مُتَرْجَم| فرنسا تواجه أزمة الهوية.. بمنع "البوركيني"

منشور الأحد 21 أغسطس 2016

علماء الاجتماع يرون أن حظر البوركيني يأتي لحماية الأغلبية الفرنسية غير المسلمة، من الاضطرار لمواجهة التغيير الذي يشهده العالم، والذي يجبرهم على مراجعة إحساسهم بهويتهم، في الوقت الذي يفضل فيه الكثيرون منهم أن يبقى الحال على ما كان عليه.

أماندا تاوب- نيويورك تايمز

هناك شيء عميق يدير الرأس في ما يدعى "منع البوركيني"، ذلك المنع الذي ينتشر كالطفح الجلدي في المناطق الساحلية في فرنسا. التناقض جليّ، فهنا تُفرض قواعد تتصل بما يجب أن ترتديه النساء؛ تتأسس على فكرة رفض إخضاع النساء لقواعد أخرى، تفرض عليهن ما يجب أن يرتدينه[1]، ولكن وفقًا لرؤية أخرى دينية. هذا يعني بوضوح أن هناك شيئًا أعمق يحدث هناك.

"البوركيني" هو ثوب سباحة يغطي الجسد بالكامل، ويتماشى مع القواعد الإسلامية للاحتشام. يوم الأربعاء الماضي، أدلى رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس بدلوه في ذلك الجدل المشتعل، منذ أقدمت عدة مدن ساحلية فرنسية على إصدار قرارات بحظر ارتداء البوركيني، واعتبار الرداء الذي نادرًا ما يظهر على الشواطئ جزءًا من "استعباد النساء".  

هذا بالطبع ليس شأنًا متعلقًا بملابس السباحة. علماء الاجتماع يرون أن حماية النساء المسلمات من الأبوية الذكورية، ليس حتى من أولويات تلك القرارات. ولكن حظر البوركيني يأتي بهدف حماية الأغلبية الفرنسية غير المسلمة من الاضطرار لمواجهة التغيير الذي يشهده العالم، والذي يجبرهم على مراجعة إحساسهم بهويتهم، في الوقت الذي يفضل فيه الكثيرون منهم أن يبقى الحال على ما كان عليه.

يقول تيرانس جي بيترسون الأستاذ بجامعة فلوريدا الدولية: "هذه التصريحات المعلنة هي طريقة لفرض ما هو فرنسي، وما هو ليس كذلك". تيرانس متخصص في البحث في علاقة فرنسا بالمهاجرين المسلمين وبالعالم الإسلامي.

بينما يتزايد هذا الصراع على الهوية مع "صحوة الهجمات الإرهابية"؛ فالواقع أن جذور هذا الصراع تمتد لعقود في المجتمع الفرنسي، حسبما يقول باترسون، فإن هذا الجدل حول القضية الضيقة للزي الإسلامي؛ هي في الواقع جدل حول "ما يعنيه أن تكون فرنسيًا".

خلال الحقبة الكولونيالية (الاستعمارية) الفرنسية، عندما كانت فرنسا تسيطر على مناطق مسلمة واسعة النطاق، كان الحجاب "رمزًا مشحونًا بالدلالات المتعارضة"، كما يصفه بيترسون. فقد عومل الحجاب كرمز على تخلف المسلمين، بينما كان ينظر لمرونة معايير المرأة الفرنسية في ارتداء ما تحب؛ كرمز لتفوق الثقافة الفرنسية، مثل هذه الرؤى كانت تبريرًا للكولونيالية. 

تلك الكولونيالية هي ما أعدت لفرنسا أزمة هويتها التي تمر بها اليوم. فهي التي غرست الإحساس بأن الهوية القومية الفرنسية متميزة وتفوق هويات المسلمين، وفي نفس الوقت هي تحمل الوعد بفرصة لاحتضان المسلمين الذين أخذوا في الهجرة إلى فرنسا بأعداد كبيرة. والنتيجة صدام ثقافات يتبدى في الجدل حول الملابس. 

ظل الحجاب رمزًا قويًا للاختلاف مع انهيار الاستعمار في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتدفق المسلمين من الدول المُسْتَعْمَرَة إلى فرنسا. لكن الآن؛ صار هذا الاختلاف مقيمًا داخل الدولة التي تحاول أن تجد هويتها بعد نهاية الاستعمار.

بمرور الأجيال، أصبح الحجاب أكثر انتشارًا بين المسلمين الفرنسيين باعتباره ممارسة دينية، وربما باعتباره رمزًا لموروثهم الثقافي المختلف. كان هذا علامة واضحة على أن نظرة فرنسا لنفسها ولدورها في العالم تتغير. 

نتيجة لهذا؛ لم يعد الحجاب مجرد رمز للاختلاف الديني، بل هو دليل على أن أصحاب الأصول الفرنسية لم يعودوا يحتكرون الهوية الفرنسية. أصبحت فرنسا أمة متعددة الثقافات، تعني "العادات" فيها معانى تختلف كثيرًا بين المجموعات السكانية.

الرؤية الكولونيالية للحجاب كعلامة على الدونية الثقافية للمسلمين، جرى استدعاءها لتكون منصة الهجوم الرئيسة لفرض الهوية الفرنسية التقليدية، ليس فقط كثقافة مهيمة؛ ولكن.. كهوية ثقافية وحيدة في فرنسا.

ربما يبدو البوركيني مخيفًا، لأنه ينظر إليه باعتباره تهديدًا لعنصر مهم في الثقافة الفرنسية [حق المرأة في السيطرة على جسدها]. وكذلك باعتباره تعبيرًا عن شكل بديل من الهوية – الهوية الدينية للمسلمين في هذه الحالة- العديد من الفرنسيين لا يرونهما هويتان بإمكانهما التعايش المشترك، وإنما هويتان متناقضان، وهما –بالضرورة- متصارعتان. 

هناك حتى تعبير فرنسي يستخدم للتحقير من تلك الهويات البديلة وهو "عزلة الطائفة"[2] وهو أمر ينظر إليه -عند تزايده- ككارثة قومية.

الملابس الإسلامية كالحجاب والبوركيني، صارت رمزًا لحقيقة أن الهوية القومية الفرنسية لم تعد فقط ما اتفقت عليه المجموعات العرقية التي استوطنت هذه البلد لقرون. قوانين مثل حضر ارتداء البوركيني في الصيف مقصود بها منع توسيع مفهوم "الهوية الفرنسية"، من خلال إجبار الفرنسيين المسلمين ليس فقط على الاندماج، بل وعلى تبني المفهوم الضيق الجامد للهوية.

هذه هي الطريقة التي تبنتها فرنسا لعقود، دون أن تمل الفشل المتكرر.

جون بووين باحث في الأنثروبولوجي في جامعة واشنطن في سانت لويس، يرى أن فرنسا تميل دومًا لتجربة فرض القواعد الصارمة على المسلمين، عندما تمر بأزمات محلية ودولية ترتبط بالمسلمين والعالم الإسلامي.

بدأ هذا عام 1989، عندما بدأ طرح ما يسمى "مسألة الحجاب". وقتها؛ تم إيقاف ثلاث فتيات فرنسيات عن الدراسة في مدارسهن، بسبب رفضهن خلع الحجاب في المدرسة. ظاهريًا؛ كان هذا القرار لكون الحجاب رمزًا دينيًا، وبالتالي فهو ينتهك قاعدة العلمانية الفرنسية. لكن العلمانية كانت في القوانين منذ 1905، ورغم هذا كان الحجاب مسموحًا به على نطاق واسع.

فما الذي تغير؟ البروفيسور بووين وضع كتابًا حول هذه المسألة، يناقش فيه إن كانت الأحداث التي جرت في العالم وقتها وجعلت الإسلام يبدو تهديدًا مميتًا، هي السبب في هذا التحرك المفاجئ. في 1989، أصدر المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية أية الله روح الله الخميني فتوى بإهدار دم الكاتب سلمان رشدي. وفي نفس الفترة تقريبًا؛ شكّل جزائريون جبهة الإنقاذ الإسلامية، وهو حزب إسلامي متشدد تمرد على الدولة لاحقًا[3].

حظر غطاء الرأس في المدارس الفرنسية صار وسيلة للتعاطي مع القلق الناجم عن تلك الأحداث المحلية والدولية، لهذا استند إلى الزعم بحماية القيم الفرنسية.

أغطية الرأس في المدارس عادت لدائرة الضوء المحلية في 1993 و1994، عندما بدأ  قلق السلطات الفرنسية من أن ينضم الرجال الجزائريو الأصل المنتمين لعائلات هاجرت إلى فرنسا، إلى التمرد الإسلامي في الجزائر. عقب الهجوم الإرهابي في 11 سبتمبر 2001، عادت أغطية الرأس مرة أخرى كمحور اهتمام، بالنظر إلى الكوميونات المسلمة المنعزلة على المجتمع والثقافة الفرنسيين.  

هذا الصيف؛ تتخبط فرنسا بعد موجة من الاعتداءات الإرهابية القاتلة، ويتزايد قلقها من الشباب الفرنسيين المسلمين الذين يغادرون إلى سوريا للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية، أو غيرها من المجموعات الجهادية. مرة أخرى؛ يرى البعض في فرنسا أن استيعاب المسلمين في المجتمع والثقافة الفرنسية هو قضية أمن قومي.

غطاء الرأس هنا هو رمز قوي لذلك القلق الشديد والارتباك نحو قضية الاستيعاب تلك، لأنه من المفترض أن ارتداءه مسألة خيار شخصي. وفي الوقت الذي لا تشكل فيه خصائص مكتسبة بالميلاد كالعرق أو لون الجلد أي تهديد للثقافة والقيم الفرنسيين؛ إلا أن ارتداء ملابس بعينها يشير إلى قرار صاحبها بأن يكون مختلفًا، إلى أنه يعطي هويته الثقافية والدينية مكانة متفوقة على ثقافة البلد التي تبنته ويحيا فيها.

حظر الثياب المختلفة، يقصد بها إحداث تأثير يدفع المسلمين الفرنسيين للابتعاد عن هويتهم الطائفية وتبني الهوية الفرنسية القومية الضيقة، التي يسبق وجودها وصولهم إلى فرنسا. ولكن محاولات فرض الاندماج يمكن أن يكون لها تأثير معاكس: فإعطاء رسالة للمسلميين الفرنسيين مفادها أنهم لا يمكنهم أن يكونوا مسلمين وفرنسيين في نفس الوقت، وإجبارهم على الاختيار بين الهويتين؛ هذا يعني –بالتبعية- إقصائهم عن هويتهم الوطنية عوضًا عن دعوتهم للإسهام فيها.

لكن، أمام فرنسا خيار آخر. بإمكانها توسيع هويتها الوطنية لتتضمن المسلمين الفرنسيين كما هم. ربما يبدو هذا مخيفًا لكثير من الفرنسيين. أو التخلي عن تلك "الوطنية التقليديدية المريحة" وإكسابها بعدًا جديدًا.

وفي غياب القبول لهذا التغيير؛ يتم الضغط على المسلمين ليتولوا مسؤولية حل أزمة الهوية هذه، ولكن عقودًا من المحاولة في هذا الاتجاه، جلبت القليل من التطور والكثير من التوتر.

 

[1] - المقصود هو أن إصداؤ تلك القرارات والقوانين التي تمنع النساء من ارتداء ثياب بعينها ذات صبغة هوياتية، تتم بهدف حمايتهن من ارتداء تلك الثياب بأوامر مستمدة من أفكار ابوية لا ترى للنساء حق ف يالتحكم في أجسادهم وارتداء ما يحبون ارتداءه (الإسلام).

[2] - المقصود ميل الطائفة المسلمة للانغلاق على نفسها والحياة في جيتوهات منعزلة بعيدًا عن المجتمع الفرنسي.

[3] - الجبهة الإسلامية للإنقاذ: تأسست في الجزائر في فبراير/ شباط 1989، اكتسح الانتخابات التشريعية الجزائرية في مطلع التسعينات فتدخل الجيش الجزائري لإيقاف الانتخابات بناء على أوامر من الحزب الحاكم (جبهة التحرير الوطنية)، وقام الجيش بالقبض على قيادات الجبهة الإسلامية وحل المجالس البلدية التي فازت بها الجبهة في انتخابات المحليات. فانقسمت الجبهة بين الاحتجاج السلمي وبين تكوين "جيش إسلامي" قام بعمليات عسكرية أطلقت حربًا اهلية استمرت 10 سنوات تقريبًا في الجزائر.