الصورة بإذن من الكاتبة
رحلة عائلة عنايات الزيات إلي القناطر الخيرية

الجرح المفتوح: أو الرحلة التي تبدأ من المقابر "في أثر عنايات الزيات"

منشور الأربعاء 18 ديسمبر 2019

كيف نرث جرح الماضي الذي نشأنا على ضفافه؟ كيف يمكننا أن نستبطن ذلك الجرح الذي لا يصيبنا بعد تشكلنا، بل نولد فيه مباشرة، ونبني ذواتنا حوله؟ لهذا الجرح أسماء كثيرة، الذكورية مثلًا، أو الحداثة، أو الرأسمالية.

نولد في الجرح المفتوح ثم نتعلم شيئًا فشيئًا أن نغمض أعيننا ونبلّد حواسنا حتى لا نراه أو نشعر بألمه. وإذا حدث أن لمحناه نغضّ الطرف سريعًا حتى تسير الحياة، إذ كيف يمكننا أن نضطلع بهذه المهمة المستحيلة؟ كيف يمكننا أن نعيد التفكير في العطب الذي نحن صنيعته؟ كتاب "في أثر عنايات الزيات" هو دعوة لتعلم السير في هذا الدرب الوعر، والذي لا درب غيره، إذا أردنا حقًا النظر إلى الجرح المفتوح داخلنا.

تقتفي الكاتبة إيمان مرسال عبر صفحات كتابها الأثر الواهن لعنايات الزيات، والتي كتبت رواية وحيدة بعنوان الحب والصمت نُشرت عام 1967، وانتحرت قبلها عام 1963 في عمر 25 سنة، أي قبل أكثر من نصف قرن.

عبر صفحات الكتاب تتتابع أمامنا نتف صغيرة من حياة عنايات. عنايات الأم، عنايات مريضة الاكتئاب، عنايات الزوجة المقموعة، عنايات الكاتبة، عنايات الصديقة، عنايات العاملة في معهد الآثار الألماني. شذرات صغيرة من حياة كاتبة مجهولة لا تكاد تشكل كُلّا واحدًا.

لم تسمح أرشيفات مختلفة لإيمان مرسال بالاطلاع على أكثر من هذه الشذرات، تارة من أجل حماية شرف البرجوازية المهدَد، وتارة لأنها تخلصت من كراكيب اعتبرتها بالية. لكن بالرغم من هذا النزر اليسير، أو ربما بسببه؛ استطاعت مرسال بعد لأيّ أن تتبع ما تيسر لها من أثر الزيات.

والمثير أنها لم تفعل ذلك من أجل إعادة الاعتبار لكاتبة هُضم حقها، ولا لإعادة قيدها في سجل العائلة أو الدولة. فليس هذا كتاب سيرة بالمعنى التقليدي، يروي حياة شخصية وعصرها، بل هو استعادة كاملة لندوب ذاكرة جمعية من موقع غير أيدولوجي. بهذا المعنى هو كتاب عنّا وعن الماضي الذي نحن صنيعته، بقدر ما هو كتاب عن حياة الزيات وزمنها الذي قادها إلى الانتحار.

هناك خيط رفيع كأنه المحبة يجمع الراوية بشبح عنايات، يناديها فتسير وراءه ولا تترك تفصيلة من دون أن تقرأها. القراءة هنا هي شرط المحبة وفعلها. تسبر الراوية تاريخ كل تفصيلة وتسير وراء منحناياتها وتعاريجها الكثيرة. فيتشكل بين يديها نسيجًا عريضًا من التواريخ الكثيرة يتحرك فوقه شبح عنايات، أو بالأحرى يكمل تيهه وهروبه كصاحبته.

كتاب "في أثر عنايات الزيات" هو في الحقيقة كتاب عن القراءة. تعلمنا رحلة الراوية وراء شبح عنايات كيف نقرأ في حبوب وردية تاريخ الطب النفسي في مصر الحديثة، كيف نقرأ في اسم ميدان آفل جهازًا كاملًا للبيروقراطية، كيف نقرأ في معهد بحثي تاريخًا غير مكتوب للحرب العالمية الثانية، كيف نقرأ في المقابر الفجوات المخبأة في أشجار الأنساب.

القراءة هنا هي فعل المحبة الخالص، حتى وإن كانت من طرف واحد. القراءة هي العمل الشاق والدؤوب من أجل رؤية ما فقدنا القدرة على رؤيته. رؤية طبقات من القمع الأبوي مطوية بعناية ومخبأة وراء حياة تبدو متحررة. رؤية كيف يعمل نظام شمولي من خلال تفاصيله البريئة.

بذلك تكون القراءة هي منهج الوراثة الذي يقترحه الكتاب، فمن خلال قراءة لا تترك تفصيلة مهما صغرت يمكننا تمثل طبقات جرح الأبوية ووراثته. وراثة جرح تعني إدراك أن هذا الجرح ليس جرحًا أتلف فردًا وانتهى، بل هو جرح يعمل داخلنا ويشكلنا، ولا سبيل لنا لمواجهته سوى وراثة أدق تفاصيله لاستخلاص طاقتها، باختصار نقدها من خلال قراءتها.

الكاتبة التي انتحرت في شرخ شبابها هي كتاب كامل من الفرص المهدرة والآمال المجهَضة. جلست إيمان مرسال تقرأ فيه بتأن وتفان منقطعي النظير. وعندما انبرت تكتب، أو بالأحرى عندما شعرت أن من المسموح لها الآن أن تشارك في كتابة هذا الكتاب، مزجت الدقة العلمية بالحساسية الشعرية، وأخذت تعمل بين تضاعيف السطور التي أمامها. تتبعت مرسال بإخلاص شديد التفاصيل التي لاحت لها، وبذلت قصارى جهدها لكي تجعلها تتكلم بنفسها عن نفسها. كلٌّ بلغته.

هذا الكتاب الذي بين أيدينا اليوم، وشاركت في كتابته كاتبتان قادمتان من عصرين مختلفين، هو أكثر حساسية من أن يكون هدفه جعل جرح عنايات الزيات القديم يندمل، فهو يدرك أن أي محاولة حقيقية لوراثة جرح الماضي لا يجدر بها أن تغلق ما هو مفتوح، وإنما عليها ترك هذا الجرح يعمل على الواقع. فالجراح الحقيقية لا تندمل أبدًا، ولا حتى تطلب التسكين، لأنها لم تعد جراحًا شخصية. الجراح الحقيقية هي طاقة النفي التي ستظل تهب علينا وتؤرقنا. ما تريده حقًا هذه الجراح هو هزّنا، وإفساد حاضرنا القائم على نسيانها.

لذلك فإن عنايات الزيات لن تهنأ الآن في مرقدها لأننا تذكرناها، فهي في عالم الغياب لم تعد فردًا أو ذاتًا، بل اسم علم لتاريخ كامل من الارتباك. ما يمكن أن يجعلها قد ترضى هو أننا لمسنا أخيرًا طاقة النفي التي يحملها جرحها، وأننا سمحنا لهذه الطاقة أن تلامس حاضرنا في كتاب، قد يسهم في إعادة تشكيله.

 

قبر عنايات الزيات التي وصلت له بعد بحث إيمان مرسال. استخدام الصورة بإذن من الكاتبة

عنايات وفرديتها

خاضت الراوية غمار رحلتها كفرد يقتفي أثر فرد آخر يفصلها عنه عصر كامل، ولم تبحث عن حالة، أو مثال على وضع المرأة في المجتمع مثلًا، كعادة الدراسات الأكاديمية. بل أصرت الراوية على حماية عنايات من تأويلها أو وضعها في أي صندوق أيديولوجي.

أصرت على فرديتها، بوصفها غير منتمية لأي من المشاريع الاجتماعية والسياسية التي كانت الستينيات تغص بها. ولم تترك الراوية حجرًا على حاله في رحلتها. قلبت كل ما وجدته ثابتًا وراسخًا في طريقها لكي تكشف باطنه البعيد عن أشعة الشمس، لكي تقرأه، لكي تظهر تناقضاته. سارت عبر المؤسسات الإجتماعية المختلفة وهي تفكك خيوطها وتكتب تاريخًا موازيًا لها.

المؤسسات نفسها التي تعيش الراوية في كنف تناقضاتها بعد أكثر من نصف قرن. مؤسسات الزواج والقانون والأسرة والعمل والنشر الأدبي والمرض النفسي والجندر والصداقة. كأن الراوية والكاتبة تتبادلان لعب الأدوار على مسرح تلك المؤسسات نفسها. كل حجرة من أحجار قرن ونيف من الحداثة قلبتها الراوية بعد أن تفحصتها بتمعن مهما صغُر حجمها. باستثناء حجرة واحدة فقط، هي للغرابة أكبر حجرة يمكن للمرء أن يواجهها في هذه الرحلة، ألا وهي حجرة الطبقة الاجتماعية.

عنايات وطبقتها

تُرى لماذا غابت الطبقة عن اهتمامات الراوية؟ لماذا لم تحاول قراءة عنايات الزيات من عدسة الطبقة؟ لماذا لم تحاول هز هذه الحجرة أيضا وتحريك تناقضاتها؟ لماذا لم تحاول وراثة الطبقة؟ وهل هناك صلة بين غياب الطبقية وحضور الفردية وتقديمها بوصفها ما قد يحمي من تنميط عنايات ويطلق سراح روحها التي خربتها البنى الاجتماعية المختلفة؟.

تزداد إثارة هذا الغياب للاهتمام مع الأخذ في عين الاعتبار أن سؤال الطبقة الاجتماعية كان في صلب مشروع الحداثة المصرية في نسختها الناصرية الاشتراكية، وهي الفترة التي كبُرت وماتت فيها عنايات الزيات.

النظام الناصري قام بإصلاحاته الزراعية وأمم ثروات الإقطاع رافعا شعار تمكين الطبقات الكادحة. مصير هذه الشعارات وهذه النسخة من الاشتراكية معروف، فرغم بعض نجاحاتها أفرزت نظامًا شموليًا فاسدًا. لكن ما يهمنا هو أن عنايات الزيات كانت تنتمي لطبقة اجتماعية من الواضح أنها ثرية، على الأغلب طبقة اقطاعية يتمتع أفرادها تلقائيا بامتيازات تسمح لهم بتحقيق ذواتهم، طالما لم يخرجوا عن قانون هذه الطبقة الأبوي.

بالتأكيد ستكون هذه الطبقة على خصومة مع أي مشروع يسعى لسلبها امتيازاتها. هذا التوتر الطبقي كان على سبيل المثال في قلب رواية عنايات الزيات الوحيدة. لماذا غابت الطبقة إذًا عن كتاب "في أثر عنايات الزيات" وهو يستحضر لحظة يهيمن عليها السؤال الطبقي؟ لماذا فُصِل الصراع الطبقي عن الصراع الجندري؟.

 

جمال عبد الناصر- لوحة لحامد عويس

فردية واحدة أم فرديات مختلفة؟

يبدو الكتاب في أحيان عديدة كأنه يحاول أن يعقد صلة قرابة بين فردية التسعينات التي نشأت الراوية فيها وتشكلت أسئلتها ككاتبة في كنفها، وبين فردية الخمسينيات ومطلع الستينيات التي عاشت فيها عنايات. لكن صلة القرابة تلك، لو صحّت هذه القراءة، أتت غير مقنعة، أو على الأقل لا يمكن أن تكون صلة قرابة من الدرجة الأولى. إذ كيف يمكن أن تستوي فردية أبناء وبنات الطبقة المتوسطة وفردية أبناء وبنات الطبقة المخملية؟ كيف يمكن أن تستوي فردية خيض صراع من أجلها وأخرى ممنوحة سلفا وإن بشروط، أخرى "محمية داخل طبقتها"؟.

لعل الصواب لن يجانبنا إذا قلنا إن فردية التسعينيات نبعت من الطبقات نفسها التي نمّطتها دولة ناصر وما تلاها من أجل أيديولوجيتها، وكانت طريقة احتجاج على هذه الدولة وعلى الشمولية والتوحيد القياسي اللذين قادت إليهما. كانت فردية تسعى لانتزاع حق لم يُمنح لها، وهو الحق في الاختلاف، أو بالأحرى إنتاج هذا الاختلاف.

الفردية في التسعينات والفردية في الخمسينيات ومطلع الستينيات بهذا المعنى لا تتطابقان، بل تقف أحدها مقابل الآخر، وتنطويان على تعقيدات مختلفة. ويبدو لي إن التمسك بصلة القرابة تلك قد يفسر تفادي سؤال الطبقة في الكتاب. إذ أن الفرديات لا يمكن أن تتطابق إلا إذا جردنا الجميع من طبقاتهم ومحدداتهم الاجتماعية والتاريخية، عندها يصبحون متساوون في ضجرهم، متشابهون في رغباتهم، متماثلون في صراعاتهم.

أم لعل تنحية سؤال الطبقة جانبًا هو ما أدى إلى مركزية الفردية في الكتاب؟ ليس المقصود بالطبع هنا تثبيت عنايات الزيات في طبقتها، أو محاكمتها أيديولوجيًا بسبب هذا الانتماء، فطبقة المرأة هي أكثر تعقيدًا من كونها الطبقة التي ولدت فيها. بل المقصود فقط هو محاولة فهم لماذا غاب سؤال الطبقة لاسيما في لحظة كان هو محورها، محاولة فهم لماذا قررت الراوية بعد أن شعرت بـ "ثقل الطبقة" أن تنحيه جانبًا.

الذات والجرح

جرح عنايات لا يخصها وحدها، ولا يخص طبقتها وحدها، ولا يخص جنسها وحده، بل يخصنا جميعًا، لكن المهم هنا ملاحظة أن كلمة "جميعًا" لا تعني أن الجميع بات ينتمي للطبقة نفسها، أو بات متساوي الامتيازات.

لنعد الآن إلى الفردية، إن النقد الأساسي الموجه منها إلى الطبقة هو أن الأخيرة هي هلام أيديولوجي لا يعيش فيه أفراد، وإنما تعيش فيه فكرة واحدة فقط تتغذى على نفسها. وبالتالي فإن الفردية ترى في نفسها محاولة للخروج من هذا الهلام، وإعادة التحديد على أسس أخرى غير الأسس الأيديولوجية، وذلك عن طريق إفراز ذاتية واعية بنفسها. 

لكن الخروج من الهلام لا يعني بالتأكيد الخروج من التاريخ، وإلا التفّت الذاتية على نفسها وأصبحت مُنتِجًا لهلام جديد، اسمه الذوات الحرة. إنتاج الذاتية لنفسها هو في النهاية عملية اجتماعية لأنه يحدث في لحظة صراع مع قوى اجتماعية أخرى.

مرة أخرى، ليس المقصود من هذه المناقشة إقحام سؤال الطبقة على موضوع بحث الكتاب، حتى ولو كان هناك ما يبرر ظهور هذا السؤال كما رأينا، وإنما المقصود في الواقع هو محاولة إنقاذ الذاتية من نفسها.

قد يكون قرار الراوية تنحية الطبقة جانبًا نابع من الرغبة في أخذ مسافة من التفسيرات الأيدولوجية الكسولة، وافساح المجال لتأمل أعمق حول تأثير البنى الاجتماعية على ذوات مستقلة، ذوات تلتقي بعضها على الأرجح على أرضية مشتركة هي الذاتية. لكن الطبقة ليست مفهومًا تحتكره الأيدولوجيا وحدها، كما أن الذات هي موضوعية بقدر ما هي ذاتية، وتتحدد بمحددات اللحظات التاريخية التي تتشكل فيها. فالذات ليست بناءً مكتملًا سلفًا، يُزوّد به جميع البشر في جميع العصور وعلى نفس النحو.

الذات لا تكتمل أولًا ثم تتعرض لجرح الحداثة أو الرأسمالية أو الذكورة أو الدولة أو الطب النفسي، بل تولد في هذا الجرح مباشرة، وتظل مفتوحة عليه. ولا شفاء لها سوى بالعمل الدؤوب والجماعي من أجل وراثته، ذلك العمل الذي لا يكتمل أبدًا.

بطريركية أدبية

نحن مدينون بالكثير لكتاب "في أثر عنايات الزيات". جزء صغير من هذا الدين يعود إلى جعلنا نفهم لماذا احتفت البطريركية الأدبية برواية لطيفة الزيات الباب المفتوح بوصفها رواية المرأة بامتياز، بينما همّشت وتجاهلت رواية عنايات الزيات التي تكشف فيها ذات أنثوية عن انكساراتها وتخبطاتها بلا أي شعارات نضالية أو ثورية.

دولة الأدب أسقطت من سجلاتها كاتبة انحرف عملها عن ما هو مقبول في وقتها، ألا وهو تنميط المرأة في دور واحد وهو أن تكون جندية في المعركة الكبرى. قد تكون الفردية في حياة عنايات الزيات أو في كتابتها طريقة في التحرر الجندري من سطوة الأبوية، ومن المهم إدراك الطاقة التحررية لهذه الفردية، لكن سيكون من الخسارة بمكان أن نتوقف هنا ولا نتقدم خطوة إلى الأمام، وإلّا نكون قد ثبتنا رحلة التحرر في لحظة واحدة نهائية هي لحظة الفردية.

علينا أن نتقدم ونقرأها أيضًا في سياقها التارخي، وقد يكون بإمكاننا ساعتها أن نرى في فردية الخمسينات ومطلع الستينات فرصة سانحة لفحص إمكانية، أو استحالة، تقاطع الصراع الطبقي والصراع الجندري. قد يكون بإمكاننا ساعتها أن نفهم نقاط العماء في كلا الصراعين، ونقاط تقاطعهما إن وُجدت. ولنتذكر أن النسوية علمتنا أن الجندر هو منتج اجتماعي، فنحن لا نولد ذكورًا أو إناثًا بل نُشكّل اجتماعيًا على هذا النحو أو ذاك. وبالتالي فالمعركة ضد الأبوية لا تحدث في الفراغ، وإنما على أرضية اجتماعية وتاريخية دائمًا، وإلّا تهددنا خطر إعادة إنتاج ما تقوم به الأبوية نفسها، أي التعميم والتنميط وإغفال الاختلافات، ومن بينها الاختلافات الطبقية.

 

عنايات الزيات وصديقتها وزميلة دراستها الفنانة نادية لطفي. الصورة بإذن من الكاتبة

طبقات الغائبين

هل يمكن أن تشكل النساء طبقة اجتماعية تعي نفسها بوصفها كذلك، وتتجاوز طبقاتهن التقليدية؟ رغم أن الكتاب لا يطرح أبدًا هذا السؤال، لكن يمكننا المغامرة بالقول إن الكتاب لو وقف أمامه فسيجيب بالنفي وبالاثبات معًا. بالنفي إذا كان المقصود تعميم طريقة جامدة لفهم النسوية وتوحيدها، أي النسوية كهوية ثابتة ولاتاريخية. وبالاثبات إذا كان المقصود طبقة تتأسس على الاختلافات الفردية والفكرية والاجتماعية التي تسري في فكرة مثل النسوية.

أليس هذا الكتاب كتابًا نسويًا حتى النخاع؟ وأليست مقاومته في الوقت نفسه لأي فهم هوياتي للنسوية هي مصدر فرادته وأهميته؟ لنجرب أن نفكر قليلًا على هدي الكتاب ونتخيل النساء كطبقة اجتماعية. سيكون عمل هذه الطبقة هو المقاومة المستمرة لأي توحيد قياسي، أي العمل الدؤوب لإدراك الاختلافات وتفعيل توتراتها، ومن بينها الاختلافات الطبقية. سيكون عمل هذه الطبقة أو هذه الجماعة تعطيل الأفكار الأيدولوجية عن المرأة، مع الحرص على عدم إنتاج أيدولوجيا جديدة، وفي الوقت نفسه الاستمرار في دعم نضال المرأة.

باختصار طبقة تعمل ضد تحولها إلى طبقة أغلبية. أي البقاء طبقة أقلياوية دائمًا بالمعنى الدولوزي. هذا هو العمل الأساسي الذي يقترحه الكتاب، حتى ولو غابت عن مجال رؤيته الفروقات الطبقية وتوتراتها.

هل يمكن أن يشكل المرضى طبقة اجتماعية؟ نعم إذا كان عملهم هو الاحتجاج على فهم الذات بوصفها مسيطرة وقادرة دائما. إذا كان عملهم هو لفت انتباهنا إلى أن الاكتئاب ليس أمرًا شخصيًا، بل يصلح أيضًا أن يكون مرآة للرأسمالية. هل يمكن أن يشكل الموتى طبقة اجتماعية؟ نعم بالتأكيد، فهم لا يعيشون في مكان آخر سوى معنا في مجتمعنا. عملهم هو طرح سؤال وراثة جراح الماضي علينا. عملهم هو مقاومة تذويبهم في هلام الغياب، عملهم هو تكدير وضعنا القائم المستقر.

أين هو مكان الكاتب من كل هذه الطبقات؟ بالتأكيد ليس خارجها، وإنما على تقاطعاتها. وأين يكمن عمله؟ على الأرجح في مقاومة التفاف أو انطباق أي طبقة أو جماعة أو فكرة أو كُليّة على نفسها، على الأرجح يكمن عمله في فضّ تركة الغياب، والتقاط الأسئلة المحتشدة داخلها. عمل الكاتب هو عقد تحالفات غير متماثلة، بين حية وميتة مثلا، كالتي عقدتها مرسال مع الزيات، من أجل كسر أي وضع متماثل.

البرجوازية وحدها كطبقة هي من تمتلك رفاهية ترك سؤال وراثة جراح الماضي جانبًا. فلا حاجة لتلك الطبقة للقيام بهذا العمل الشاق. لماذا؟ لإن كل جهدها موجه نحو الاحتفاظ بالوضع الحاضر كما هو عليه. الوراثة لا تعني بالنسبة لها سوى توريث الثراء القديم ونقله من جيل إلى جيل، مع مراكمة فائض قيمته. ذلك الثراء الذي نعرف جميعا من أين جاء. جراح الماضي بالنسبة لهذه الطبقة، هي جراح شخصية، ستندمل بدفنها بعيدًا في باطن الأرض.

طبقة تُورِّث وأخرى تَرِث

من المهم في هذا السياق عدم اختزال الطبقة إلى مجرد هوية ثابتة أو جوهر مستقر، أو إلى مجرد فروقات في الدخل. فسؤال الطبقة يعني أيضًا التساؤل عن مفهوم العمل، ومن يقوم به. وإذا وضعنا هذا في عين الاعتبار يمكننا القول إن عمل الطبقات البرجوازية أو الحاكمة، أو سمها ما شئت، هو تحويل التاريخ إلى مجرى آمن تنتقل عبره الثروات بسلاسة. بينما يكمن عمل الطبقات الأخرى في الجهد المضني لوراثة جراح الماضي، وكسر قشرة اللحظة الحاضرة من أجل تمرير خيط التاريخ عبرها، وبالتالي جعلها غير آمنة، وفتحها على إمكانيات أخرى.

باختصار، هناك طبقات عملها التوريث، وأخرى عملها الوراثة. ومن الواضح إلى أين تنتمي جماعات مثل المرأة، أو المرضى، أو الموتى. فجميعها لا ملجأ لها سوى التاريخ، أي سوى العودة دائمًا من الماضي، لإفساد وضع قائم، ونكأ جرح قديم. وعملها هو مساعدة ما استبعد ودفن بعيدًا على الخروج مرة أخرى، تمامًا مثلما يفعل الكتاب الذي بين أيدينا.

التوتر الطبقي ليس غائبًا تمامًا عن الكتاب، فهناك بضعة مواضع يظهر فيها هذا التوتر ظهورًا شفافًا، لا يكاد المرء يلمسه. لكنه سيتمكن من أن يشق طريقه ليظهر بوضوح أكبر في موضعين فقط في الكتاب.

الموضع الأول عندما زارت الراوية بيت أخت عنايات السيدة عظيمة الزيات، وشعرت للوهلة الأولى بثقل طبقة آل الزيات التي لم تدخل ضمن دائرة اهتمامها، فالتحف والفناجين وقطع الأثاث كلها عليها علامات ثراء توارثته الأجيال. وأمام هذا الثقل، احتمت الراوية بذكر رحلتها مع ابنها إلى باريس، وأنها ستقضي الصيف في "كاب كاد"، لتتجاوز هشاشتها أمام هذه الطبقة.

في الموضع الثاني عندما كتبت الراوية عن لقاء متخيل مع عنايات مطلع التسيعنيات قائلة "كنا كاتبتين شابتين تتكلمان لغتين مختلفتين. أو ربما لم نكن نتكلم أي لغة على الإطلاق. الأكيد، لم يكن هناك مشروع سياسي نلتف حوله، ولا حلم جماعي يؤرقنا.[…] بدت لي كتومة وهشة وبعيدة ومحمية خلف قناع الطبقة. لا أعرف على أي صورة رأتني، المرجح أنها لم تستطع أن ترى أحد خارجها. في الحقيقة، لقد استحالت الصداقة بيننا".

مشهد لمقابر القاهرة. الصورة: سيندي سيمز بار. فليكر- مفتوحة المصدر

باتجاه المقابر

مثله مثل كل الكتب العظيمة، يتجاوز كتاب "في أثر عنايات الزيات" نفسه. فالكُتب التي تستحق هذا الاسم لا تكتمل سوى إذا خرجت على مشروعها. فرغم الإصرار على تفادي الطبقة والانحياز للفردية لا يكف الكتاب على طول صفحاته عن مزج الأخيرة بموضوعية البنى الاجتماعية والتاريخية التي يسير عبرها.

حتى سؤال الطبقة سينفتح الكتاب عليه في أكثر لحظاته هشاشة وخجلًا، كأن هذا السؤال غادر وعي الكتاب، وبات يسكن لاوعيه. فللكتب التي تليق بهذا الاسم لاوعيها الخاص، والتي تعلمنا قراءتها الاطمئنان إلى فطنة هذا اللاوعي. فكل ما نحيّناه جانبا في طريق كتابة الكتاب، ظانين أن هذا ما يطلبه، سيبقى حيًا داخل لاوعيه، وسيكتسب حياة ستعلن عن نفسها في الوقت الذي يرى الكتاب نفسه فقط أنه الوقت المناسب.

إذا كانت القراءة هي لغة المحبة وفعلها، فهي أيضا لغة المسؤولية وفعلها. نحن لم نعد نحب كلمة مسؤولية، لكنها الكلمة الوحيدة الممكنة لوصف ما يتخمر في كتاب "في أثر عنايات الزيات". فنحن نجد أنفسنا مندوهين أو متورطين في ما ولّى ولم نعد نفهم لغته، عندها نشعر بالمسؤولية.

ليست هذه هي المسؤولية التي تفرضها علينا معسكراتنا أو قناعتنا أو تعاليمنا، بل هي المسؤولية حيال ما لا توجد قواعد أو لغة تخبرنا كيف نتصرف حياله. إنها المسؤولية حيال من لم يطلبها. فقط مثل تلك العلاقات غير المتوقعة بين الأحياء والموتى، كالتي نشأت بين إيمان وعنايات، يمكنها أن تجعلنا نتلمس الجرح المفتوح، لأنها لا تغلقه ولا تحلله، ولكن تعلمنا تحمل مسؤولية قراءته، أي مسؤولية وراثته.

إننا نجد أنفسنا مجبورين على أن نفعل شيئا لأننا تورطنا فيه فجأة، ولا يوجد بين أيدينا ما يمكنه أن يمدنا بأي نصيحة، هنا فقط تبدأ المسؤولية الحقيقية. وهنا تبدأ القراءة الحقيقية كما أوضح توماس كينان Thomas Keenan، فهو يقول في مقدمة كتابه خرافات المسؤولية Fables of Responsibility "أعني بالقراءة تعرّضنا لفردية نص، وهو شيء لا يمكن تنظيمه سلفا، ولا يمكن لتعقيداته أن تُسكّن بنظرية أو بما يشبه تطبيق برامج ميكانكية. القراءة هي ما يحدث عندما لا نستطيع أن نطبق القواعد. هذا يعني أن القراءة هي خبرة المسؤولية، لكن تلك المسؤولية ليست لحظة أمان أو يقين معرفي. على العكس تماما، المسؤولية الوحيدة التي تليق بهذا الإسم تنشأ بعد إزالة الأساس الذي نقف عليه، تنشأ بعد تراجع القواعد أو المعرفة التي يمكن أن نرتكن عليها لاتخاذ قرار".

خلّفت عنايات الزيات وراءها جملة تقول "يجب أن تبدأ الرحلة من المقابر". ولو لم تترك سوى هذه الجملة لكفت وحدها لكي تكون تركة كاملة. نعم، ينبغي دائما البدء من المقابر، ليس فقط كمشهد افتتاحي، وإنما ينبغي دائما البدء من الماضي وأشباحه الذين لم تهدأ أرواحهم، ينبغي دائما البدء من الجرح المفتوح. فقط من لم يملكوا يوما ما يمكنهم توريثه هم من يجب علينا أن نرثهم. وعلى كل كتابة تريد أن تكون حقيقية أن ترث هذه الوصية، بكل ما فيها من معاني، كما فعل كتاب "في أثر عنايات الزيات".