تصميم: يوسف أيمن - المنصة
إهمال حالة الطفل المتأخر لغويًا لسنوات طويلة دون علاج تحرمه من فرص التشخيص المبكر لأمراض مثل ضعف السمع والتأخر العقلي ومتلازمات مثل التوحد

التلعثم ليس حالة فردية في الريف

منشور الثلاثاء 6 يوليو 2021

 

فقط بضعة أشهر من العمل طبيبة متخصصة في أمراض التخاطب فحصت فيها حالات من قرى ومراكز محافظتي كفر الشيخ والبحيرة، كانت كافية لرصد الآثار المباشرة لثنائية الفقر والجهل على حياة الناس، لحظة إدراك أن الكثير من الأطفال قد يعانون بقية حياتهم بأمراض مزمنة خطيرة كان من الممكن تجنبها في مراحل مبكرة، مثل أمراض التخاطب. 

عجوز ريفية مثلًا جاءت تحمل حفيدتها الصغيرة التي كلما رضعت استفرغت اللبن من أنفها، وأثناء فحصي للفتاة سألني أخوها الأكبر بلهجة متعثرة "هـ هـ هـ تبقى كويسة؟"، كانت أخته تعاني من شق في سقف الحلق من حسن حظها أن أعراضه أثارت قلق الأهل فذهبوا بها إلى الطبيبة.

ولدت هذه الطفلة، كمعظم أقرانها في الريف، على يد إحدى الجارات، وكانت صحتها جيدة أثناء الولادة فلم يفكر أهلها في عرضها على أطباء فور ولادتها. تحل الجارة الطيبة الخدوم محل الطبيب في كثيرًا ومن بين مواهبها المتعددة علاج أمراض التخاطب. في كثير من المناطق ما زال الصعق بالكهرباء أحد الممارسات الشائعة للتعامل مع التعلثم.

ليست حالة فردية

حالة هذه الطفلة ليست حالة فردية لأهل مهملين، فقد أشار بحث نشرته الجمعية المصرية للأذن والأنف والبلعوم والحلق والعلوم المشتركة، إلى مسح أجري على عينة من 3171 طفلًا في محافظة أسيوط، كشف أن معدلات الإصابة بأمراض التخاطب تصل إلى 7.9%. اللافت، أن هذه النسبة كانت ترتفع في الريف إلى 9.9%، وتنخفض في المدن لتبلغ 5.1%.

دراسة أخرى أجراها باحثون في مستشفى سوهاج التعليمي ونشرتها الجريدة المصرية للأذن والحنجرة، إلى أن الكثير من سكان المناطق الريفية، حيث ترتفع معدلات الفقر والأمية مقارنة بالحضر، يتساهلون في التعامل مع أعراض غير خطيرة تظهر على أبنائهم، وبالطبع لم تكن هناك أية حملات توعية بضرورة وأهمية التدخل الطبي المبكر، كأفضل طريقة لعلاج تأخر الكلام وغيره من أمراض التخاطب.

إهمال حالة الطفل المتأخر لغويًا لسنوات طويلة دون علاج تحرمه من فرص التشخيص المبكر لأمراض مثل ضعف السمع والتأخر العقلي ومتلازمات مثل التوحد، مما يؤخر استجابته كثيرًا في تلقي جلسات العلاج لفترة حيث قد يستغرق الأمر سنوات طويلة لتحقيق تحسن بطيء.

كانت الرضيعة إذن أحسن حظًا من شقيقها الذي لم يثر تلعثمه في الكلام قلق جدته مثلما أثار قلقها استفراغ اللبن، فهو يأكل ويشرب جيدًا ويلعب مع أقرانه و"ولما يكبر لسانه هيتعدل". 

ما المشكلة إذن إذا تأخر الطفل في الكلام أو تلعثم أو أُصيب بالخنفة أو الأخطاء اللغوية أو صعوبات التعلم طالما كان بصحة جيدة ويأكل ويشرب؟ سيأتي الكلام في حينه وإن لم يأت فلا بأس، يترك هذا البائس الصغير المدرسة ويذهب إلى الحقل أو إلى أي عمل آخر لا يحتاج للتواصل مع الآخرين.

ورقة بحثية نشرتها الجريدة العالمية لأمراض اللغة والتواصل تحذر من "عواقب وخيمة" قد تنتج عن إهمال الفحص والعلاج المبكر لأمراض التخاطب "تمتد من الطفولة وحتى مرحلة البلوغ وما بعدها على المستوى التعليمي والاجتماعي وأيضًا النفسي"، وأشارت إلى أن معظم الأطفال ذوي التحصيل الدراسي المتأخر عند سن 8 سنوات عانوا من تأخر الكلام عند سن الثالثة، وأن التدخل العلاجي المبكر لتأخر الكلام قلل تلك المشكلة فيما بعد بتقدم عمر الطفل.

ليس ذلك فحسب، ولكن عندما أجرى الباحثون دراسة تتبعية على مجموعتين مختلفتين من الأطفال ممن يعانوا من تأخر الكلام عند سن سنة حتى ثلاث سنوات، الأولى بدأت في جلسات العلاج والثانية لم تتلق أي علاج، وجدوا أن 85% من المجموعة الثانية ظلوا يعانون من تأخر الكلام حتى سن ثلاث سنوات بلا أي تحسن مقابل 5% فقط ممن كانوا في المجموعة الأولى. 

التوعية ليست حلًا

في ظل ذلك كله، كانت حملات التوعية بأهمية الفحص المبكر لأعراض أمراض التخاطب لدى الأطفال ستبدو حلًا مهمًا خاصة مع نجاح حملات مماثلة سابقًا مثل حملة التوعية من البلهارسيا، ولكن ذلك يصطدم بعواقب كثيرة. 

ففي وسط زحام المراكز "الطبية" المتخصصة في علاج أمراض التخاطب ويقدر عددها بالآلاف، فإن عدد أطباء التخاطب المسجلين رسميًا في نقابة أطباء مصر يبلغ 285 طبيبًا فقط، حسبما نشرت الأهرام عام 2016.

هذه المراكز التي يديرها من يدعون أنهم أطباء ويعملون بشكل غير قانوني انتشرت على نطاق واسع إلى درجة تقديم مشروع قانون في مجلس النواب لتنظيم وتقنين عملها لمواجهة تغولها في المجتمع. ولكن آثارها السلبية لا تطال المريض فقط بل تمتد كذلك إلى مجتمع الأطباء.

فبحسب الدكتور طارق ملوخية استشاري الأمراض النفسية بجامعة الإسكندرية، لا تجذب تخصصات مثل أمراض التخاطب والطب النفسي الكثير من الأطباء "بسبب اشتراك بعض الفئات الأخرى معها مثل الأخصائيين النفسيين وأخصائيي التخاطب". ويضيف للمنصة "وفي مصر مفيش ثقافة العمل الجماعي وبدل ما الناس تشتغل في فريق الأخصائي بيفتح مركز لوحده ومعظم شباب الأطباء بيختاروا تخصصات بعيدة زي الجراحة وغيرها يثبتوا نفسهم فيها". 

أما الدكتور تامر أبو السعد، أستاذ أمراض التخاطب والبلع بكلية الطب جامعة المنصورة والسكرتير العام للجمعية الدولية لطب التخاطب، فيعتقد أن حملات التوعية يجب أن تبدأ بالأطباء من مختلف التخصصات، لافتًا إلى أن ندرة الأطباء المتخصصين في هذا المجال مشكلة تواجه دولًا أخرى مثل الولايات المتحدة وإنجلترا، حسبما قال للمنصة.

وتبدو المشكلة مركبة أكثر بالنظر إلى العجز في عدد الأطباء بشكل عام وفي مختلف التخصصات، فمن بين 212 ألف و835 طبيبًا يحملون رخصة مزاولة المهنة، يعمل 82 ألفًا فقط في قطاعات الصحة المختلفة، بنسبة 38%، ليصبح لدى مصر طبيب لكل 1162 مواطن، بينما المعدل العالمي طبقًا لمنظمة الصحة العالمية هو طبيب لكل 434 مواطن.


اقرأ أيضًا: طبيب لكل 1100 مواطن: كيف هرب 62% من أطباء الحكومة؟

 

من إحدى الوقفات احتجاجية للأطباء في فبراير 2016. الصورة: الدكتورة امتياز حسونة

كانت تجربة عملي في الريف قصيرة، ولكنني صادفت فيها كثيرات مثل هذه الجدة، لم يدركن خطورة ظهور أعراض بسيطة كتأخر الكلام أو بطئه على مستقل أبنائهن، بينما تواجه محاولات إنقاذ المزيد من الأطفال من الإصابات المزمنة بصعوبات النطق والتلعثم مصاعب كثيرة، تعكس أزمات أكبر كندرة الأطباء وفساد المراكز الطبية المزيفة والمركزية المفرطة، التي تصعّب الأمر بشكل مضاعف على سكان الريف.