الحوائط الحاملة.. عمران اقتصادي يبدأ من الفكر قبل الإنشاء

منشور الأحد 21 يناير 2018

حين كنت طالبًا في السنة الأولى من دراسة الهندسة المعمارية، درست النظم الإنشائية، ومنها نظام الحوائط الحاملة الذي طبق في فترات سابقة ليست بالبعيدة، ورغم نجاحه لم أجد بعدها أية دراسة أخرى عنه. واعتمدت كل المشاريع التي نقوم بها أثناء الدراسة على نظم الهياكل الخرسانية المعتادة، وكذلك في الحياة العملية. فأدركت أنه لا مجال لتطبيق هذا النظام إلا بتغيير الفكر العمراني للمسيطرين على صناعة البناء، وليس ذلك لمجرد التغيير، ولكن للوصول لنظام يوفر اقتصاديًا ويتآلف مع البيئة المحيطة.

يعد نظام الحوائط الحاملة من أقدم نظم الإنشاء. ويتلخص في الاعتماد على الحوائط في توزيع الأحمال من الأسقف وإيصالها إلى القواعد، والتي تكون شريطية في هذه الحالة. وتبنى الجدران الحاملة باستخدام الحجر أوالطوب الاحمر، بينما تكون الأسقف من الخرسانة المسلحة. ويوفر هذا النظام حوالي 20% من تكاليف الهيكل الخرساني. حيث يتم الاستغناء عن كل العناصر اﻹنشائية الخرسانية ما عدا الأسقف.

العمران المصري الحالي

لا يمكن حصر العمران داخل مصر في طراز معين، وليست له سمة عامة سوى أن أغلبه يعتمد على إنشاء هيكل خرساني بنظام الكمرة والعمود، أو النظام الأحدث (flat slab) والذي يقلل من وجود الكمرات داخل المبنى. مع إنشاء الحوائط بمواد الطوب الاحمر أو الأسمنتى بسمك 12 سم، وبسمك 25 سم للحوائط الخارجية في أفضل اﻷحوال.

ورغم أنه لا بديل عن هذا النظام في المباني المرتفعة، إلا أن الإسكان فى المدن الجديدة يشترط ألا يتعدى الارتفاع في أقصى الأحوال خمسة طوابق، وهو ما يمكن تحقيقه عن طريق الحوائط الحاملة التي هي أوفر في التكلفة.

ولو كانت التجربة لأصحاب العمارات المنفردة صعبة، فالتجمعات السكنية التي انتشرت بشدة في الآونة الأخيرة، لم يفكر بناتها أيضًا فى تغيير طرق البناء وموادها، أو في النظر للجانب الاقتصادي، بينما كان كل توجههم ووجهتهم إلى الجانب الجمالي الغربي ومحاكاته كما هو، فيما يعد غريبًا على بيئتنا، ولا يستطيع التكيف معها. فالنظام الإنشائى السائد لا يقي المنازل من التأثيرات المناخية الخارجية، فتصبح عديمة الجدوى كأنك تسكن بالشارع.

فى عام 2008 ومع ارتفاع أسعار حديد التسليح والأسمنت، اتجه العديد من المعماريين والمفكرين فى التطور العمراني إلى التوصية باستخدام مواد أخرى، حتى يتم تخفيض تكلفة البناء بما يناسب محدودي ومتوسطي الدخل. وكانت الفكرة في العودة إلى الأساليب القديمة في البناء بالحوائط الحاملة، والتي كانت أوفر فى التكلفة، بعيدًا عن الجانب البيئي.

وافق وقتها مجلس الشعب على مقترح أحد النواب للعودة للبناء بطريقة الحوائط الحاملة، وأيده في ذلك أكبر أساتذة واستشاريين العمارة، حيث وافقوا على أنه الحل الأفضل، وأن عيوبه لن تؤثر كثيرًا فى ظل المميزات الأهم. بعد هذا القرار كان هناك نسبة من منتفعي مشروع "ابني بيتك" يطالبون ببناء بيوتهم بالحوائط الحاملة وتبرع المهندس ممدوح حمزة بعمل التصميمات الخاصة بذلك.

المشروعات السكنية والقرى السياحية هي أفضل ما يمكن تنفيذه بنظام الحوائط الحاملة. وكذلك كانت تنفذ قديمًا فكم من منازل وفيلات في محافظات مصر المختلفة كانت تبنى كلها بالأحجار وبنظم الحوائط الحاملة، وكذلك كانت القرى السياحية في المناطق الجبلية لتوافر الأحجار التي يمكن استخدامها.

مميزات وعيوب الحوائط الحاملة وما يتردد عنها

ما يتردد حول صعوبة البناء بالحوائط الحاملة يكذبه الواقع، حيث نجد الكثير من العمارات في وسط المدينة وكذلك القصور كقصر عابدين منشأة بالحوائط الحاملة، ولا تزال جميعها فى حالة جيدة. إضافة إلى كفاءتها البيئية. فتشعر فيها بالدفء في الشتاء ويكون جوها رطبًا لطيفًا في الصيف، حتى أنها قد لا تحتاج قدر ما تحتاجه عماراتنا الخرسانية المعتادة.

مما يؤخذ على البناء بالحوائط الحاملة أيضًا أنه يأخذ من المساحات الداخلية حيث تكون الحوائط سمكها 25 سم وتصل ل38 سم و50 سم. لكن هذا يعتمد على مساحة الأرض الموجودة. ففي حالة الشقق السكنية ذات المساحات الصغيرة حوالي 50 مترًا مربعًا، فستتأثر بالتأكيد بزيادة سمك الحوائط، لصغر مساحة أرض البناء، بينما لن تتأثر الشقق الواسعة. وبالتالي فتغير طريقة استغلال المساحة هو المطلوب قبل أي تغيير عمراني. فالنظرة إلى استغلال كل متر في الشقق السكنية هو ما يجعلنا نتغاضى عن الاختيار الصحيح لنظام الإنشاء. فى حين أننا نملك مساحات شاسعة من الصحراء، تتطلب منا الامتداد الأفقي وليس الرأسي، الذي تعتمد عليه بعض الدول لصغر مساحتها. وهذا بالطبع سيحتاج لتوفير عوامل أخرى مثل المرافق والمواصلات العامة.

مما يذكر أيضا كعيوب لهذا النظام الإنشائي هو صعوبة التعديل، أو تغيير أماكن الحوائط أو إزالتها. ولا أراى ذلك عيبًا. حيث من النادر أن يكون التغيير بهذا الشكل ضروريًا. كذلك يمكن مراعاة تصميم الفتحات بدقة حتى لا تضعف المبنى، ولا تتطلب التغيير. وأخيرًا أن هذا الإنشاء يحد من التشكيلات حيث يكون التشكيل بالخرسانة أسهل.

المشكلة الأكبر الحقيقية التى نواجهها في هذا النظام الإنشائي هو غياب العمالة الماهرة القادرة على تنفيذه إلا قلة توارثوا عن أجدادهم الصنعة. أما عن مواد الإنشاء نفسها، فالحجر متوفر في مصر لطبيعتها الصحراوية، وكذلك لا زال الطوب الأحمر الحامل متاحًا. ولكن الاستخدامات لكل منهما هي التي اختلفت، ورواج الطوب الأحمر الطفلي المعتاد هو ما يجعل الطلب على تصنيعه أكثر.

الأمر ليس دفاعًا عن نظام إنشائي وتجاهل آخر أو الاستغناء عنه، فكليهما له متطلباته. كما أن هناك أفكار أكثر لنظم إنشائية جديدة مثل نظام الانشاء بالألواح المعدنية InnoVida، وما يمكن أن توفره تلك النظم من معدات وأيدي عاملة وخامات، لكن تغيير الرؤية إلى المبنى كعنصر يبنيه الإنسان. فالمطلوب هو تكييف هذا المبنى مع البيئة واستغلال المواد المحيطة به بالبحث عن مواد إنشائية أرخص وأسهل في الوصول إليها، لنستخدمها بدلًا من تركها والبحث عن المواد الأغلى ثمنًا والمصنعة أو المستوردة.