فليكر برخصة المشاع الإبداعي
أرغفة تنضج في الشمس

وجوه قديمة للفقر: ثورات الرغيف تدق باب البِك

منشور الأحد 26 ديسمبر 2021

 ذات يوم، أراد أحد عوام المصريين من فقراء القرن الثامن عشر الفوز بمقعد على مائدة واحد من كبار البكوات المشهورين في ذلك الزمان، وكانت تلك الموائد محظورة على الفقراء بشكل خاص، ففكر الرجل في قاض بحي باب السعادة كانت له به سابق معرفة، ذهب إليه وطلب منه زي فقيه.

ذهب الفقير متنكرًا في صورة واحد من أبناء تلك المهنة إلى قصر البِك، وبعد أن أفسحوا له مكانًا على المائدة، وفي أثناء  انهماكه في الأكل بنهم، إذا بالبِك يطلب منه أن يلقي عليهم جزءًا من القرآن، لكن الرجل كان أميًا لا يحفظ شيئا من كتاب الله، فانكشف أمره.

في السنوات السابقة على تأسيس محمد علي للدولة الحديثة في مصر خلال النصف الأول من القرن التاسع، كان ثمة تفاوت اجتماعي فج داخل المجتمع ذلك الزمان، لا تعكسه فقط تلك القصة التي أوردها المؤرخ إسماعيل الخشاب عن الحياة في مصر أواخر القرن الثامن عشر، وإنما عشرات غيرها بالإضافة إلى دلائل أخرى، نسعى من خلال هذه القراءة أن نقدم صورة موجزة عنها، وأن نرسم بعضًا من ملامح حياة الفقراء في ذلك الزمان، ليس فقط مظهرهم الخارجي، ولكن أوقات رضاهم وسخطهم، وكيف كانت النخب الحاكمة تسيطر عليهم وتكبح جماح ثوراتهم.

وجوه الفقر في مصر

2.5 بارة في اليوم، هو الدخل الذي يكفي بالكاد للعيش في ذلك الزمان، والبارة هي عملة عثمانية، كانت سائدة في هذا الوقت، وبحسب دراسات تاريخية فإن الغالبية من الأسر كان دخلها يدور حول ذلك الرقم، أو بتعبير آخر كانوا من الفقراء.

توزع الفقر بين مهن عدة في ذلك الوقت، فمنهم قطاع كبير من صغار المزارعين، ممن يستأجرون الأرض من الدولة ويدفعون الضرائب في مقابل ذلك، ثم يتكسبون من النذر القليل الذي يجنونه من زراعتهم. وكانت ضرائب الدولة باهظة، تصل أحيانًا لثلاث مرات في السنة الواحدة، لذا كانوا يعيشون حياة بائسة في بيوت مبنية من الطوب اللبن يتشاركون فيها الحياة مع مواشيهم.

وفي المدن توجد الطبقة العامة أو السوقة أو أهل الحرف السافلة (المشتغلين بمهن متواضعة) أو الحرافيش، كانت أفقر طبقة في مجتمع المدينة، وقدر كتاب وصف مصر عددهم بستين ألفًا في القاهرة، هذا بخلاف الفقراء في أوساط الحرفيين، كالحدادين والنجارين والجزارين، أو من يطلق عليهم المؤرخون "المتسببين".

وبشكل أكثر تفصيلًا، كان المرء يحتاج لـ 630 بارة تقريبًا سنويًا على النفقات الغذائية، التي كانت عبارة عن شعير وجبن قريش وبصل وفول وعدس وبعض الأطعمة البسيطة الأخرى التي تكاد تؤمن الحياة، بالإضافة إلى 270 بارة تنفق على تكاليف الكسوة ونفقات إضافية أخرى تقدر بـ 50 بارة، أضف إلى ذلك 38 بارة كأجرة للسكن؛ وفقًا لأقل أجرة رصدتها وثائق المحاكم الشرعية نظير السكن في إحدى الوحدات السكنية بربع السكريين عند باب زويلة. لذا تقدر نفقات الأسرة المعدمة بـ 970 بارة تقريبًا سنويًا أي 2.5 بارة يوميًا، وهو حد الفقر الأدنى.

وبسبب ضيق الحال كان الكثير من أبناء هذه الطبقات يُسقط من تلك القائمة بند الملبوسات، وهو ما لاحظه جون أنتس في كتابه ملاحظات على المصريين وعاداتهم وتقاليدهم في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، عندما أشار إلى معاناة الطبقات الدنيا من نقص في الملابس.

 وبناءً على ما أورده الرحالة والقناصل الأوروبيين يتبين أن المصريين العوام كان غذائهم متواضع وفي حالة سيئة، إذ كانوا يأكلون الجبن المالح مع بعض شربة الأرز والبطيخ والخيار والبصل والمش والبيسار (خليط من الفول والبطاطا) والبليلة وخبز القمح والعدس، ونادرًا ما كانوا يأكلون اللحوم والطيور إلا في المواسم والأعياد.

في حين ينقل المؤرخون الحوليون في تلك الفترة الأخبار عن الموائد والأسمطة التي كانت تعدها الفئات الميسورة في المجتمع، والسبب في اهتمام المؤرخين بهذه الموائد هو حالة المباهاة والتفاخر في أوساط الطبقات العليا بالولائم التي كانوا ينظمونها بشكل مستمر، يأخذنا ذلك للحديث عن ملامح حياة الطبقات العليا في ذلك الزمان.

من أغنياء مصر؟

يصف المؤرخ إسماعيل الخشاب، أثرياء العقود الأخيرة في القرن الثامن عشر بمصر وهو يتحدث عن التفاوت الشاسع بين نمط حياة هذه النخبة القليلة، والقاعدة الواسعة من المصريين، قائلًا "ترفهوا في ملابسهم ومأكلهم ومشاربهم وخرجوا عن موضوع من كان قبلهم من الأمراء المتقدمين". هؤلاء الأثرياء كانوا إما من الأتراك العثمانيين، أو من المماليك النافذين في السلطة، بجانب الأغنياء من طبقة التجار(البورجوازية المصرية القديمة).

وتدل الألقاب التي حملها التجار على التفاوت الطبقي الموجود في تلك المهن نفسها، واستئثار نخب قليلة بالسيادة على هذا النشاط، فهناك "الخواجة" وهو الذي لا يزال في بداية نشاطه، وهناك من يحمل لقب "فخر التجار"، أو من "أعيان التجار" أو حتى "عين أعيان التجار".

وعلى رأس كل تجارة كان هناك "شيخ" يقوم بدور المنظم للسوق، مثل شيخ سوق خان الخليلي، أو شيخ لوكالة تجارية معينة مثل شيخ التجار في وكالة الصابون أو سوق الفحامين.

وعلى قمة هذا الهرم هناك "الخواجكي"، ويحمل هذا اللقب عدد محدود من أصحاب التجارة الواسعة الممتدة إلى أسواق خارجية، وهناك أيضا لقب "الشاهبندر" الذي يحمله شيخ طائفة التجار، ويمثل ذروة المكانة التي يصل إليها التاجر عندما تتعاظم ثروته ونفوذه الاجتماعي بين جماعة التجار، ولعله أرقى المناصب غير السياسية التي يصل إليها بعض أفراد الرعية.

مسكنات تحول دون الانفجار

بجانب ولائم التفاخر والتباهي، كان لطبقة الأثرياء بعض سياسات الإنفاق الاجتماعي، التي كانت تعتمد عليها لتهدئة حالة الغضب في أوساط الفقراء، أو بتعبير آخر للحد من المتطلفين على موائدهم مثل الفقير الذي تنكر في زي فقيه وأشرنا إليه سابقًا.

كانت طبقة الأعيان تختار أيامًا معينة في السنة لتعد فيها الولائم، حتى سميت تلك الأوقات بـ"أيام الولائم" مثل أول رجب وذكرى المعراج وليلة النصف من شعبان وليالي رمضان والأعياد وعاشوراء والمولد النبوي الشريف، حيث كانوا يطبخون الأرز باللبن والزردة، ثم يفرقون منها على من يعرفونه من المحتاجين ويجتمع في كل بيت الكثير من الفقراء، للحصول على الخبز الموزع.

كذلك كانت كل طائفة من الحرفيين تحاول أن توفر قدرًا من المساندة الاجتماعية لأبناء الطائفة، فكان أعضاؤها يخصصون جزءًا من أرباحهم للمنفعة العامة لطوائفهم، وكان لكل طائفة صندوق تعاوني، يتم تمويله من اشتراكات أسبوعية أو شهرية وإيرادات أخرى من الأموال التي كان يقدمها المعلمون أو الأسطوات.

خصصت تلك الإيرادات لمساعدة الأعضاء في حالات المرض والعجز والمتاعب الأخرى، فمثلًا في حالة وفاة عضو فقير من الطائفة كانت نفقات جنازته تصرف من الصندوق التعاوني لتلك الطائفة، ويشترك باقي الأعضاء في تشييعه والاهتمام بأمر أسرته، كما يمكن للأعضاء الذين يرغبون في توسيع محلاتهم أو ورشهم الاقتراض من هذا الصندوق.

لكن هذه الأشكال من التضامن الاجتماعي لم تمنع حالات الانفجار.

ثورات الرغيف

"في غرة المحرم سنة سبع ومائة وألف اجتمع الفقراء والشحاذون رجالًا ومن نسا وصبيان، وطلعوا إلى القلعة، ووقفوا بحوش الديوان، وصاحوا من الجوع، فلم يجبهم أحد، فرجموا بالأحجار. فركب الوالي وطردهم، فنزلوا إلى الرُميْلة، ونهبوا حواصل الغلة التي بها، ووكالة القمح، وحاصل كتخدا الباشا، وكان ملآنا بالشعير والفول، وكانت هذه الحادثة ابتداء الغلا حتى بيع إردب القمح بستماية نصف فضة، والشعير بثلثماية، والفول بأربعماية وخمسين، والأرز بثمانماية نصف فضة، وأما العدس فلا يوجد، وحصل شدة عظيمة بمصر وأقاليمها، وحضرت أهالي القرى والأرياف حتى امتلأت منهم الأزقة، واشتد الكرب، حتى أكل الناس الجيف، ومات الكثير من الجوع، وخلت القرى من أهاليها، وخطف الفقراء الخبز من الأسواق، ومن الأفران، ومن على روس الخبازين، ويذهب الرجلان والثلاثة مع طبق الخبز يحرسونه من الخطف، وبأيديهم العصا، حتى يخبزوه بالفرن، ثم يعودون به، واستمر الأمر على ذلك إلى أن عزل علي باشا في ثامن عشر المحرم سنة سبع ومائة ألف".

هكذا وصف الجبرتي إحدى الانتفاضات في القاهرة العثمانية التي جرت وقائعها في عام 1695 ميلاديًا، إبان أزمة اقتصادية طاحنة أطاحت بالمجتمع المصري كله تسببت بها الصراعات المملوكية. 

لم تكن الواقعة على ضخامتها هي الوحيدة من نوعها، فقد رصد المؤرخون خلال النصف الأول للقرن الثامن عشر سبع اضطرابات مشابهة داخل القاهرة، وقعت خلال الأعوام 1700، 1714، 1715، 1722، 1723، 1731، 1733، ونشبت بسبب تفشي الجوع في أوساط الطبقات الفقيرة في ظل أزمات اقتصادية متوالية، وكانت هذه الأزمات تحدث بعد انتشار الآفات في الأراضي الزراعية أو الأوبئة ما كان يؤدي لفساد المحصول، وأحيانًا نتيجة العجز المالي القوي لدى الدولة، الذي كان يدفعها لفرض ضرائب باهظة على الفلاحين، خاصة مع تعاقب الأسر الحاكمة والمماليك ما كان يؤدي إلى جباية الضرائب مرتين أو ثلاث في الحول الواحد، وهو ما كان يقود الكادحين إلى الانفجار في وجه النخب الحاكمة.

وأحيانًا أيضا تقع الأزمات لأسباب تتعلق بالصراع السياسي الداخلي، على سبيل المثال ما حدث في بداية القرن الثامن عشر من وقوع مجاعة كبيرة  بسبب منع "الهوارة"، وهي إحدى القبائل المشهورة والكبيرة في صعيد مصر، إرسال سفن الغلال إلى القاهرة من محاصيلهم، لخلاف سياسي نشب بينهم وبين حسين باشا والي مصر في تلك الفترة، وكانت تلك الحادثة متكررة.

وهناك ارتباط واضح بين تفشي الغلاء في تكاليف المعيشة وحدوث الأوبئة؛ حتى أن العديد من المصادر التاريخية كانت تربط بينهما، إذ إن أزمات الغلاء كانت تؤدي إلى سوء التغذية مما يضعف المناعة فيساعد ذلك على انتشار الأوبئة بشكل أكبر، لذا تتكرر في كتابات المؤرخين عن مصر القديمة تعبيرات من قبيل "وغلت الأسعار فسبب ذلك في الفناء العظيم (الطاعون)".

وكانت الاضطرابات تحدث على شكل ثورات شعبية يتجه فيها العوام إلى تخريب الممتلكات التي تتعلق بالسلطة الحاكمة سواء كانت تابعة إلى الوالي أو النخبة العسكرية، ثم تتجه إلى ميدان الرميلة لقربه من القلعة مركز الحكم ويقومون بنهب وحرق مخازن وحوانيت تجار الحبوب في هذا الحي التجاري كما حدث سنة 1678 على إثر المجاعة التي حدثت في تلك السنوات. 

لكن برغم تكرار الأزمات كان لدى السلطة قدرة واضحة على السيطرة على تلك الاحتجاجات من خلال طريقتين أساسيتين، إما بقمعها عسكريًا من خلال مواجهة المماليك لها بالأسلحة، أو بتقسيم مجموعة الناس على كل مملوك وأمير يعطيهم الهبات والعطايا من أجل كسب ولائهم بشكل مؤقت حتى تمر الأزمة، و وينتهي الوباء أو تهدأ الأسعار عند وصول شحنات الغلال.

في الواقع فإن تلك الأحداث المتراكمة في تاريخ مصر الاجتماعي، لم تثقل سوى كاهل الفقراء والطبقة الدنيا من المصريين، وهو ما انعكس في النهاية على سلوكهم العدائي تجاه السلطة طوال الوقت، ولم يكن ذلك الأثر الوحيد الذي تركه الفقر في المجتمع، بل أثر هذا بشكل أساسي على تعدد الأوبئة على المجتمع والإبادات المستمرة التي نتجت عنها  بسبب نقص الغذاء وقلة الحيلة في العلاج، فخربت البلاد اقتصاديًا، حتى لم يعد للمجتمع قوام يعتد به. 


  • المصادر والمراجع:

- الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار.

- ناصر إبراهيم، الأزمات الاجتماعية في مصر في القرن السابع عشر.

- نللي حنا، ثقافة الطبقة الوسطى في مصر.

- نللي حنا، تجار مصر في العصر العثماني.

- ليلى عبد اللطيف، المجتمع المصري في العصر العثماني.

- ميكل ونتر، المجتمع المصري تحت الحكم العثماني.

- عبد الرحيم عبد الرحمن، الريف المصري في القرن الثامن عشر.

- ناصر إبراهيم، أيام الولائم وعادة الضيافة "ورقة بحثية".

- ناصر إبراهيم، آداب وطقوس شرب القهوة في القاهرة العثمانية "ورقة بحثية".