فيسبوك
حسن شاكوش

شرطة اﻷخلاق: لماذا تكره الدولة "بنت الجيران"؟

منشور الخميس 20 فبراير 2020

ماذا يعنى أن تتنافس بنت الجيران على المركز الأول بقائمة اﻷكثر استماعًا على موقع ساوند كلاود؟ ماذا يعنى اصطفاف هذه الكلمات بجانب بعضها البعض؟ بنت الجيران- حسن شاكوش- مصر- 70 مليون مشاهدة؟

يعنى ذلك الكثير فهي لحظة محورية في حياة فن المهرجانات وعلاقتها بالدولة وبالجمهور العالمي والمحلى وبالثقافة عمومًا، هنا سأحاول قراءة تلك اللحظة في علاقتها بالدولة، خصوصًا بعد تحذير كل المنشآت السياحية والبواخر النيلية والملاهي الليلية والكافيهات من التعامل مع مطربي المهرجانات، الصادر من نقيب الموسيقيين اللواء مطرب متقاعد هاني شاكر، وأستعير هنا هذا اللقب من مقال محمد نعيم.


اقرأ مقال محمد نعيم عن شاكوش ورفاقه


هذه القراءة تتبع علاقة الدولة المرتبكة بالمهرجانات منذ بدايتها، والتي رصدتُ مرحلتها الأولى في دراسة الماجستير الخاصة بي عن اللغة في الأغاني الشعبية المعاصرة والتي انتهت عام 2015 ، وأتممت الدراسة مع الجيل الأول لمغنيّ المهرجانات وأهمهم السادات وفيفتي وأوكا وأورتيجا والدخلاوية، في مرحلة انتقالهم من تسيد الهامش إلى التسلل للثقافة السائدة.

اللعبة غير المتوقعة في اللحظة الفوضوية

عرَّفت المهرجان في دراستي باعتباره "نوع من الأغاني الشعبية التي مزجت بين إيقاع الراب والإيقاع المقسوم، وغالبًا ما يبدأ بمقدمة ثم مناقشة لموضوع وينتهي بـ"المِسا" وهي جمل تهاني لعائلات أصحاب الحفل (استغنت المهرجانات في الفترة الأخيرة عن المِسا، بعد أن أُنتجت للجمهور العام وليس للأفراح والحفلات المحدودة)".

ارتبط إنتاج المهرجانات بالمناطق المهمشة على أطراف المدن الكبرى (القاهرة والإسكندرية) التي تكونت بفعل الهجرة الداخلية من توليفة سكانية متنوعة من مختلف المحافظات، بحثًا عن فرصة للحياة في العاصمة اللامعة، في ردة فعل للسياسات المركزية وصعوبة العمل الزراعي، وبدأت حسبما استطعت رصده عام 2009، لكنها انتشرت بعد ثورة 25 يناير 2011.

من يملك الخطاب الثقافي؟

في تصوري أن تواريخ النشأة والانتشار تعكس ملامح المرحلة النيوليبرالية التي تبنتها حكومات مبارك المتتالية، والتي أهمها فصل المجتمعات عن بعضها البعض، وشيطنة الفقراء، وتسييد صورة ذهنية تربط الفقر بالجريمة والغنى بالفساد، فالأغنياء خلف أسوار الكومباوندز والفقراء على أطراف المدينة، محكومون بالقبضة الأمنية التي تواجه الاجرام والإرهاب، أما الطبقة الوسطى على اختلاف تشريحاتها وحدها تمتلك الخطاب الثقافي في مصر وتعبِّر عنه في المسلسلات، بداية من أهل الحارة الجدعان في روايات أسامة أنور عكاشة، والموظفين والعمال في كتابات وحيد حامد، والأغاني التي استهلت موجة الأغاني الشعبية والشبابية من حسن الأسمر الى عمرو دياب.

تساعدنا دراسة فيروز كراوية عن سينما العشوائيات بين عقل طبقة وعقل نظام في قراءة الخطاب الذي أنتج داخل مؤسسات الإنتاج والدولة عن المهمَّشين، فقد تعرَّضت الدراسة لفيلمين تناولا العشوائيات كمكان للأحداث وكقضية لمضمون هما حين ميسرة، الذي أظهر العشوائيات كفضاء غريب يحفل بالعنف غير المبرر والمخدرات، وتغيب عنه كل المفردات الأخرى من سيارات خاصة وسكان وعمال وموظفين وورش ومحال عمل، وتنتقد الصورة المتخيَّلة والمغلوطة والشعبوية عن طبيعة المنطقة المهمَّشة، أما الفيلم الثاني فهو اللمبي والذي تصفه كراوية بـ الشعبي، فقد عبَّر بروح خفيفة عن معاناة البطل الشعبي وأخرجه من المثالية، وأظهر علاقته بالكيان الأمني، فقد كان اللمبي محبطًا، يبحث دائمًا عن طريقة لكسب عيشه ولا ينجح أبدًا.

في الميدان

اصطف الجميع، في ثورة يناير، وذابت نسبيًا الحدود الوهمية التي أنتجتها الصور المنمطة عن الطبقات وعن حتى التيارات السياسية المختلفة، وجاورت أغاني المهرجانات أغاني الشيخ إمام والأغاني الوطنية، وتزامن مع حالة الانفتاح السياسي انفتاحًا ثقافيًا ساعد على تسلل المهرجانات للمراكز الثقافية، ودُعيَ أوكا وأورتيجا الى الغناء في مسرح الجنينة، وفتحت شركات الإنتاج المهتمة بثقافة الهامش مثل ستوديو 100 نسخة الباب أمام مغنيّ المهرجانات.

بوستر لاستوديو 100 نسخة. الصورة: صفحة نجوم المهرجان- فيسبوك

يسرد هنا تقرير مؤسسة حرية الرأي والتعبير الصادر بعنوان يحيا الفن المنحط.. الدولة العجوز في مواجهة أغاني المهرجانات علاقة المهرجانات في نشأتها بدوائر الإنتاج والدولة. تتميز عملية إنتاج أغاني المهرجانات بكونها تُخلق وتنتشر بمعزل عن منظومة الإنتاج التقليدي، حيث تتجاهل المهرجانات الأطر القانونية المنظمة ﻹنتاج الأغاني وتتمرد عليها. ومن جانب آخر، نشأت أغاني المهرجانات بعيدًا عن سيطرة شركات الإنتاج التي تملك رأسمالًا كبيرًا. ولا تنفي هذه السمة ما حدث لاحقًا من تحولٍ في طريقة إنتاج بعض أغاني المهرجانات ودخولها إلى حيز الإنتاج التقليدي.

المهرجانات بين السلطة والقمع

تلهمنا كتابات ميشيل فوكو، التي تفكّك مفهومي السلطة والمقاومة وتراهما كشبكة متعددة، بقراءة مختلفة للمقاومة عن تلك الكلاسيكية التي تتمركز حول بطل شعبي واحد وأغنية سياسية مباشرة، بل تمكّنا من فهم أعمق حول علاقة المهرجانات بكيان الدولة المنغلق، وخطورة الابداع الشعبي على مسيرته نحو السيطرة.إن طبيعة المهرجان الراقصة والمرتبطة في إنتاجها بفئات بعينها مشغولة بلقمة العيش والحفاظ على البقاء اليومي، جعلت المحتوى السياسي لأغاني المهرجانات مرتبط بالمفهوم الشخصي-سياسي، فمع انطلاق الثورة خرج مهرجان سرقة ماكرو، الذي يتحدث عن سرقة هايبر ماركت قريب من مدينة السلام ويطالب مبارك بالرحيل، بعدها اهتم السادات وفيفتي بالنقد السياسي في بعض من انتاجهم كمهرجان قاتل باسم الدين أثناء حكم الاخوان المسلمين، ولكن سرعان ما دخلوا الى عالم الكليبات عام 2015 بتقديمهم مهرجان أم الدنيا.

عدا ذلك فإن محتوى المهرجانات مرتبط باليومي وبالصراع والمعاناة، تُحدثنا عن مجتمع خارج القانون بفعل أجهزة الدولة، عن التهديد بالعنف والوعيد الذي هو السبيل الوحيد للحفاظ على البقاء؛ في مجتمع يحكمه علاقات القوى الداخلية، عن غدر الصحاب وسوء الجيران، لأن غياب التضامن الجماعي في أي لحظة يعنى موت أو سجن أو ضياع أحدهم، عن علاقات عاطفية مرتبطة بالجنس وبالإغواء، في تماهي مع مفهوم الحب والزواج وليد ثقافتهم. 

ولكن هل هذه مصر؟ هي مصر بس مش هنقول...

الإجابة كانت أوضح على لسان حلمي بكر في مقابلته التليفزيونية مع مجدي شطة وهي بحسب ما يقول "مفردات مش بتاعتنا اخترعتها فئة العشوائيات".

ليس في صالح دوائر رأس المال التي تتحرك في اقتصاد السياحة والعقارات الكبرى، وليس مفيدًا لمصر أم الدنيا في تلك اللحظة أن تظهر تلك المهرجانات على السطح، لذا فبعدما انتشرت في لحظة انفتاح عفوية خارج قبضة الدولة على الإنتاج، وفي تعبير مناقض لما أنتجته الدولة عنهم، أعادت دوائر الإنتاج قبضة الخطاب المغلوط من خلال المهرجانات ذاتها، باستدعاء مغنيّ المهرجانات أنفسهم الى الأفلام السينمائية التي تمحورت جميعها حول المناطق المهمشة والمعروفة بـ "أفلام العشوائيات"، وخرجت أفلام مثل ولاد رزق ومهمة في فيلم قديم، تستخدم المهرجانات وتستفيد من نجاحها وتعيد للقلوب التخويف من منتجيها.

تجلَّى ذلك أيضًا في تصنيع محمد رمضان، الذي انطلق من فيلم احكي ياشهرزاد بكل شراسة لبطولة عشرات الأفلام والمسلسلات والأغاني، التي شكَّلت ذهنيًا ما يسمى بثقافة العشوائيات، وهنا يجب أن نتوخّى الحذر في الخلط بين مغنيّ المهرجانات الذين قدموا أغانيهم على يوتيوب معتمدين على الإنتاج الذاتي بفنهم الأصيل والمبتكر، وبين ممثل اُستدعى وصُنِع عمدًا في سيناريوهات مُنتَجَة لتشويه المهمَّشين.

بالدور

عن الدولة حدث ولا حرج، كانت المعركة قديمة وواضحة للعيان، فبعد التضييق على المراكز الثقافية وإغلاقها ومنع الاحتفاليات والتجمعات الكبرى مثل الفن ميدان جاء الدور على المهرجانات، ولم يكن شاكوش الأول في صراعه مع نقابة الموسيقيين، وإنما سبقه حمو بيكا، الذي بدأ حربه حين وجَّهت النقابة، برئاسة هاني شاكر، سلسلة من الانتقادات ضده. بدأت النقابة حملة ضده، في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، بالتعاون مع الهيئة المركزية للرقابة على المصنفات الفنية، ووزارة الداخلية، ونقابة المهن التمثيلية. وخلال شهر، تمكَّنت نقابة المهن الموسيقية من منع ست حفلات لبيكا في محافظات مختلفة، وكذلك تحرير محاضر ضده بدعوى إفساد الذوق ومخالفة القوانين، وذلك لعدم حصوله على التصاريح المختلفة، سواء تلك المتعلقة بإقامة حفل، وتلك التي تثبت أنه "مغني"، أي ما يثبت قيده في نقابة الموسيقيين، التي أصدرت قرارًا بمنعه نهائيًّا من الغناء، ورفضت طلبه في الحصول على عضوية النقابة.

بدا حمو بيكا معلنًا بوضوح عن عدائه للمنظومة الأمنية، ولا يكاد يخلو مهرجان واحد مما أداه بيكا من جملة واحدة على الأقل تدين أداء الشرطة، ومحاولتها ترسيخ ثقافة الإرشاد في المناطق الشعبية، (يُقصد بالإرشاد عمل المدنيين مع ضباط الشرطة لإبلاغهم بمعلومات عن المواطنين في مناطق سكنهم).

من النقابة يحدثنا بيكا ويقول "هغني وهشتغل ولو على الحبس هتحبس هنا وهموت هنا.. المرادي عملت لايف، المرة الجاية هننزلوا مع كل الناس اللي بتسمع هاني شاكر نقول مش عايزينه، عشان لو مش معترفين بينا انتو كمان مش مغنيين ولا احنا معترفين بيكو".

لم ينزل بيكا للشارع كما وعد، ولم يدعمه سامعي المهرجانات ضد هاني شاكر كما تصور، لكنه عاد إلى الغناء بكليب يذاع على شاشة عملاقة في قلب ميدان التحرير، يغني مهرجانه اعمل الصح، كأحد أهم دعائم الحملات الدعائية للمشاركة في الاستفتاء على مجموعة من التعديلات الدستورية في أبريل/ نيسان 2019.

أشرب خمور وحشيش

شارك حسن شاكوش مع صديقه عمر كمال في حفلة عيد الحب باستاد القاهرة، وسط الجموع الغفيرة التي رددت معه الأغنية في حفظ تام لكلماتها حتى "أشرب خمور وحشيش" التي جرحت مشاعر وأخلاق ووعي وذوق نقيب الموسيقيين هاني شاكر وهدَّد بوقف عضوية شاكوش، مشترطًا عليه تغيير الكلمات بأخرى لائقة اجتماعيًا فخرجت لنا النسخة الجديدة "اللي كلها أخلاق"، فحذفت "أشرب خمور وحشيش" ووضعت "من غيرك مش هعيش".

تزامنت الأحداث مع الغضب العارم من محمد رمضان، الذي نشر فيديو من داخل كابينة قيادة طائرة بعد إذن من الطيار، الذي تم وقفه عن العمل نهائيًا، لانتهاك قوانين سلامة الطيران، وبدا أن الخطر الذي يمثله وجود رمضان في قمرة قيادة طائرة، مماثلًا لخطر الخمور والحشيش المذكورين في الأغنية، مما وجب منع 23 مغنٍ وفرقة مهرجانات من الغناء.

مدخل تافه وسطحي أن يكون الذوق العام والأخلاق المجتمعية والهوية الفنية المصرية (تلك المصطلحات الرنانة التي في رأيي لا وجود واضح وثابت لها) هو السبيل الأوحد لقتل تجربة كالمهرجانات ووصمها اجتماعيًا من مؤسسات الدولة العميقة والعملاقة، التي ترى نفسها حامية أخلاق الناس، مبتعدة بخطابها عن كل أزماتهم السياسية والاقتصادية، مثل نقابة الموسيقين ونقابة المهن التمثيلية وهيئة الإذاعة والتليفزيون، وأخيرا دار الإفتاء التي حرّمت الاستماع الى المهرجانات.


اقرأ أيضًا نقد عبده البرماوي ﻷغاني المهرجانات


في كل مرة أكتب فيها عن المهرجانات أذكر أنني بصفتي الفردية أحب المهرجانات وأستدعيها في لحظات الفرح والرقص، وأنني أيضًا غير متخصصة في الموسيقى لأتحدث عن قيمتها الفنية وتراكيبها الموسيقية، ولكنني أحتفي بتجربة خرجت من الهامش إلى قلب الثقافة السائدة، بعدما مورس ضد منتجيها كل عمليات التهميش والإقصاء والحرمان والعنف الطبقي، لذا فدعوتي الدائمة ليست إلى تذوق المهرجانات كعمل فني، وإنما رؤية التجربة في سياقها السياسي والاجتماعي.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.