الفنان ناجي شاكر يتوسط عرائسه- المصدر: حسابه الشخصي على فيسبوك

ناجي شاكر.. صانع اﻷحلام

منشور الاثنين 20 أغسطس 2018

كان الطفل يتحايل على الوقت، يلهو مع إخوته في انتظار العبارة السحرية "تعالوا أرقيكم"، تقولها مُديرة المنزل روحية؛ فيتحلق الأطفال الخمسة حولها بسرعة، أربعة منهم منشغلين بما تنطقه من كلمات، أما خامسهم فذهنه مع "العروسة" الورقية التي ترقيهم بها؛ فكبر ذلك الصبي، واسمه ناجي شاكر، حالمًا بعالم العرائس؛ حتى صار رائدًا لفنّها في مصر والعالم العربي، ومُحبًا مُخلصًا لها على مدار 86 عامًا كانت آخر أيامها  مساء أمس اﻷول السبت، 18 أغسطس/آب، حين رحل عن عالمنا.

بين عامين هما 1939 الذي فتحت فيه روحية عيني ابن السابعة على عالم العرائس، و2018 الذي هزم فيه المرض أستاذ الديكور بكلية الفنون الجميلة، سار ناجي على درب من إبداع، وتنقل بسلاسة وتمكّن بين مرح أوبريتات ومسرحيات العرائس، وصناعة الأفلام ورسم اللوحات واﻷفيشات وتصميم الديكورات والملابس لعدد من أهم اﻷعمال الفنية، وكأنه أراد أن يكون له حضور أبدي في كل ما هو جميل.

دُنيا اﻷلعاب

بخلطة من محبّة وخيال ودراسة، خلق ناجي شاكر أنطون شاكر عالم للعرائس المصرية الخالصة، وكانت اللبنة اﻷولى فيه عروسة الفتى متناهي الصغر "عُقلة الإصبع"، تلك الشخصية الشهيرة في حواديت الأطفال التي حولها ناجي إلى مشروع تخرج يختتم به دراسته في كُلية الفنون الجميلة 1957، وبذلك عاند إرادة ورغبة أساتذته الغاضبين من اختياره لفن العرائس المجهول في مصر، والقلقين على تلميذهم "اﻷول على دفعته، واللي عايز يضحّك الناس عليه بمشروع غريب".

 

أفيش فيلم اسكندرية ليه- تصميم ناجي شاكر 

في ذلك الرهان ربح ناجي، ونال تقدير "امتياز" عن مشروعه الذي عكف على صناعته منذ كان فكرة وسيناريو، مرورًا بتصميم ديكوراته وعرائسه التي تعلم صناعتها ذاتيًا، وانتهاءً بتصوير المشروع كاملاً بفيلم 16 مللي.

ربح ناجي رهانه ﻷنه منذ رأى عروسة روحية؛ آمن بأن العالم يفتقر للأجمل. ومنذ شاهد زفّة اﻷراجوز وصندوق الدنيا تطوف حي الزيتون حيث نشأ؛ آمن بأن المرح ممكن. وبأن الخيال دائمًا وأبدًا أكثر طيبة وجمالاً من الواقع؛ فكان أن استعان بالرسم على مشكلات صحية كانت تُقعده عن الدراسة، وتحوّل مع مرور الوقت وبتشجيع اﻷم إلى فنان ينظم معرضه فوق سريره، فيشب وقد اعتاد الفن وألفه.

ليس غريبًا على المفتون بالفن إلى هذا الحد أن يُصبح محط اهتمام اﻷسرة، بل ويعوّل عليه اﻷب في مهمة رسم بورتريه لبطريرك الطائفة الكاثوليكية التي ينتمي لها، وقدريًا يشاهد الملحق الثقافي الفرنسي لدى مصر آنذاك اللوحة الهدية في مكتب البطريرك؛ فينبهر بفنانها ويعرض على اﻷسرة تبني ذلك الموهوب ومكافأته بمنحة دراسية في باريس، لكن الأسرة ترفض "حفاظًا على أخلاقه من بنات فرنسا"؛ يحزن ناجي ابن الستة عشر عامًا من الرفض، لكن بعد عقود من ذاك الحزن؛ يمتن الفنان الكبير؛ فلولاه "لضاعت جذوره الفنية المصرية".

من تلك الجذور القوية عرف ناجي طريقه، فاختار العمل بمسرح العرائس، وكان أول مصمم عرائس مصري، وبالتالي كان تدريبه على يد خبراء أجانب من رومانيا، وتحت إشرافهم خرجت أولى عرائسه التي استلهمها من كتب الحواديت، فجاءت عرائس حكاية "الشاطر حسن" 1959 تأليف صلاح جاهين، ثم "بنت السلطان" من تأليف بيرم التونسي.

ومن الشاطر حسن تعرّف ناجي وجاهين، وبمرور الوقت خرج عملهم اﻷبرز "الليلة الكبيرة"، والتي لم تكن حتى عام 1960 إلاّ أوبريت إذاعي. لكن شغف ناجي القديم بتفاصيلها حوّلها إلى العمل الفني المعروف بين أجيال يمتد عمرها من الستينيات وحتى اليوم، وذلك على الرغم من خوف صانعيها صلاح جاهين وسيد مكاوي من اللعب مع العرائس، لم يكونوا أدركوا بعد أنها لناجي؛ شريك اللعب اﻷفضل على الإطلاق.

جنون الليلة الكبيرة

أنتج ناجي "الليلة الكبيرة" بينما يسابق الزمن ليلحق بالمهرجان الدولي للعرائس في بوخارست، سبتمبر/ أيلول 1960، بناءً على دعوة من معلميه الرومان.

وفي ستة شهور، وبعد أن أقنع جاهين ومكاوي بالفكرة، تحوّل العمل بمزيد من الشعر والموسيقى من أوبريت إذاعي مدّته 10 دقائق إلى عرض مسرحي ثم تليفزيوني مدته 30 دقيقة؛ فصارت الليلة الكبيرة مولد شعبي بحق. لكن ثمن ذلك كان مجهود خُرافي من ناجي لتصميم ونحت 45 عروسة، لم ينجزها في أفضل ورش عمل، بل تنقل بها من بدروم بقصر عابدين إلى بدروم دار اﻷوبرا، ثم حديقة معهد الموسيقى العربية. وذلك ﻷن العرائس لم يكن لمسرحها مقرّ بعد.

حكايات كدّ وكفاح ناجي مع عرائسه، دائمًا ما أثارت في نفسي  تساؤلات عن جدوى الأمر، فالرجل كان بإمكانه الاكتفاء بالمكانة العلمية كأكاديمي أو بالثراء المادي من عمله كمصمم أزياء، ويبتعد تمامًا عن مجال غريب آنذاك، بلا مسرح ثابت أو اعتمادات مالية كافية وباحتمالات غير مؤكدة للنجاح. لكن الحماس والرضا في نظرة عينيه وهو يتحدث عن عرائسه بنبرة سعادة وفخر، كانا كفيلان بقتل أي من هذه التساؤلات، ﻷن إجابتها كانت بسيطة للغاية؛ وهي أنه أوتي من الإيمان بفنه ما منحه الشجاعة ليصبح اسمه "ناجي شاكر" عَلَمًا على هذا الفن. 

من أجل الليلة الكبيرة، استدعى الفنان كل ما اختزنه عقله من وجوه وملابس البسطاء، مَن اعتاد مشاهدتهم في قطار كوبري الليمون، حين كان طالبًا جامعيًا مُجتهدًا يرسم بورتريهات لملامح رُكّاب الدرجة الثالثة؛ وأمام براعته في تنفيذ وتصميم عرائسه وديكوراته فاز العمل في ذلك المهرجان بالمركز الثاني، والفضل يُردّ لـ"المجنون ناجي" على حد وصف أساتذته الرومان الذين تمرّد على قواعدهم، وأرسى أخرى جديدة تناسب مصر.

يحب المصريون الليلة الكبيرة ومنهم من يحفظها عن ظهر قلب، أما ناجي فكل العرائس أبنائه، لكن محبوبته "اﻷولى" التي لا ينازع قلبه في حُبها أي عروسة أخرى، هي "ريحانة"، العروسة بطلة عمله "حُمار شهاب الدين" لصلاح جاهين، والتي نحتها ناجي وقت كان مُبتعثًا للدراسة في ألمانيا، ورأى فيها وهي ابنة الحطاب الفقير شهاب الدين "صورة لمصر" آنذاك، فأبدع في تصميمها وإخراجها بعد اعتذار المخرج توفيق صالح، وبعد أن صار هو نفسه خبيرًا في هذا الفن.

 

ريحانة.. أقرب منحوتات ناجي شاكر لقلبه 

صنع ناجي سعادة المصريين أطفالاً وكبار، ولم يدر بخلده يومًا أن تنقلب السعادة التي قدمها للناس ضده غصّة ومرارة، مرّة يذوقها بسبب حريق مسرح العرائس 1994، الذي طالت نيرانه منحوتات "الليلة الكبيرة و"حمار شهاب الدين"؛ فبادر هو بالترميم بعد أن شاهد أطفاله الخشبية مكومة على اﻷرض لشهور دون محاولة لإنقاذها، ومرّة أخرى في أعوامه اﻷخيرة حين صارت عرائس الليلة الكبيرة حبيسة مخزن مسرح العرائس.

مع شفيقة

 

لقطة من فيلم شفيقة ومتولي 

يربط كثيرون اسم ناجي شاكر بالليلة الكبيرة، وقليل منهم مَن يعرف أنه صاحب الفضل في ظهور شخصية شفيقة، بطلة الفيلم الشهير "شفيقة ومتولي" بهذه الصورة، بعد أن هرب بسعاد حسني من إطار "السندريلا" الذي اعتادت أن تظهر بداخله في معظم أفلامها، وحوّلها إلى الفلاحة البسيطة التي انتقلت من فقر القرية إلى قسوة المدينة.

ودائمًا السر في عقل وخيال وروح ناجي، فكما استدعى لليلة الكبيرة من مخزون خبراته مع فلاحي القطارات، استدعى لملابس شفيقة خبرته التي كوّنها في الخمسينيات حين عمل مصمم أزياء سيدات في مصنع شوشة للنسيج، وبفضل مهارة الخبير وقوة حجّته، اقتنعت "السندريلا" وارتضت أن تعيش في جلباب الفلاحة الفضفاض وبشعرها المُجعد.

شارك ناجي في "شفيقة ومتولي" كمصمم ملابس وديكور، لكنه خطا خطوة أبعد مع السينما في فيلم "صيف 70" الذي كتب السيناريو الخاص به مع زميل دراسة إيطالي، وأنتجاه في إطار السينما المستقلة التي لم تكن معروفة في مصر في تلك الفترة، السبعينيات، فبرع الاثنان في تنفيذه، ودخل عام 2010 في قائمة مقتنيات قسم الأفلام التجريبية بمتحف الفن الحديث بنيويورك "موما".

الشغف، ربما صار مفردة كليشيه فقدت معناها من كثرة الاستخدام، لكنها مع ناجي متحققة حرفيًا، فهو الذي صنع منه عبقرية مصرية، وجعله وهو شيخ ثمانيني يستعين على المشي بـ"عُكازين" يصمم وينفذ من ورق وزجاج ملونين وأخشاب، مُجسّمات فنية أبهر بها رواد معرضه "حديث الضوء" عام 2015، حيث المجسمات تتحرك في تناغم مع الضوء والموسيقى وحسب.

 وهو أيضًا ما جعلته ذات مرّة كما حكى لي، يلعب قبل عقود بـ"الخيش" والإضاءة ليعطي لمشاهد إحدى المسرحيات التأثير المطلوب، والذي كان ليُكلف الإنتاج الفقير مبالغ طائلة لو أنه لجأ للديكورات المختلفة المطلوبة لكل مشهد.

من العرائس إلى أفيشات مهرجانات وأفلام، وبين ديكورات وملابس المسرح والسينما إلى دراسة الفن وتدريسه في مصر وأوروبا، حلّق ناجي شاكر عاليًا في عالم من الخيال والمرح، وعلى دربه سار تلاميذ وفنانين يحملون له التقدير والعرفان، فلولاه لتأخرت مصر في الالتحاق بركب فن العرائس، ولم تكن هناك أوبريتات يحفظها الكبار والصغار، ولا طالعنا للبسطاء وجه مبهج يذكرنا به حنتيره وأصحابه من أهل "الليلة الكبيرة"، أو وجه جميل نراه في ملامح "ريحانة" ابنة شهاب الدين الحمّار، والتي فقدت بوفاة ناجي شاكر أباها الحقيقي.