nsplash.com
صورة برخصة المشاع اﻹبداعي

نصوص رقميّة: ثورة تفاعلية يقودها الكيندل

منشور الأحد 23 فبراير 2020

فرضت الأدوات الجديدة للتكنولوجيا نفسها على الأدب، فأصبحنا أمام تجربة جديدة ضمن سياق مغاير معروف بـ"الثقافة الرقمية"، وما استتبع ظهوره من بزوغ أشكال جديدة في الكتابة والتلقي، فالأدب الذي بدأ شفاهيًا، وانتقل كتابيًا ورقيًا، تحول الآن إلى مرحلة جديدة من الكتابة التفاعلية المقروءة والمسموعة عبر الوسائط الحديثة.

ولما كان الأدب عمومًا، والمعاصر منه على وجه الخصوص، أداة تواصل شديدة الالتصاق بأحوال الإنسان وتطوراته، فإنه لم يخرج عن سياق التطور الذي فرضته الثورة التقنية بوسائطها التفاعلية الحديدة، وسط تساؤلات عن تأثير الإبداع الرقمي على الشكل التقليدي للأدب، وما إذا كان يفسح المجال أمام نمط جديد من أنماط العلاقة التفاعلية بين الإنسان والآلة.

قوالب مغايرة

تتحكم مجموعة من الأنماط في المكونات الأساسية للجملة التفاعلية، وهي الصورة والصوت والحرف، مضافًا إليهم مزيد من التأثيرات في توجيه البناء والدلالة والمقصد، وعند الحديث عن تعدد الخيارات اليوم من المكتوب والمسموع والمرئي، فيجب التفرقة بين الكتاب الإلكتروني، والتفاعلي، والمسموع، فالأول هو المصمم بواسطة الحاسب كوعاء لنقل المعرفة بصيغ أهمها PDF، كأبسط صور تحويل الكتب العادية إلى نسخ إلكترونية.

أما الكتاب التفاعلي فلا يعتمد على الحاسوب في عرض محتواه وحسب، وإنما يوفر للقارئ تفاعلًا من خلال الصور والفيديوهات والروابط التي تنقل المتلقي عبر مسار الكتاب، فهو لايقدم محتواه مجردًا، وإنما يربطه ويدعمه بدمج يحفِّز القارئ على التفاعل بطرق مختلفة.

والكتاب المسموع هو أحد أبرز تجليات عصر الثقافة الرقمية، حيث تتدفق الأفكار والكلمات بشكل صوتي، لتكون نصوصه المكتوبة في متناول كافة المتلقين، حتى من يجهل القراءة منهم، بعد تحويلها لمواد مسموعة، وقد لاقى انتشارًا ونموًا غير متوقع، بعد تزايد تطبيقات ومواقع الكتب المسموعة خلال الأعوام القليلة المضية، وظهور مشروعات واكبت احتياجات السوق محققًا "مقروئية" واسعة لكثير من الكتب التي خرجت عن شكلها التقليدي كمنتج جديد مرتبط بالفضاء الرقمي أيضًا.


اقرأ أيضًا: الكتاب الصوتي: سوق جديد يوفر الوقت.. لكن هل لدينا مدارس في القراءة؟


يرى المتحمسون لتجربة الكتب المسموعة، أن آفاقها أرحب من الأشكال التقليدية، وأن لها الفضل في تنويع أشكال السرد المسموع، ليشمل إلى جانب الأدب، حلقات قصيرة وطويلة لأعمال درامية وفنية ساعدتها التقنية على أن تحتفظ بعناصر تشويقية تميز النص.

وكانت تلك الإصدارات الثقافية ظهرت في بادئ الأمر لتمكين المكفوفين من التزود المعرفي، لكنها سرعان ما تحولت إلى وسيط مهم وجاذب لكافة شرائح المجتمع.

صورة برخصة المشاع اﻹبداعي. unsplash.com 

تجربة الكيندل

يمثل الكيندل واحدًا من أبرز تطورات صناعة الكتب من المطبوع إلى الإلكتروني، يعتبره كثيرون طفرة، وجدوا فيها ضالتهم، وجزموا بأنهم لم يعد بإمكانهم القراءة إلا باستخدامه، معددين مميزاته والتي منها؛ إمكانية أن تقرأ كتابُا بالانجليزية وتجد فوق كل كلمة صعبة الفهم شرحًا بخط صغير أعلاها، أو تقرأ رواية مليئة بالشخصيات، وإن التبست عليك الأسماء فبضغطة زر ترى أين تم ذكر هذا الاسم أول مرة.

الكيندل الذي فجر السؤال عما إذا كانت تلك الوسائل تُغني عن الكتاب الحقيقي وملمسه، أم أنها وسائل محفزة على القراءة، تبين لك مواصفاته السبب في كونه أحد الثورات الرقمية، فهو صغير وخفيف، يضم آلاف الكتب، وبطاريات تدوم لأسابيع، وتتميّز شاشة العرض العاملة باللمس بقدرتها على تحييد أثر الانعكاسات في أي مكان حتى في ضوء الشمس المباشر، وفي النهاية أصبح يتيح للمستخدم حمل جميع كتبه المفضلة في جهاز واحد والاطلاع عليها أينما يكون.

وتأتي أحد مميزات هذا القارئ الإلكتروني اللوحي أنه يفتح الباب واسعًا أمام فرص جديدة للمؤلفين المستقلين، حيث يمكنهم الآن وفقًا لشركة أمازون صاحبة الابتكار التقني، نشر كتبهم باللغة العربية وتحقيق إيرادات منها من خلال منصة Kindle Direct Publishing، وهو ما يوفِّر لعدد غير محدود من الكُتَّاب الوصول بسهولة إلى ملايين القراء حول العالم.

مع سرعة التطور الذي تشهده الوسائل التكنولوجية، تبرز مؤسسة هنداوي كمنصّة متسقة تمامًا مع أشكال التحول الرقمي، ويقول القائمون على تلك التجربة العربية إنهم معنيون بفتح آفاق جديدة لنشر المعرفة والثقافة بكافة الصور الحديثة؛ وتنشر المؤسسة المؤلفات القيِّمة سواء المكتوبة بالعربية أو المترجَمة إليها، في صور إلكترونية مختلفة تلائم القراءة على الهواتف المحمولة وأجهزة الكيندل، وتتيحها مجانًا عبر موقعها للجمهور.

يتيح موقع هنداوي تحميل الكتب اﻹلكترونية بصيغ مختلف

بخلاف موقعها الذي يحوي كمًا هائل من الكتب الإلكترونية، يوفر تطبيق هنداوي للهواتف المحمولة الكتب برخصة المشاع اﻹبداعي، للتحميل بالصيغ المختلفة سواء كانت PDF أو ePub المناسبتين لأي هاتف أو kF8 المناسبة لأجهزة كيندل.

يعتبر رئيس قسم الترجمة بمؤسسة هنداوي، حسام بيومي، أن الجدل حول المطبوع مقابل اﻹلكتروني لن ينتهي، والمهم التركيز دائمًا على المحتوى وليس الوسيلة.

يقول بيومي للمنصَّة إن قراءة كتاب إلكتروني وقراءة كتاب ورقي تجربتين مختلفتين تمامًا، مثل مشاهدة نفس الرواية على شاشة السينما وعلى خشبة المسرح، وكلا النوعين قادرين على التعايش معًا ولن يتحتم أن يقضي أحدهما على الآخر، مشيرا إلى أن الكتاب الإلكتروني سيزدهر ويتطور لمحبي الوصول إلى المحتوى الرقمي، والكتاب الورقي سيظل لمحبي امتلاك الكتاب.

ويرى بيومي أن الحصول على الكتاب في صورة إلكترونية هو الأسهل والأرخص ويوفر مزايا أخرى كثيرة، إلا أن العلاقة العميقة مع الكتاب الورقي و"التجربة العاطفية" معه ستضمن بقاءه، فبين صفحات الكتاب الورقي فقط يمكننا أن نجد بعد سنين طويلة وردة ذابلة.

يدلل بيومي على أهمية الكتاب المطبوع بجانب اﻹلكتروني بأن مؤسسة هنداوي، مع ريادتها في النشر الإلكتروني، تحرص في الوقت نفسه على نشر بعض إصداراتها في صورة مطبوعة لجمهور القُرَّاء من محبي اقتناء الكتب.

صورة برخصة المشاع اﻹبداعي. بيكساباي

نماذج جريئة

الأعمال العربية المماثلة، على قلتها حتى الآن، عمدت إلى توظيف ودمج النصوص بالصور والصوت والألوان، وبعضها يتطلب الاتصال باﻹنترنت لقراءتها، وللروائي الأردني محمد سناجلة تجربتين في النشر اﻹلكتروني التفاعلي، من خلال روايتي "شات" و"صقيع" اللتين قدم فيهما سمات جديدة لتكوينات النص، وطوَّر عناصر المشاهدة والصوت الوظائف التقنية، لينتج حالة إبداعية مختلفة من الكتاب اﻹلكتروني.

الدكتور سعيد يقطين، المعروف كأحد أبرز الإكاديميين العرب تنظيرا للرقميّة، وتبشيرًا بها وتحمّسًا لمنتجها، تناول ظهور أشكال جديدة من الكتب من خلال كتابيه "من النصّ إلى النصّ المترابط، مدخل إلى جماليات الأدب التفاعُليّ"، والنصّ المترابط ومستقبل الثقافة العربيّة نحو كتابة عربية رقمية".

تجديد الكتابة

في معرض تقييمه للتجربة، يذكر يقطين أن هناك أزمة تواجه القوالب الأدبية الجديدة التي تعتمد على التكنولوجيا، لأن الأغلبية السائدة (من الجمهور) حاليًا تعيش في عصرها الحالي بتصورات عصر سابق، ما يؤدي إلى عدم الاندماج بسرعة، وعدم الانخراط بصفة إيجابيّة، كما أن ممارسة الكتابة الرقميّة لا يمكنها أن تتحقق إلا بتجديد الكتابة العربيّة؛ من المقال الصحفي إلى الأطروحة الإكاديمية مرورًا بكل الألوان الأدبية.

كما أنه لا يمكن التغافل عن دور منعم الأزرق، وهو من أغزر الشعراء الرقميّين إبداعًا، وهو شاعر مغربي، يبث من خلال موقعه على شبكة الإنترنت كمًا كبيرًا من القصائد الرقمية المعتمدة على تقنية فلاش بلاير، مثل لعبة المرآة، وأفق في ليل الأعمى، ومنابع الكتاب، ومعظمها كان قصائد ورقية حولها إلى قصائد رقمية، أجاد فيها توظيف تقنيات النص المترابط عبر المؤثرات الصوتية والصورية،  والتنقل بين النوافذ المفتوحة، فلم تكن تجربته ناشئة حديثة العهد، وإنما تجاوزت ذلك لتصل إلى مرحلة النضج والارتقاء بالعمل الإبداعي الشعري الرقمي تحديدًا.

تكريس الوهم

رغم التغيرات الكبرى التي جاءت مع فيسبوك وتويتر وانستجرام، وما استتبع ذلك من إنتاج أدبي لم يكن بحاجة للطباعة أو حتى النشر في صورة كتب إلكترونية، ولكن اكتفى بالوجود على منصات التواصل الاجتماعي، وهو ما اعتبره بعض الأدباء العرب بعيد عن اﻹبداع وتكريس للوهم والهشاشة، مثل الشاعر والناقد الأكاديمي المغربي صلاح بوسريف، والشاعرة السورية ريتا الحكيم.

لا يعتبر هؤلاء اﻷدباء أن حصيلة "كُتَّاب مواقع التواصل الاجتماعي" من الإعجابات، التي تظهر منذ الدقائق اﻷولى للنشر، كافية للاعتراف بجودة العمل المنشور، مبرزين غياب معيار جاد أو حقيقي لماهية وعمق هذا الإعجاب السريع، الذي يرون فيه غياب لعنصر الاستمرارية ومعايير أخرى تأتي على حساب الجوهر الحقيقي للأدب.

مزج الأدب بالتقنيات يواجه اتهامًا يتعلق بالكسل الذهني، وأنه يشجع على تحويل عادة القراءة إلى مجرد تجربة إنصات سمعي أو متابعة عابرة لشاشات الهواتف المضيئة، بما يناقض المفاهيم الراسخة عن القراءة كعملية معرفية معقدة وأداة جادة لتوسيع مدارك الإبداع.

كما ظهرت خلافات حول ما إذا كانت تلك الأشكال الجديدة للكتب تندرج تحت بند الإبداع، أم أنها صالحة لأجناس أخرى كالمدونات والتقارير منعدمة الصلة بالشعر والقصة والرواية.

بخلاف ملاحظات حول المهارات المطلوبة من مبدع تلك الصور التكنولوجية، ومدى احتياجه للتدريب الفني في مجالات البرمجة وفنون المحاكاة من عدمه، وإلى أي مدى تلك الأشكال الجديدة جديرة بطرح الرؤى وإثراء المدارك كما يفعل الإبداع التقليدي في شكله الورقي، ومدى احتياجه الدائم للأشكال الأولية تبّسطه وتشرح تقنياته لعموم المتلقين.

تفاؤل حذر

رغم التخوفات إلا أن هناك حالة تفاؤل بعصر إبداعي جديد يهضم كل ماسبقه من أشكال أدبية وإبداعية، ليتولى إعادة تخليقها في أدب جديد ومختلف، اعتمادًا على أن كل شكل تعبيري جديد يقترح بلاغة جديدة، مع كامل التسليم بأن سلطة الورقي لا نهائية.


اقرأ أيضًا: عندما يلعب الكتاب دور البطولة: ماذا يقرأ أبطال اﻷفلام على الشاشة؟


وتذهب تقديرات لمجموعة مبدعين وأكاديميين، أمثال الروائي المغربي طارق بكاري والدكتور وصفي ياسين أستاذ الأدب العربي الحديث، إلى أنه لا يمكن القفز على بدايات هذا الأدب، نظرا لكونه لم يبلغ الرسوخ والتراكم الثري حتى الآن، فحركة الإبداع الرقمي وتدفق الأشكال الجديدة من الكتب لايزال بطيئًا، إن لم يكن متعثرًا، مع الوضع في الاعتبار دائما أن النص الرقمي قادر على إثراء التجربة الإبداعية، وتجديد الدماء في عروقها.


مصادر:

- رسالة دكتوراة عن النظرية النقدية المعاصرة- جامعة بوضياف بالجزائر.

- تقرير مطول بالاتحاد الإماراتية.. الأدب خارج الورق.