المنصة
كمال الجنزوري. صورة معدّلة

كمال الجنزوري: رحيل موظف هادئ

منشور الخميس 1 أبريل 2021

 

كان ميدان التحرير ما يزال ينبض بالحياة في ديسمبر/ كانون الأول 2011، حين قرر المتظاهرون الاتجاه باحتجاجاتهم على بعد أمتار منه، أمام مقر مجلس الوزراء، حيث تجري الاستعدادات لعودة وجه دائم في حكومات الرئيس الأسبق حسني مبارك، رئيسًا لحكومة ما بعد الثورة.

الاحتجاجات جاءت من ثوار قضوا 18 يومًا في الميدان للتخلص من حكم مبارك، وشهورًا لإنهاء حكم المجلس العسكري خليفته، وقرروا مواصلة احتجاجاتهم منذ أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني حين علموا بمن فاز بثقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة لرئاسة الحكومة؛ الدكتور كمال الجنزوري، أحد من رجال نظام سابق أزاحته الثورة.

في ذلك الوقت، فوّض المجلس العسكري الجنزوري بسلطات رئيس الجمهورية مع استثناء الجيش والقضاء، ورأت أحزاب وحركات سياسية غاضبة أن وجوده على رأس حكومة بعد الثورة "تحايل على إرادة الشعب وإهدار دماء شهدائه".

آنذاك، أدار الجنزوري الحكومة وسط احتجاجات على قرارات اتخذها؛ وأحيت في ذاكرة البعض قرارات أخرى اتخذها وهو يشغل المنصب نفسه أواخر الألفية السابقة، حين كان واحدًا من رجال الرئيس الذي رأى فيه "رجل دولة"، ولقي تقديرًا ممن خلفوا مبارك بعد يناير، وحتى وقت رحيله أمس الأربعاء، إذ نعاه رأس الدولة نفسه وتقدّم جنازته العسكرية.

بين الباجور وميتشجان

ولد الجنزوري في 12 يناير/ كانون الثاني لعام 1933 في مركز الباجور بمحافظة المنوفية. بدأ رحلته التعليمية من كُتّاب القرية ثم إلى المدرسة الإلزامية ومنها إلى الابتدائية، قبل أن يترك المحافظة بأكملها وينتقل إلى القاهرة وهو بعد في الثانية عشر من عمره ليلتحق بالمدرسة الثانوية.

في تلك المرحلة المبكرة، التي تحدّث عنها الجنزوري في مذكراته التي خطّها بعد ثورة 25 يناير تحت عنوان طريقي.. سنوات الحلم والصدام والعزلة، وتتناول رحلته "من القرية إلى رئاسة الوزراء"، فحكى عما رآه وهو مراهق يعيش في العاصمة مع زوج اخته ويستمع منه وآخرين إلى أحاديث عن حزب الوفد الذي ينتمون إليه، لتبدأ معرفته بالسياسة التي لم تجذبه كثيرًا أحاديثها.

اتخذت حياة الشاب كمال مسارًا مختلفًا في البداية، فالتحق بكلية الزراعة وأنهى دراسته فيها عام 1957، ليحصل بعدها على وظيفة خبير الغلال في فرع بنك الائتمان الزراعي بمدينة المحلة الكبرى، وبعدها بعام التحق بالجيش لأداء خدمته مجنّدًا في سلاح الإشارة، ومنها تم توزيعه للعمل في الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

كان المجند كمال طموحًا يسعى للدراسة بالخارج، وحين واتته فرصة للسفر في منحة دراسية إلى الولايات المتحدة؛ تقدّم لها بالفعل، لكن شهادة إتمام الخدمة العسكرية وقفت عائقًا بينه وبينها، لا سيما وأن قائده رفض التماسه بأن يسمح له بالسفر في مقابل أن يعوِّض الثلاثة أشهر المتبقية له في الخدمة بأن يخدم في الجيش سنةً ونصف بعد عودته من المنحة.

لكن وجد الرجل العوض عما فاته بعد سنوات، ففي عام 1963 وحين كان موظفًا بمكتب التخطيط والمتابعة بوزارة الزراعة، سافر في بعثة علمية لدراسة الاقتصاد في جامعة ميتشجان، أعلنت عنها وزارة التخطيط، ليعود إلى مصر عام 1967 ومعه درجة الدكتوراة.

سُلَّم مهني وسياسي

من الدرجة الخامسة بسلم الوظائف الحكومية استكمل الجنزوري رحلته المهنية موظفًا بوزارة التخطيط، وذلك اعتبارًا من 3 أغسطس/ آب 1967 اليوم التالي لعودته إلى مصر، وبعدها عُيّن في معهد التخطيط القومي في 4 مارس/ أذار 1969، بدرجة خبير، التي تعادل درجة مدرس جامعي، ومن ذلك الموقع كان يحاضر في الاقتصاد حتى بلغ في أكتوبر/ تشرين الأول 1972 درجة خبير أول، التي تعادل أستاذًا جامعيًا مساعدًا.

عمَلُ الخبير في هذا المجال تحديدًا امتد إلى خارج مصر، إذ وقع عليه اختيار الأمم المتحدة عام 1972 ليعمل في هيئة التخطيط الاقتصادي بالسعودية، والتي لم يستمر فيها سوى سنة واحدة، عاد بعدها إلى البلاد وصار مديرًا فنيًا لمكتب إسماعيل صبري، وزير التخطيط في حكومة عبد العزيز حجازي.

في نوفمبر/ تشرين الثاني 1967 وأمام محافظين وأمناء مجالس محلية لمحافظات كانت بينهم جيهان السادات، رئيسة المجلس المحلي لمحافظة المنوفية وزوجة الرئيس أنور السادات، ألقى الجنزوري محاضرة عن تخطيط التنمية والمحليات؛ بعدها بثلاثة أسابيع عُيّن محافظًا للوادي الجديد.

ومن تلك المحافظة النائية، وبعد شكوته من عدم الاستجابة لمطالبه اللازمة لتنميتها؛ انتقل الجنزوري في حركة المحافظين عام 1977 إلى تولي قيادة محافظة أخرى هي بني سويف، وذلك قبل أن يعود مرّة أخرى إلى مجاله الأساسي فيصبح نائبًا لوزير التخطيط ومديرًا لمعهد التخطيط القومي.

انتهت حقبة السادات، وبدأت مع مبارك الرحلة السياسية الواضحة للجنزوري الذي كان ارتقى في العمل السياسي عندما عين في 4 يناير 1981 وزيرًا للتخطيط في حكومة فؤاد محيي الدين، ليصبح هذا التاريخ بداية رحلته السياسية الحقيقية التي امتدت لـ18 عامًا في عهد مبارك الذي تقلّد في عهده منصب وزير التخطيط والتعاون الدولي، كما صار نائبًا لرئيس الوزراء عام 1987، قبل أن يصبح رئيسًا للحكومة اعتبارًا من يناير 1996.

ضجيج بلا طحن

من موقعه وزيرًا للتخطيط، ساهم الجنزوري في وضع سياسات لدعم الاقتصاد المصري، وذلك عبر ما عُرف آنذاك بالخطة العشرينية، التي تبناها نظام مبارك بين أعوام 1983 و2003 وكانت مُقسّمة إلى 4 خطط خمسية.

بصفته رئيسًا للحكومة، عرفت مصر في عهده مشروعات ما زال منها ما يخدم الملايين حتى اليوم، مثل مدّ الخط الثاني لمترو الأنفاق "الجيزة- شبرا"؛ أحد المشاريع التي رأى فيها الرأي العام الجنزوري "منحازًا للبسطاء"، فأطلقت عليه بعض وسائل الإعلام لقب "وزير الفقراء".

لكن لم تكن كل المشروعات على هذا القدر من النجاح، ففي عهده انطلقت مشروعات بهدف تنمية سيناء والصعيد، وعرف الشعب مسميات مثل "توشكى" و"شرق العوينات" و"ترعة السلام"، التي كانت تهدف إلى توسيع الرقعة الزراعية، لكنها لم تنته إلى نجاح يتناسب مع ما دار حولها من ضجيج ضخم، بل إن منها ما حاصرته شبهات فساد كانت محل تحقيق بعد الثورة.

عام "الوقيعة"

وعلى الرغم من ذلك، حظي الجنزوري في وقت رئاسته للوزراء بشعبية كانت أكبر من التي نالها خَلفه عاطف عبيد، وسَلفه عاطف صدقي،  ما كان أحد أسباب عدم استمراره كثيرًا على رأس الحكومة، والتي لم تتعدى أربع أعوام فقط انتهت في 1999، وذلك حسبما روى في مذكراته، الصادرة عن دار الشروق عام 2014 بعد الثورة ورحيل مبارك وأكثر من عقد من الصمت.

ألقى الجنزوري في مذكراته باللائمة على "الوقيعة" التي أحدثها مسؤول كبير هو زكريا عزمي بينه وبين الرئيس مبارك، وذلك في فصل خصصه لحكي ما حدث تحت عنوان "الوداع للمسؤولية العام (1999)".


اقرأ أيضًا: نهاية عصر الاستقرار مقابل الغذاء: بروفايل لمحمد حسني السيد مبارك


تلك "الوقيعة" أحدثها عزمي على هامش زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك للقاهرة، بأن أوعز لمبارك أن الجنزوري "يخالف أوامره (الرئيس) فيما يتعلق بلقاء باراك"؛ وهو ما جعل مبارك يُعنّفه؛ فتوقع ما حدث بعد ذلك من إطاحة به من رئاسة الحكومة في 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1999، بحسب المذكرات.

عودة "المظلوم"

"أنا ظُلِمت مثلكم.. لم أنل أي تكريم لأنني كنت الوحيد الذي أعمل لصالح الشعب وما يمليه على ضميري".. تلك كانت الرسالة التي خاطب بها الجنزوري الشعب والنواب في كلمته أمام البرلمان بعد ثورة يناير، وقد صار رئيسًا للحكومة مجددًا، خلفًا لعصام شرف، وسط احتجاجات على اختياره بلغت حد الاعتصام.

 لكن العود لم يكن أحمدًا، ورئيس الحكومة الذي واجه في التسعينيات أحقاد قيادات في الحزب الوطني الديمقراطي، واجه بعد الثورة غضب من جهات لم تقتصر على الجانب السياسي فقط، من حركات مدنية وجماعات دينية طامحة في الحكم كالإخوان المسلمين، التي رفضته سياسيًا وحاربته ميدانيًا، بل كان الجنزوري بعد عودته في مواجهة غضب آخر هو العُمّالي، بعد أن شهدت فترة رئاسته الجديدة للحكومة مشكلات تمسّهم من قبيل التعيينات والرواتب والتعرض للفصل التعسفي.

وكان من بين أوجه خصومة العمال والجنزوري صدور حكمين قضائيين، يقضيان ببطلان قراره بخصخصة ما يزيد عن 50% من أسهم شركة النيل لحليج الأقطان وبيع الشركة العربية للتجارة الخارجية.

وعلى الرغم من تلك الاحتجاجات والغضب تجاهه الذي خرج حتى من جماعة الإخوان المسلمين، إلا أن هذه الأخيرة وبمجرد تسلمها مقاليد حكم البلاد، بدّلت موقفها منه. فما أن انتخب محمد مرسي رئيسًا؛ كلّف المشير طنطاوي الجنزوري بالاستمرار مع حكومته في تسيير الأعمال لحين أن يؤدي مرسي اليمين الدستورية ويُكلف غيره بتشكيل حكومة جديدة. وبعد أن حدث هذا الأمر بالفعل وصار هشام قنديل رئيسًا للحكومة، صار عدو الإخوان بالأمس صديقهم اليوم، إذ كرّم مرسي الجنزوري بقلادة الجمهورية.

وبعد شهور قليلة من الغياب، وبمجرد رحيل الإخوان، عاد كمال الجنزوري للصورة مجددًا بقرار أصدره الرئيس المؤقت للبلاد عدلي منصور، يقضي بتعيينه مستشارًا لرئيس الجمهورية، ليؤدي الرجل مهمته الأخيرة قبل أن يترك الحياة العامة إلى أن رحل بهدوء تاركًا مذكراته التي تحمل وجهة نظره في حقبة مهمة من تاريخ مصر الحديث.