عبد المنعم مدبولي وعبد المنعم إبراهيم

البلياتشو والخواجة

منشور السبت 19 مايو 2018

 

بالأمس أعدت البحث عن كتاب "المضحكون" لمحمود السعدني. كان الكتاب من أول ما اقتنيت في طفولتي المبكرة، غلاف الكتاب الذي تصدّره رسم كاريكتوري لنجيب الريحاني وفؤاد المهندس وعادل إمام هو ما جذبني للكتاب في أول مرة، أما الآن وقد مر عقدان من الزمان، عدت لأنظر إليه بعين جديدة وروح مختلفة.

ينقسم الكتاب إلى فصول عن نجوم الكوميديا، كل فصل مسبوق باسم أطلقه السعدني على النجم بجوار رسمة كاريكاتورية له. كان الفصل الأول عن مدبولي الذي أعتاد الصحفيون الفنيون تلقيبه بالناظر أو شابلن أو ربما الأستاذ، إلا أن السعدنى عنوّن الفصل باسم "البلياتشو".

قرأت الفصل الممتد لثماني صفحات، ثم توقفت وخلعت نظارتي وسألت نفسي، لماذا إذن أحب عبد المنعم مدبولي؟ لماذا أحبه رغم أن السعدني لم يكن متجنيًا عندما قال إن مدبولي غالبًا ما يقدم نوعًا من الفن الهايف، وهو فن لا أستطيع أن أدافع عنه ولا يستهويني إلا في حدود هيافتي الشخصية.

ربما بدأ الأمر في وقت مبكر جدًا، كنت طفلا أتعجب من اسمي وأجده غريبًا، "أحمد عبد المنعم"، لا يوجد بين أقاربي أو زملائي في الفصل أو المدرسة "عبد المنعم" سوى والدي. ولأننا نُسقط أسماء أحمد ومحمد عن حامليها ونناديهم بأسماء آبائهم مباشرة، فقد ألتصق بي اسم والدي الذي لم يكن اسمًا موسيقيًا ولا متكررًا. وكان منعم الآخر الوحيد الذي عرفته في ذلك السن هو عبد المنعم مدبولي. ربما زرع الاسم ألفة مبكرة بيننا، حيث اعتبرته قريبًا أو صديقًا. كما تزامن ذلك مع عرض فوازير "جدو عبده زارع أرضه" والتي كان يبهرني فيها الإنسان الآلي الضخم فضي اللون الذي يقدم النصائح والإشادات، فتوطدت العلاقة بيني وبين مدبولي في وقت قصير.

إلا أن حبي لعبد المنعم مدبولي استمر بعد أنا صرت شابًا وتعديت سنوات الطفولة الأولى ونسيت أزمة الاسم وفوازير جدو عبده. أظن أن الموهبة الصارخة كانت سر جاذبيته لي، الموهبة التي تبدو في كل حركة وهمسة ولمحة، في كل مشهد وكل دور، فالموهبة خاطفة ولافتة، لها سحرها الخاص مهما كان ما يقدمه الممثل ساذجًا أو دون قيمة. ربما المثال الأبرز على ذلك هو سعيد صالح صاحب الموهبة الفذة المُهدرة، والذي لا تملك إلا أن تتابعه بحب وشغف في أغلب أدواره.

يقول السعدني في كتابه إن مدبولي تفنن في تبديد موهبته فيما لا قيمة له، يختار من الروايات أخفها وزنًا وأهيفها مضمونًا ويكرر نفسه مرة تلو الأخرى، ولكنه يلقى النجاح باستمرار، إلا أنه نجاح التاجر وليس نجاح الفنان. كتب السعدني هذا الكلام في مطلع السبعينيات متحسرًا على موهبة مدبولي المهدرة رغم أنه – كما وصفه – أستاذ الأساتيذ وأعظم المضحكين، وسر عظمته أنه المضحك المصرى الوحيد بين كل المضحكين، أنه عصير من الضحك فى حواري القاهرة وعلى مصاطب الفلاحين، هو مزيج من البلياتشو وأراجوز السامر ومهرج السيرك، ويشبهه السعدني بعبد الله النديم، إلا أنه النديم الصايع، الجبان فى اختياراته، الهايف، الذي يكرر مأساة على الكسار.

كانت صورة علي الكسار وتهمة الضحك للضحك يطاردان مدبولي، وكان دائمًا ينكرهما ويتنصل منهما، قائلًا إن الشبه الوحيد بينه وبين الكسار هو شبه شكلي في الملامح، أما فنًا، فقد فضّل تشبيهه بالريحاني، حيث قاد فرقة الريحاني في فترة بالسبعينيات، إلا أن أحدًا لم يتقبله كامتداد للريحاني، وخفتت مقارنته بالكسار بمرور الزمن، وظل متفردًا، ماركة مسجلة في حد ذاته.

يحكى مدبولي عن المرة التي حضر فيها عرضًا للريحاني حين قرر هو وصديقه عصمت أن يقضيا شم النسيم سويًا، فشاهدا فيلم ليلة ممطرة لليلى مراد ويوسف وهبي في سينما الكوزمو، ثم توجها لمسرح برنتانيا لمشاهدة يوسف وهبي لحمًا ودمًا في مسرحية ابن الفلاح، وكانت أول ما شاهده مدبولي على المسرح. انبهر مدبولي بما شاهده من يوسف بك، وبدلا من العودة إلى المنزل، قررا مشاهدة نجيب الريحاني في حفلة التاسعة واالنصف، كان ثمن التذكرة سبعة قروش مقابل ثلاثة فقط في مسرح يوسف وهبي، وحضرا مسرحية الدلوعة، التي أعاد فريد شوقي ونيللي تقديمها لاحقًا.

يقول مدبولي "لم أتابع المسرحية جيدًا، ولم أشارك الجمهور في الضحك وشعرت أن هناك فارقًا كبيرًا بين مسرح الريحاني ويوسف وهبي، فمسرحية يوسف وهبي كانت تحارب الطبقية وتدافع عن الفقراء، فكان لكلماتها فعل السحر في نفسي. جذبني موضوعها وهو مصري تمامًا، وكذلك الشخصيات والأحداث والحوار". الغريب أن مدبولي لم يواظب على فعل ما أعتبره ميزة ودليل تفوق عندما أصبح نجما صاحب كلمة فى المسرح.

فى نهاية عام 2010، بدأت جريدة الأهرام تنشر مذكرات عبد المنعم مدبولي كحلقات مسلسلة في ملحق يوم الجمعة وبتقديم من الأستاذة سهير حلمي التي أوضحت أن المذكرات تُنشر للمرة الأولى، حيث كتبها مدبولي بخط يده واختصت عائلته الأهرام بنشرها بعد أن تولى إعدادها الكاتب المسرحي وصديقه الدكتور جمال عبد المقصود.

كتب مدبولي في الحلقات الثلاث الأولي عن فتره صباه وشبابه، والتي أدى فيها دور صديق البطل عبد المنعم آخر، هو عبد المنعم إبراهيم. وكأن دور صديق البطل هو مصير عبد المنعم إبراهيم الملازم له حتى في مذكرات رفيق شبابه الأول مدبولي. التقى الشابان في مطلع الأربعينيات عندما كانا فى المرحلة الثانوية. كان مدبولي يكبر إبراهيم بثلاثة أعوام إلا أنه رسب أكثر من مرة في دراسته فباتا في المرحلة التعليمية نفسها.

أسس الزميلان فرقة مسرحية للهواة، وقدّما عددًا من المسرحيات، بدآها بمسرحية الضحية والتي أخرجها مدبولي نفسه، ثم أخرج لهما جورج أبيض مسرحية أولاد السفاح وتنبأ لمدبولي بأن يصبح  فنانًا تراجيديُا عظيمًا وأعطاه دور رجل عجوز، كما قدما مسرحية باسم عبد الستار أفندي وفي هذه المرة تبادلا المواقع وأدى عبد المنعم إبراهيم دور عجوز آخر. كانت رحلتهما في مسارح الهواة مليئة باللكمات و(العُلق)، من ضابط مصري مرة، ومن آخر أسترالي سكران في مرة، ومن بعض أهالي القرى والمدن التي طافوها مرات أخرى!

في منتصف الأربعينيات أُعيد افتتاح معهد الفنون المسرحية، بعد أن أغلقت أبوابه عقب سنة واحدة من افتتاحه الأول في الثلاثينيات لاتهامه من قِبل بعض رجال الدين بنشر الفسق والفجور. ظل زكي طليمات يكافح من أجل إعادته للحياة لفترة زادت عن العشر سنوات إلى أن حالفه النجاح أخيرًا. تقدم مدبولي وإبراهيم إلى اختبارات المعهد في دفعته الثانية ضمن 1500 متقدم وكان المطلوب اختيار عشرين طالبًا، فتمت التصفية على مراحل، واستطاع الصديقان أن ينضما إلى المعهد بعد أن نجحا أمام لجنة مكونة من زكي طليمات وجورج أبيض وحسين رياض ونجيب الريحاني ويوسف وهبي.

بعد التخرج تفرقت السبل بالرفيقين، فرغم أن ظهورهما الأول في السينما كان في العام نفسه، 1951، إلا أن مدبولي صال وجال في المسرح وفي البرنامج الإذاعي ساعة لقلبك، والذي يُمثل على خشبة المسرح أمام الجمهور أولا ثم يُذاع فى الراديو، بينما أنطلق عبد المنعم إبراهيم في السينما، حيث شارك في عشرات الأفلام، وعمل مع صلاح أبو سيف وحسن الإمام وفطين عبد الوهاب، وكان صديق البطل في ثلاثة أفلام مع عبد الحليم حافظ، وآخر مع فريد الأطرش, ولعدد من المرات مع كمال الشناوي وآخرين، كما شارك إسماعيل يس في عدد من أفلامه، وقام ببطولة فيلمي سر طاقية الإخفاء وسكر هانم. بينما لم يظهر مدبولي في السينما طوال تلك السنوات العشر إلا بأدوار صغيرة في ثلاثة أو أربعة أفلام، قبل أن يلتقيا مرة أخرى عام 1960 في واحد من علامات السينما المصرية؛ بين السما والأرض. لن يلتقى مدبولي وإبراهيم على الشاشات مرة أخرى إلا في فيلمي 3 قصص والمراية، عامي 1968 و1970.

 

مدبولي في مشهد من مسرحية ريا وسكينة

كان عبد المنعم إبراهيم يعمل أيضًا في مسرح الدولة حيث قدم عددًا من العروض مع فرقة المسرح القومي قبل أن يتألق في مسرحيات ألفريد فرج، وظل يدافع عما يقدمه من فن في مقابل ما يقدمه مدبولي. يقول إبراهيم إنه فخور بكونه فنان أكاديمي، ومما درسه أن الكوميديا تنقسم إلى ثلاثة أنواع، الفارس، وهي الكوميديا القائمة على المبالغة في الحركة والايفيهات، والفودفيل وهى معتمدة على سوء التفاهم، وما يسمى بالكوميديا الاجتماعية أو الكوميديا الأخلاقية، التي تناقش أزمات المجتمع بشكل ساخر. تمسك عبد المنعم إبراهيم بتقديم النوع الأخير من الفن المسرحي، مهاجما ما يقدمه مدبولي من "ضحك للضحك"، إلا أن المسارح لم تفتح لإبراهيم ذراعيها طويلا وظل يكافح ليفسح لنفسه مكانًا.

وصف محمود السعدني عبد المنعم إبراهيم في كتابه بأنه "الخواجة"، تلمح وتشم فيه رائحة لوريل زميل هاردي، أٌضيفُ على ما قاله السعدني أن ثمة تشابه مع جاك ليمون أيضا، فهو على عكس مدبولي ليس مضحكًا مصريًا بل مضحك لكل البشر. يقول السعدني إن عبد المنعم إبراهيم لو وجد في إنجلترا مثلا لشق طريقه بسهولة، ولو كان ظهر أيام السينما الصامتة لاستطاع أن يُضحك الناس أيضًا، مضيفًا أنه سيظل أكثر المضحكين احترامًا وأعظمهم مكانة لدى المثقفين، وسيضحك من الأعماق لفنه هؤلاء الذين يضحكون لأوسكار وايلد ومارك توين.

إبراهيم من فيلم طاقية الإخفاء

ورغم فضل مدبولي في تقديم الكوميديانات في مسرحياته، بداية من فؤاد المهندس وشويكار في مسرحية السكرتير الفني، ومحمد عوض في جلفدان هانم، إلا أنه لم يتعاون مع صديق شبابه عبد المنعم إبراهيم في المسرح مجددًا، هذا باستثناء تجربة غير مكتملة في منتصف السبعينيات، لم تر النور. في الوقت نفسه اتجه كل منهما إلى الأدوار التراجيدية، حيث حقق مدبولي نبؤة جورج أبيض، إلا أن ما قدمه عبد المنعم إبراهيم في التراجيديا يفوق ما قدمه مدبولي، حيث لم يكن أداؤه مُبالِغًا أو مفتعلًا، بل مفعمًا بالألم ومتأثرًا بقسوة حياته الشخصية ومفجرًا لطاقات الحزن المكتوم في صدره على مر السنين حتى طفى على ملامحه وقسمات وجهه.

اختلف الصديقان في اختياراتهما وفي السبل التي سلكاها، إلا أنهما اشتركا في الموهبة، تلك الهبة الربانية غير المبررة، والتي دائمًا ما تكون أكثر سحرًا من صنيع البشر، فكل الجهد الإنساني مؤطر ومحدود، أما الموهبة فهي استثنائية، فاتنة وغير محدودة، ورغم محاولات البعض الانتصار على الطبيعة، ومقارعة تلك الهبة الإلهية، انتصارًا للإرادة الإنسانية، مثل أباطرة هوليوود الذين دأبوا على صناعة النجوم بغض النظر عن الموهبة، أو ورش الكتابة التي عملت على صناعة كتاب وروائيين بمواصفات قياسية، أو منظومة كرة القدم التى باتت تعتمد على العدائين ذوى اللياقة والأجسام المتكاملة متجاهلة (الحريفة) والموهوبين، رغم كل ذلك إلا أن الموهبة تظل تسرق للأنظار، وتبقى قادرة على تعدي كل السابقين في لحظة، ربما لا تتعداهم في شباك التذاكر أو المبيعات أو عدد الأهداف، لكنها تتعداهم نحو القلوب، تصل إليها مباشرة، فالموهبة فاضحة، لا يمكن تجاهلها أو تقليدها، حتى وإن تاهت في طرق مبتذلة أو توارت خلف نجوم أقل موهبة وأكثر شطارة.

في 28 يناير 2011، كان ميعاد الحلقة السادسة من مذكرات مدبولي في الأهرام، إلا أنني خرجت من بيتي قبيل صلاة الجمعة ولم أشتر الجريدة، توجهت إلى مسجد مصطفى محمود، أنضممت إلى الجموع التي جلست فى ساحة المسجد تتبادل النظرات في ترقب وقلق حتى انفجرت نحو ميدان التحرير.

لم أقرأ الأهرام يومها، ثم انشغلنا بالمظاهرات والرئاسة والدستور ومعارك لا نهائية وهزائم متتالية، وتاهت مذكرات مدبولي الخفيفة الثرية في وسط هذا الزحام، وأتساءل؛ ألم ينتبه أي ناشر إليها بعد؟!