تصوير: هاجر هشام
منطقة عرب اليسار

عرب اليسار تقاوم التهجير: والحكومة ترى الإخلاء حمايةً للمواطنين

منشور الأحد 5 مايو 2019

منذ عام 2017، يشعر سعد مجاهد، بقال تموين، بالخوف على تغيّر روتين حياته اليومي،  فالرجل الجالس على كرسيّ حديدي قاعدته مغلّفة بقماش، بيده عصاه، يشرب الشاي القادم من القهوة المقابلة لبقالته الواقعة في بداية منطقته عرب اليسار، وينظر للمحل الذي ورثه عن والده وجدّه، والتي يساعده فيها قدري، أحد أولاده الأربعة، وهو يدرك أنه سيخسره بخسارة منطقته.

فقد اعتبرت محافظة القاهرة في قراراها رقم 5725 لسنة 2017 عددًا من المناطق في أحيائها المختلفة مناطق خطرة على ساكنيها من "الدرجة الثانية"، وهي المناطق يستوجب التعامل معها بالإزالة وإعادة التخطيط والبناء، وتعويض الأهالي المقيمين بتلك المناطق في وحدات مؤجّرة في الأسمرات.

في قائمة هذه المناطق الخطرة، سجّلت أربع مناطق من حي الخليفة، من بينها عرب اليسار، وهي إحدى المناطق الملاصقة لقلعة صلاح الدين، وجزء مما نسمّيه اليوم بالقاهرة التاريخية، وهي المدينة القديمة المسّجلة في قائمة تراث اليونسكو عام 1979 وتمتد تاريخيًا من العصر الروماني وحتى أسرة محمد علي، وجغرافيًا مناطق مصر القديمة كمجمع الأديان والأزهر والدرب الأحمر وقلعة صلاح الدين وحتى وسط البلد.

 

ما تبقّى من 3 منازل

يمتلك عائلة مجاهد 3 منازل، الأول في 1 درب البرقع، وهو عقار شبه مهدوم ما تبقّى منه هو محل التموين الذي ورثه مجاهد، والثاني في 10 درب الساقية، وهو مكان ولادته وإخوته الاثنان وملك لورثة جدّه، والثالث في 20 درب القليوبي وهو عقار يمتلكه وورثه عم جدّه، نصفه إرث لهم، والنصف الآخر موقوف، المنزل الأخير تم هدمه بلوادر حي الخليفة منذ 3 أشهر، وبحسب قاله مجاهد، فإن الهدم تم دون إنذارهم بالأمر.

"عرفت وهمّ بيهدّوه، خدوا السكان وودوهم الأسمرات وجم بالقوّة الجبرية هدّوا البيت"، هكذا يصف مجاهد حدث الهدم، يقول إن المحافظة لم تعوّضهم عن الأضرار ولم تنذرهم بالهدم ولم يستطع أحدهم إيقاف الأمر، لكنه منذ ذاك الحين وهو يتوجّس من حدوث نفس الأمر للعقار الثاني، مكان ولادته، أو ما تبقّى من العقار الأول، وهو مصدر دخله الوحيد.

يقول مجاهد "ماعنديش دخل غيره، وفي الأسمرات مافيش محلاّت، وعشان أجيب غيره لازم أدفع فلوس كثير"، يضيف "ده ملكي وملك جدّي وهم عايزين يخلعوني من جذوري".

 

الحاج سعد مجاهد، تصوير: هاجر هشام

ترى الحكومة المصرية في تصريحاتها عن منطقة عرب اليسار والإزالات التي تتم فيها أن المنطقة عشوائية خطرة على حياة الأهالي وهو ما تعتبره أولوية، الأخبار تتناول هذه الإزالات معتبرة بيوت الأهالي "تعديات على حرم الآثار"، لكن الأهالي، ومنهم مجاهد، يرون الأمور بصورة مختلفة.

منع سبل البقاء

يقول مجاهد إنه يريد ترميم العقارات التي يمتلكها وإعادة بناء ما يحتاج إعادة البناء منها، لكنه ممنوع من ذلك، بأمر الحي ووزارة الآثار "الآثار ما بتدّيش تصريحات بالترميم، والحي ما بيدّيش تصريح للترميم من غير موافقة وزارة الآثار"، لا يوجد قرار واضح يفرض على الآثار رفض ترميم البيوت الملاصقة للأثر، لكن رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية بالوزارة وضّح الأمر للمنصة.

يقول رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية بوزارة الآثار، جمال مصطفى في حديث هاتفي للمنصة إن الآثار تتوجه ناحية إجلاء حرم الأثر من سكّانه .."ما يمنعنا في العادة عدم وجود ميزانية لصرف تعويضات ومساكن بديلة للأهالي.. فأنا ماعنديش بديل كوزارة آثار فكنت بسيبه موجود في المكان بتاعه لحد ما هو يمشي أو المبنى يتأثر فيبقى يمشي فالمحافظة تعوّضه تدريجيًا".

يرى مصطفى إن إزالة المنطقة وإعادة تأهيلها وتخطيطها يفيد الأثار المحيطة.."أنا عندي مشاكل في الجبل نفسه، في القلعة نفسها بسبب وجود الأهالي، ليه؟ لأن الصرف هناك سيء، فالصرف الصحي بيطلع على الجبل نفسه اللي هو جبل جيري"، يضيف مصطفى في حديثه للمنصّة عبر الهاتف أنه يرى مثيري المشكلات بخصوص الأمر هم "من أصحاب المصلحة" على حد قوله.

قلعة صلاح الدين من ناحية منطقة عرب اليسار، تصوير: هاجر هشام

"مصلحة" مجاهد، كما يحكي للمنصّة تتلخص في انتمائه للمكان وحقّه في أملاكه، لا يجد مجاهد مشكلة في نقل المستأجرين أو من أرادوا الرحيل إلى منطقة أو سكن بديل، لكنه يجد مشكلة في نقله بغير إرادته من منطقة يعد نفسه منتميًا إليها، أو هدم أملاك له ولعائلته دون موافقتهم.

يقول مجاهد إن منع الآثار عمليات الترميم للبيوت القديمة تسبب في سوء حالة المنازل المقامة في الوقت الحالي "من ساعة الزلزال (زلزال 1992) ما فيش تنكيس(ترميم وإصلاح)، إحنا أصحاب البيوت مش عايزين نطلع، إديني ورقة أنكّس أو رمم ونكّس أنت وخد منّي فلوس".

مشكلة مجاهد الأخرى في مصدر دخله الوحيد، محل البقالة التموين الموجود في عرب اليسار، يقول مجاهد إن هدمها معناه انتهاء مصدر دخله "مافيش محلات في الأسمرات، وعشان أجيب واحد جديد في منطقة تانية محتاج جري وفلوس، وأنا ما بقتش أقدر على الجري ده".

مقاومة

يملك ابن خالة مجاهد، محمود القمّاح، عقارًا في "درب الوصيّة" في نفس المكان، للقمّاح ثقل عند أهل عرب اليسار "يسمّونني شيخ الحارة، لكني لست شيخ حارة رسمي"، دائما يُرى القمّاح سائرًا في حواري ودروب عرب اليسار وبيده ملف أزرق بلاستيكي به أوراق، كلها تخص المنطقة، تاريخها وخرائطها ومستندات تثبت حقّه وحقّ بقيّة الملاك في المكان، يقول القمّاح للمنصة إن ملاك العقارات في المنطقة ينظّمون أنفسهم لمقاومة قرار الرحيل.

واحد من أوجه هذه المقاومة، هو قضيّة رفعها ملاك المنطقة بُعيد قرار محافظة القاهرة في محكمة القضاء الإداري بمساعدة أربعة محامين من المنطقة لإيقاف القرار الذي يعني ضمنيًا إزالة المكان وتغيير طابعه وتخطيط شوارعه وإخلاء سكّانه، وإلزام المحافظة بوضع آلية لترميم البيوت.

القضيّة تجمع القمّاح ومجاهد وملاك آخرين مازالت تنتظر رأي لجنة الخبراء التي من المفترض أن تفصل في تاريخية المدينة واستحقاقها للبقاء، إلا أن المحكمة قررت وقف قرار المحافظة باعتبار المنطقة خطرة من الدرجة الثانية  حتى انتداب لجنة من الخبراء، وهو قرار اعتبره أحمد حنفي، عضو فريق المحامين في القضيّة المرفوعة، انتصار لقضيّتهم، وإن كانت سلطات الحي، بحسب شهادته وشهادت مجاهد لم تعره الانتباه.

محمود القمّاح، تصوير: هاجر هشام

يقول حنفي أنه في فبراير الماضي كان شاهدًا على محاولات هدم إحدى المباني المجاورة لمنزله في منطقة عرب اليسار.. "كنت راجع من المحكمة ولسّة بقلع البدلة في أوضتي لقيت البيت بيتهز، ببص لقيتهم بيهدّوا البيت اللي جنبي"، بحسب ما أخبره حنفي للمنصّة فإن المنزل المجاور له كان آيلاً للسقوط بالفعل، لكن المحكمة كان أصدرت قرارها قبل هذه الواقعة بشهور، كما أنهم في إطار محاولتهم لهدم المنزل، كانوا يضرّون بالعقار الذي تملكه عائلة حنفي، والذي كان مأهولاً بالسكّان "اتخانقنا معاهم وعملنا مشكلة لحد ما مشيوا"، يضيف.. "الموضوع ده اتكرر كتير، يا إما لجان الحصر تيجي يا إما اللوادر تخش، وبيتعمدّوا يدخلوا من ناحية سلّم أثر قديم قدم المنطقة، وتسببوا في أضرار ليه بالفعل".

يقول حنفي إن المسار القانوني مهمّ للأهالي والملاك لإثبات حقوقهم، لكنهم لا يريدون والأهالي في عرب اليسار أن يكونوا، على حد وصفه، رد فعل على قرارات الحكومة "عشان كده بنحاول نتكلم مع المسؤولين وعايزين نوصل لناس في مؤسسات دولية معنيّة بالثقافة إننا نحوّل منطقتنا ونطورها على نسق اللي اتعمل في شارع المعز وفي مناطق تانية من القاهرة التاريخية"، يقول حنفي إن الفكرة التي يتنمى الأهالي تحقيقها في منطقتهم ستساعد الأهالي على البقاء والدولة على جذب مزيد من الاستثمارات.

يتحدّث حنفي للمنصّة وهو جالي على كرسي بجانب كل من مجاهد، بقّال التموين، والقمّاح، من يلقّبونه بشيخ الحارة، بينما يسترسل حنفي في شرح نقاط القوّة في حلم الأهالي بتطوير المكان وما يتضمنه من بقاء لهم فيه كخير حامٍ ومقدّر له، يفتح القمّاح مغلّفه الأزرق البلاستيكي مخرجًا أوراقه، يفتح إحداها، خريطة من هيئة المساحة تعود إلى ثلاثينات القرن الماضي لمنطقة عرب اليسار "بصي، نفس تخطيط المنطقة دلوقتي مرسوم هنا، المنطقة قديمة مش عشوائيّة".

الخريطة التي أشار إليها القمّاح من هيئة المساحة، تصوير: هاجر هشام

يحمل في الجعبة الزرقاء الزرقاء البلاستيكية نسخًا من كتب كالخطط التوفيقية لعلي باشا مبارك، يشير إلى عنوان جانبي "عرب آل يسار"، ما تحت العنوان يصف حواري المنطقة ودروبها أسماء ما تزال موجودة معلّقة بلافتات زرقاء على نواصي الحارات والدروب اليوم، كلها يشير إليها القمّاح كدلائل على تاريخية منطقته.

في جعبته أيضًا ورقة مكتوب على صدرها "إنذار"، وجهه القمّاح إلى الحي والمحافظة ورئيس مجلس الوزراء في محاولة لوقف محاولات الحي هدم بيت من بيوت المنطقة قبل الفصل في القضيّة المرفوعة من قبل الملاك في القضاء الإداري، الإنذار مؤرّخ بـ 23 أكتوبر/تشرين الأول 2018.

الإنذار الذي أرسله القمّاح إلى رئيس مجلس الوزراء بخصوص أعمال الهدم، تصوير: هاجر هشام

يكرر القمّاح الجملة كثيرًا في حديثه "المنطقة مش عشوائية"، ككثير من أهل منطقة عرب اليسار الذين نمر بهم في جولة المنصة في المكان "صوّرينا عشان يعرفوا إن عرب اليسار مش مهجورة وفيها ناس"، هكذا تقول سيّدة تقبل التصوير كدلالة على وجودها وإن ترفض الإفصاح عن اسمها "عشان عيب"، أخرى تتحدث رغبتها في الخروج لأن الحي، على حد قولها، حوّل المنطقة بعمليات الهدم المتكررة إلى منطقة خالية "كانت عمرانة بس فضلوا يمشّوا الناس ويهدّوا حوالينا"، تضيف "لو سابوها كنت أحب أقعد، بس دلوقتي أنا خايفة على ولادي".

يحدث ما يمكننا أن نسّميه اختلاف بين اثنين من الأهالي، يتحول ما يمكن تسميته بشجار، يعلق القمّاح بأن المنطقة إذا تطورت ستكون أفضل ويمكنها العيش بها إذا أرادت، ترد عليه بأنها طالما أرادت أن تطل هنا "هو فيه حد يطول يبقى جنب السيّدة عائشة"، تقاطعها أخرى بالحديث بأنها "مش هترتاح فوق" بالإشارة إلى الأسمرات، تقول إنها ذهبت بالفعل إلى هناك ولم تشعر بالراحة ولذلك عادت إلى مكانها "أول مرة الغاز جالنا 125 جنيه وإحنا كنا لسّة ما سكنّاش، دلوقتي تعالي اسمعي الأرقام 200 و300 جنيه، أنا كنت بدفع هنا 40 بس".

 تعود المرأة الأولى لالتقاط الحديث "مافيش حد مرتاح، لا اللي قاعد هناك ولا اللي مشي هناك"، تلقي بالمسؤولية على من رحلوا من سكّان المنطقة من البداية "كله قالّك أمشي والشقق هناك أحسن، راح لقى الدنيا غالية عليه، طب انت عقلك كان فين لما ضريت نفسك وضريتني معاك؟"، يرد القمّاح عليها بصوت عالٍ "اللي هنا لو صبر هيرتاح".

منطقة تاريخية

لا يتوقّف القمّاح عن السير في دروب المنطقة، هكذا يقول، مرة في الصباح يسير مع باحث عمراني يعرّفه على المنطقة والبيوت القديمة فيها، يشير إلى المشربيات، الأبواب القديمة، يأخذه إلى السلّم المتضرر من دخول لوادر الحي المتكرر إلى المكان بدافع هدم بيوته، كما يحكي القمّاح، كلما مررنا ببيت متهدّم يشير القمّاح إلى الحجارة "كلها حجارة قديمة، مش طوب أحمر"، على الرغم من محاولات الحي هدم بعض البيوت، تلك المحاولات التي تنجح أحيانًا إلى أن المكان مازال يحتفط بكثير من بيوته القديمة، يشير إليها القمّاح، يتحدّث عن أصحابها وأعمار بيوتهم.

نساء من المنطقة طلبن تصويرهن لإثبات أن المنطقة مأهولة، تصوير: هاجر هشام

على سطح العقار الذي يملكه القمّاح، حكي للمنصّة عن تاريخ منطقته الذي يحفظه، والذي يبدأ من 700 سنة "كان اسمها منطقة عرب آل يسار، ديه كانت قبيلة حجازيّة بتستنى هنا وتنصب خيامها لحد ما القلعة (قلعة صلاح الدين) تفتح أبوابها، شوية بقوا الناس دول بيشتغلوا خدم للخاصة الملكية، كان عندهم من كل الحرف وبنوا بيوت واتملّكوها والمنطقة بقى اسمها عرب يسار".

اعتبار المنطقة جزءً من القاهرة التاريخية وحرم أثر القلعة ليس من صنع كتب التاريخ وحسب، لكنه أيضًا من قرارات الدولة الصادرة من جهات كمحافظة القاهرة ووزارة الثقافة والتي تخظر البناء في المنطقة بشكل عام، وتضع ضوابط للترميم، وتحظر إعادة تخطيط الشوارع والحفاظ على أسمائها التاريخية.

برأي الباحث العمراني بمشروع 10 طوبة، وهي مجموعة بحثية مهتمة بقضايا العمران، أحمد زعزع، فإن مجموعة القرارات المتتالية بخصوص هذه المناطق والتعامل معها، في ظل عدم وجود تنسيق بين الجهات المسؤولة عن المنطقة كان سببًا رئيسيًا في الحالة التي وصلت إليها "مناطق الخطورة من الدرجة الثانية هي مناطق تعد أكثر من 50% من مبانيها آيلة للسقوط، هذه هي الشريحة التي وقعت فيها أغلب المدن التاريخية، وهي الشريحة الأخطر".

يقول زعزع في اتصال هاتفي مع المنصة إنه لا يرى في التعامل مع هذه المنطقة "خطة كبيرة للقضاء على تاريخية القاهرة، لكن في فشل كبير"، يضيف "لما بيتقال كلمة قاهرة، الوقع بتاعها على ودننا وعلى مخّنا إن إحنا بنبني صورة لمدينة قديمة، وده في العالم كله مش إحنا ، ده دلوقتي إلى حد ما  يبيدأ إنه يتقصقص واحدة واحدة".

دلل زعزع على تغيير وجه القاهرة بما حدث في مثلث ماسبيرو "منطقة أثرية من الدرجة الأولى، اليونسكو حطّاها ضمن القاهرة التاريخية، فجأة إنها تتشال بالشكل ده، وبإدعاء إن ده حصل بالتفاوض مع الأهالي وهو ماكانش تفاوض، أنا دلوقتي ماسك سلاح وواقف وراكي وبقولك هتاخدي فلوس وتمشي، ده مش تفاوض".

شاهد أيضًا: ما تبقّى لأهالي ماسبيرو

أشار زعزع في حديثه الهاتفي مع المنصة إلى أن خطّة 2050 تشمل مناطق تاريخية من القاهرة بداية من مثلث ماسبيرو وحتى رملة بولاق، مرورًا بحي إمبابة، وجزيرتي القرصاية والدهب "ما بيعتبروش تاريخيّة بس ليهم خصوصية، مش لازم تبقى كل المناطق شارع المعز"، مضيفًا أن الدولة تتعامل مع مناطق كميت رهينة التي تعتبر بدرة القاهرة كمنطقة عشوائية "أمّنها أنا مالي؟ مش تشيلها".

ما يقوله زعزع يتضّح في حديث المنصة مع جمال مصطفى، رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية بوزارة الآثار الذي نفى أكثر من مرة تاريخية منطقة عرب اليسار "قوليلي فين البيوت القديمة ديه، المنطقة ديه منطقة عشوائية وخطرة على حياة البشر وما اعتقدش الدولة مخطئة عشان عايزة تنقذ الناس".

وفي الوقت الذي رفضت محافظة القاهرة التعليق على محتوى قصّة المنصّة، رفض مصطفى الرد على العديد من الأسئلة الخاصة بقرارات سابقة تحظر الترميم وتغيير تخطيط الشوارع والطابع العمراني للمنطقة "ديه مسألة يجاوبك عليها التخطيط الحضاري ومحافظة القاهرة ووزارة الثقافة اللي أصدروا القرارات ديه".

 

طفل يقف وسط مباني المنطقة، تصوير: هاجر هشام

بينما يرى محمود القمّاح أن تطوير الأثر والحفاظ عليه يتضمن الحفاظ على أهلها، على حد وصفه، يقول جمال مصطفى للمنصّة إنهم في وزارة الآثار أجلو العديد من سكّان المناطق المحيطة بالآثار أو ما يسمّي بحرم الأثر، وبالتالي فإن ما يحدث في منطقة عرب اليسار ليس بجديد، وإن كان زعزع يرى الأمر من منظور مختلف.

استثمار تحت رحمة اللوادر

حلم القمّاح وأهل عرب اليسار في تطوير منطقتهم والإبقاء عليها كجزء من حرم قلعة صلاح الدّين ليس بأمر جديد، يقول زعزع إن المدت التاريخية في أوروبا مازالت تحتفط بمناطقها القديمة، ببيوتها وطرقها وتخطيطها وأهلها "في كل مدينة في أوروبا في قصر الملكية الكبير، الأثر عمره ما بيبقى منعزل عن العمران المحيط بيه، مافيش حاجة اسمها نبقى ماشيين فجأة وبنلاقي سور، بيبقى فيه بيوت حواري وبعدين بيبقى في سور وبعدين بيبقى فيه قصر".

يرسم زعزع صورتان، الأولى لتعامل الدول الأوروبية مع المدن التاريخية الواقعة في حرم الآثار، والتعامل المصري مع نفس الحالة، يقول عن الصورة الأوروبية " أصغر شوارع أنا شفتها في حياتي كانت في السويد وسويسرا، في مدينة بازل في سويسرا وستوكهولم في السويد، لو حد دخل على رجليه ماينفعش حد تاني يمشي جنبه".

يقول زعزع إن اختيار هذه الدول لم يكن أبدًا إزالة هذه الشوارع وإعادة تخطيطها، ولكن إيجاد حلول مبتكرة لإيصال كل الخدمات الأساسية لهذه المدن، إدراكًا من هذه الدول للقيمة التاريخية للمدينة والجذب السياحي لتجربة المرور بهذه المدن والعيش بها "بدل ما يقولك هدخل عربية مطافئ بيحفروا في الشارع ويمدوا حنفيات حريق، بدل عربية الإسعاف بقوا جيبوا عربيات أصغر زي الميكروباص بتاع مصر ويجهّز إنه يبقى إسعاف، مش إنهم يقولوا لأ أنا هشيل جملا ستان، ونلغي تاريخ ستوكهولم عشان الحواري ضيّقة".

إحدى شوارع جملا ستان في السويد، الصورة: ويكيميديا

في المقابل، تبدو الصورة المصرية مخالفة لما نجده في أوروبا، يقول زعزع "، لما بتيجي تبصي على التعداد والنمو السكّاني هتلاقيه بيقل، السكّان شايفين إن ديه مناطق الحكومة مش بصّالها خالص، مش عاملة فيها أي استثمار ولا أي تدخّل، البنية التحتية متهالكة ديه كلمة قليلة (عليها)"، إضافة إلى كل ذلك ما قاله زعزع وأكده الأهالي عن منع أصحاب البيوت في هذه المناطق من الترميم وإعادة البناء من قبل الآثار، وهو مالم ينفه جمال مصطفى عندما سألناه، ووضح دوافع الوزراة في جزء متقدّم من هذه القصّة.

منع الترميم والبناء في المكان تسبب في سوء حالة المنازل مع الوقت في مناطق القاهرة التاريخية كعرب اليسار، بحسب زعزع والأهالي، ليأتي زلزال العام 1992 ويزدها سوء الحالة سوءً "في 2008 صندوق تطوير العشوائيّات عمل خريطة للمناطق العشوائيّة في مصر، وقيّم المناطق ديه واعتبرها مناطق خطرة من الدرجة الثانية، مالوش دعوة بقى تاريخية مش تاريخية".

مايقوله زعزع أيضًا في هذا الإطار أيضًا يؤّكده ما أخبرنا به مدير صندوق تطوير المناطق العشوائية خالد صدّيق عبر الهاتف، فأكد صدّيق أن الصندوق قيّم المنطقتين بناء على حالة المباني دون وضع تاريخيّتها في الاعتبار " ديه مسؤولية المحافظة، إحنا قلنا إنها داخلة في التسكين بتاع الأسمرات ولكن الموضوع ده بتاع البيوت أثرية مسجلة أو مش مسجلة والحي بيهدّها فديه إحنا ملناش دعوة بيه ديه مسؤولية الحي، مش إحنا اللي بنطلع قرارات إزالة".

جزؤ من مباني المنطقة، تصوير: هاجر هشام

يقول صدّيق إنه على علم بحالة منطقة عرب اليسار والحطّابة، وذلك أنهم يعملون بالتعاون مع اليونسكو على مشروع يهدف لتطوير منطقة الحطّابة بدلاً من هدمها، وهو المشروع الذي تشرف عليه مبادرة مجاورة، لكنه وبحسب المتوفر من معلومات، مازال ينتظر موافقة محافظة القاهرة "إحنا بنسجل البيوت بحسب حالتها، أهم حاجة عندنا هي حياة الناس"، لكن المحافظة، كما أسلفنا، رفضت التعليق للمنصّة على محتوى القصّة.

يقول الخبير السياحي ووكيل وزارة السياحة السابق عادل المصري للمنصة في حديث تليفوني  إن تسويق المدن بحاضرها وماضيها، وليس الآثار فقط، هو عامل جذب سياحيّ مهم في السنتين الأخيرتين " لما بنسوق للمدن، بنسوقلها من خلال الآثار، لكن ما بنسوقش للمدينة نفسها كبلد، القاهرة نفسها مرّت بمراحل تاريخية متعددة، لابد من إبراز هذا الجانب".

يقول المصري إن هذا التسويق يتطلب اهتمامًا بالطرق المؤدية للآثار والفنادق المحيطة بها، والتي عادة ما تكون فنادق نجمة أو اثنتين لكنها تقدم خدمة جيّدة للسيّاح، إضافة إلى باقي الخدمات، مضيفًا في حديثه للمنصة أن وجود الأهالي بجانب الأثر مفيد "لأنهم عندهم ثقافة المكان".

سقف إحدى البيوت من الداخل، تصوير: هاجر هشام

لا يفرّق المصري في حديثه مع المنصة بين الأثر بالمعنى المعروف له في مصر والعالم، والبيوت القديمة، يقول إن الأوروبيّون "لا يهدمون تاريخهم تحت أي صورة من الصور، أنا مش بتكلم على الآثار، أنا بتكلم على البيوت القديمة، دائمًا هناك جهات متخصصة للحفاظ على هذه الآثار، حتى الترام القديم مازال يعمل في باريس".

يشرح المصري أن ما يتحدّث عنه لا ينطبق فقط على أوروبا ولكن على دول عربية كالمغرب التي طوّرت مدن كمراكش وكازابلانكا بدلاً من هدمها، بهدف جذب السياح لمشاهدة هذه المدن بطابعها القديم "هم عملوا حاجة كويسة إنهم نجحوا في تطوير هذه المناطق بساكنيها وقاطنيها ولم ينقلوهم في مناطق أخرى، الناس ديه بيبقى عندها ثقافة هذا المكان فبالتالي بيحافظوا عليه".

البقاء حتى آخر منزل

بينما يسير القمّاح في شوارع عرب اليسار كالمعتاد، لا يواجه شبح خسارة منطقته كل يوم فقط، بل أسئلة الخائفين من ذهاب نتائج السعي وراء بقاء منطقتهم أدراج الرّياح، يرد بصوت واثق على السائلين "إن شاء الله هنفضل"، يأخذ الطريق الصاعد من بداية المنطقة وحتى نهاية حدودها الملاصقة لقلعة صلاح الدين، في وسط الطريق يقف ملتقطًا الأنفاس، يشرح أنه يشعر بنغزة في قلبه، أسأله عن مجهود "اللف مقارنة بسنّه كرجل ستيني"، يقول "شوية التعب دول هم اللي بيحافظوا على الصحّة".

يتحدّث القمّاح عن شعورهم بعد معرفتهم بقرار محافظة القاهرة من سنتين، يذكر في حديثه مصطلحات كقلّة الحية، و"الزعل"، يقول إنه يفضّل اللف والركض وراء أمل أو مسؤول ليحققه على البقاء منتظرًا أن يتم اقتلاعه من جذوره، على حد قوله "إحنا عندنا انتماء للمكان ده، مش ينفعش ياخدوه مننا".

تقترب الشمس من خط الأفق ولا يقترب القمّاح من نهاية سيره، بعد الجولة مع المنصّة حول المنطقة وقبلها مع أحد الباحثين العمرانيين الذي هدف إلى التعرّف على المنطقة، يحمل عددًا من الأوراق من محل لنسخ الورق، يشير إلى الرزمة بقوله "ده طلب لمدير صندوق العشوائيّات بنتكلم فيه عن مشكلة المنطقة، كل ورقة هيوقّع عليها واحد من أهالي المنطقة عشان يبقى باسم المنطقة كلها".

مازالت المنطقة تحتفظ بالأسماء القديمة للحواري والدروب، تصوير: هاجر هشام

يقول القمّاح إن أحمد حنفي، المحامي الذي تحدّثت معه المنصة حول تفاصيل قضيّة المنطقة، هو من كتب الصّيغة، والقمّاح يقوم بتوزيعها على الأسر المتواجدة للتوقيع "الباشمهندس صدّيق قال في تصريح تليفزيوني إن اللي عنده بيت ملك ممكن يقعد فيه ويطوروه، وإحنا بنكتب الورق ده عشان يعرف إننا ملاّك مش واخدين البيوت وضع يد ولا منطقة عشوائيّة".

يؤمن القمّاح إن قوّة الأثر الملاصق لمنطقتهم تقاس بوجودهم، هم القادرون، بحسب وصفه، على إحياءه بتواجدهم وحفاظهم عليه، يقف أمام الكاميرا، أصوّره وهو يحكي عن ارتباطه بالمنطقة ورفضه لإزالتها، تُثقل أجفانه بالماء الذي تحمله فتفر دمعة وهو يقول "ديه أملاك ناس، صرحلي أرمم وأنكس بالمواصفات اللي انت عايزها"، يضيف تساؤلاً "ليه عايز تموتني؟ هي ديه حياتي وديه أملاكي وديه جدودي".