صورة لإحدى الفلاحات المصريات. المصدر: أوكسفام- فليكر، مفتوحة المصدر

"الفرخة مش إلها وراك": أثر الحجازيين وبني حمير في كلام المصريين

منشور السبت 26 أكتوبر 2019

بلهجة ريفية متقنة، ظهرت قبل أيام الفنانة المصرية بسنت النبراوي في تسجيل فيديو تتحدث فيه عن ضرورة الكف عن حملات التنمر الممنهجة التي يواجهها سكان الريف المصري، لاسيما أبناء محافظة الشرقية، من قبل جيرانهم في العاصمة وغيرها من المدن الحضرية، بسبب لهجاتهم وطريقة نطقهم للكلمات.

بعد دقائق من نشر المقطع على فيسبوك، تفاعل الكثير من مستخدمي فيسبوك وتويتر بالتضامن مع ما طرحته الفنانة المصرية، مثلما رد آخرون بمزيد من التهكم على لهجات الريفيين الزاحفين إلى المدينة بحثًا عن الرزق أو التعليم، والذين يجبرون في أغلب الأحوال للتحدث باللهجة القاهرية، هربًا من عبارات الاستهجان والتهكم التي ستلاحقهم في الغالب لو ظلوا متمسكين بلغتهم المحلية.

https://www.facebook.com/plugins/video.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2Fpasant.elnbrawi%2Fvideos%2F2659520557463907%2F&show_text=0&width=267

مقطع الفنانة الشابة الذي التقط بكاميرا هاتف محمول يجدد النقاش حول أسباب تعدد اللهجات المصرية وتباينها حتى بين سكان المنطقة الواحدة، الذين يتشاركون نفس الصفات والطباع تقريبًا.

المهاجرون العرب

يعود التباين الواضح في لهجات المصريين وتعددها، إلى تنوّع القبائل العربية التي هاجرت إلى بلاد النيل عقب الفتح العربي، عام 20 هجرية، وفقًا للدكتور محمود مصطفى، أستاذ الأدب العربي، في كتابه الأدب العربي في مصر.. من الفتح الإسلامي إلى نهاية العصر الأيوبي، الصادر عام 1967 عن دار الكاتب للنشر بالقاهرة.

يوضح مصطفى في كتابه أن القبائل العربية التي هاجرت إلى القطر المصري واستوطنته عقب استقرار الأمور لوالي مصر عمرو بن العاص في مصر، كانت تأتي مصر جماعات، وتحافظ على لغتها، بل وتؤثر في سكان المنطقة الأصليين أيضًا، إلى أن تآكلت اللغة القبطية وحلت العربية محلّها. 

ويشير هنا إلى أن التاريخ المصري شهد عشرات الهجرات العربية، والتي غالبا ما كانت بسبب القحط وقلة المؤن ببلاد العرب، أو طمعًا في الرزق الوفير الموجود بمصر، كما أن بعض الولاة المسلمين، كانوا يستقدمون أتباعهم لنصرتهم وحمايتهم من غارات أعدائهم.

 

صورة تعبيرية عن   الهجرات القديمة. المصدر"موقع شمال أفريقيا الأمازيغية"

توزيع القبائل في بلاد النيل

وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن قبائل مهرة وتجيب ولخم وغسان وغافق استقرت في منطقة الفسطاط ومصر القديمة، ولجأ قوم من ابن غافق يسمون بنو قرافة إلى سفح جبل المقطم، ونسبة إليهم سميت هذه المنطقة بالقرافة، وهي محل دفن الموتي حاليًا.

واختار القرشيون بلاد الأشمونيين مقرا لهم، بينما نزل قوم من جزام ولخم بالأسكندرية، فيما توضح الباحثة نهلة أنيس مصطفى في ورقة بحثية بعنوان الهجرات العربية إلى مصر وتأثيرها على اللهجة المصرية نزل بنو هلال في أسوان، وبطون بلي وأخميم وجهينة ومنفلوط وأسيوط كلها كانت مستقرا للوافدين العرب بعد الفتح، كما سكن الجيزة قبائل همدان ويافع وطائفة من الحجر.

وكان من عادة العرب أن يؤسسوا لأنفسهم في المناطق التي ينزلون فيها مكانا خاصًا بهم، حتى أنه وبحلول القرن الرابع الهجري كان تحوّل مصر تدريجيًا إلى اللغة العربية قد اكتمل، واندثرت اللغة القبطية بنسبة كبيرة بعدما اعتنق أغلب المصريين الإسلام، وفقا لنهلة.

مصريون من حِميَر وطيئ

وبالعودة لكتاب الأدب العربي في مصر، سنجد أنه يوضح كيف تظهر لهجات القبائل العربية واضحة في كلمات المصريين، لاسيما اليمني منها، مشير إلى أن غالبية المصريين يتحدثون لغة أهل حمير اليمنية الشهيرة التي وردت في حديث النبي محمد "ليس من امبر امصيام في امسفر" والتي تعني "ليس من البر الصيام في السفر"، فيستبدل المصريون "اللام" بـ "الميم" في قولهم "امبارح" بدلًا من "البارح".

ويشير اللغوي محمود مصطفى إلى أن غالبية المدن المصرية تعتمد هذه الطريقة في النطق إلا محافظة الشرقية التي تنطقها على عكس لهجة حمير، ويقول أهلها البارح بنطقها الطبيعي.

المصريون لم يكتفوا بحمير وصار عدد منهم على لغة بني تميم وقلبوا الألف المقصورة همزة، حينما قالوا "لأ" للاعتراض، بدلا من لا، وفقا للكاتب، كما أنه يشير إلى تأثير لهجة قبيلة طيئ في عدد من الأقطار المصرية في وجه بحرى والصعيد نتيجة لتفرق أبناء القبيلة الذين وفدوا لمصر، وتحديدا في وسط الدلتا، والفيوم وبني سويف، حيث يسقط سكان هذه المناطق الحرف الأخير من الكلمة، كما هو الحال في قولهم  "أحمااا" بدلا من أحمد.

شراقوة من الحجاز

بالعودة للمقطع الذي بثته بسنت النبراوي، فإن لهجة محافظة الشرقية حظيت بدراسة تفصيلة، دون غيرها من لغات المصريين، نظرًا لتمايزها عن بقية اللهجات، وهو ما ترجعه الباحثة اللغوية نهلة أنيس، إلى أن "الشراقوة" يتحدثون اللغة الحجازية، وبعضهم تأثر بلهجة المهاجرين من المدينة المنورة لمصر.

وتستشهد الكاتبة في بحثها المعنيّ باللهجة الشرقاوية، إلى أن لهجة أهل الحجاز تظهر في حديث أبناء الشرقية، حينما يستبدلون الهمزة المتطرفة في الكلام بالـ"ياء"، فيقولون " ماي" بدلا من "ماء" وجاي" بدلا من جاء.

 

كوميكس ساخر من لهجة محافظة الشرقية. فيسبوك

وتلفت إلى أن المدن القريبة من القاهرة في الشرقية كمشتول السوق وبلبيس طغت عليها لهجة العاصمة وتنصلت من عروبتها الحجازية إلى حد ما، لكن غالبية قرى ومدن الإقليم الشرقي بما فيها بعض مدن الدقهلية ودمياط يميلون للنطق بالطريقة الحجازية.

وتستشهد نهلة بكلمات أهل الشرقية والتي هي محل تهكم البعض بأنها عربية أصيلة مردود غالبيته للعرب الذين سكنوا هذه المنطقة، كما في قولهم "إجت" بدلًا من جاءت لكن وقع إبدال لغوي في الكلمة، وهو نهج تصريفي يتبعه بعض العرب في كلامهم، والحال نفسه في إلها بدلا من لها، في العبارة الشهيرة "الفرخة مش إلها وراك".

كلمات قبطية صامدة

 ورغم اكتساح اللغة العربية لسالفتها القبطية إلا أن الأخيرة لم تغب عن أحاديث المصريين، وفقا لكتاب الأدب العرب في مصر، وتظهر الكلمات الفرعونية جلية في أسماء البلدان والممارسات المصرية الشائعة في بعض الأرياف، على سبيل المثال  كلمات صفت (بلد) وماجور (وعاء) وطحطا (هيكل الأرض).

أيضا من الكلمات القبطية التي تحولت للعامية المصرية ياما (كثير)، وأخ (آه)، وبعبع (عفريت)، وكوِّش (استولى)، وليلي (فرح وانشرح)، ومنه أخذ المطربون قولهم في المواويل "يا ليلي يا عيني"، أي يا فرحي وهنائي.