والحزب الوطني سواء بسواء، حيث تهيمن كل عائلة أو عائلات مجتمعة من الخصايصة على تيار سياسيي معين، هناك عائلات إخوانية تحولت ضمنيا نحو التيار السلفي السائد في المدينة، والذي له تفاصيل لابد من الوقوف عليها لاحقا، وعائلات الحزب الوطني التي تؤيد وتتوجه إلى السلطة أيا كان شكلها. وكلا الاتجاهين يستخدم أساليب الحشد وتوزيع السكر والزيت والتموين، واللف على البيوت بسيارات نصف نقل، وإطلاق الأغاني والأدعية للمرشح، كما اعتمدوا في وقت من الأوقات، زيارة نسائهم للبيوت لدفع النساء ككتلة انتخابية خاملة للإدلاء بأصواتهن لصالح مرشح بعينه.

 

لافتة انتخابية حديثة بالخصوص. تصوير: هدى عمران

لا يتبدل الحال الآن كثيرا عن ما قبل ثورة 25 يناير، المرشحون الدائمون فيما قبل الثورة دفعوا بأولادهم للترشح في الدورة الحالية.

أثناء تمشية ليلية بقلب المدينة، تستطيع أن ترى التأهب الواضح عند كل دوار عائلة كبيرة في البلد، سواءً كان لها مرشحًا من داخلها، أو مرتبطة بمصالح مع مرشح آخر، ثمة وجه جديد من بلد قريبة تسمى سريأوس، لكنه مرشح عن نفس الدائرة الانتخابية للخصوص، وله لافتة كبيرة مكتوب عليها "ابن الخصوص البار"، لم تمنع سكان البلد، غير المبالين بالعملية الانتخابية كلها، من التندر منه هو الأجنبي في عرفهم. هؤلاء السكان أنفسهم، يقولون إن النتيجة محسومة لصالح المرشح السابق الذي ثبت أقدامه في البرلمان، وأنفق ما يقترب من 47 مليون جنيه، بحسب الأقاويل المتداولة في البلد، وكون شبكة علاقات ستستمر إلى أن يأتي من هو أكبر منه نفوذا وعائلة ومالا.