جرافيتي على أحد جدران القاهرة في 2006. الصورة: أرشيفية- فليكر، برخصة المشاع الإبداعي

بعد رسم الحدود الرابعة: اتهامات "خدش الحياء" تطارد المحتوى الترفيهي على الإنترنت

منشور السبت 9 مايو 2020

"تُشير النيابة العامة إلى أن الواقعة المطروحة قد أكدت أنه استُحدِث لبلادنا حدود رابعة خلاف البرية والجوية والبحرية، تؤدي بنا حتمًا إلى تغييرات جذرية في سياسة التشريع والضبطيات الإدارية والقضائية، حيث أصبحنا أمام حدود جديدة سيبرانية مجالها المواقع الإلكترونية، مما يحتاج إلى ردع واحتراز تام لحراستها كغيرها من الحدود".

هذه العبارات التي خلقت لمصر حدود رابعة، جاءت على لسان النائب العام في بيانه حول قضية الفتاة حنين حسام، التي تقرر إخلاء سبيلها اليوم الخميس بكفالة 50 ألف جنيه على ذمة القضية 4917 لسنة 2020، والمتهمة فيها بـ"الاعتداء على مبادئ وقيم أسرية في المجتمع المصري، وإنشاء وإدارة واستخدام مواقع وحسابات خاصة عبر تطبيقات للتواصل الاجتماعي بهدف ارتكاب وتسهيل ارتكاب تلك الجريمة".

في ذلك البيان المنشور يوم 23 أبريل/ نيسان الماضي، والذي افتتحته النيابة بالآية القرآنية "والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أم تميلوا ميلاً عظيما"، أهابت النيابة بمستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي من الشباب والبالغين أن "يسهموا بدورهم الفاعل في معاونة أجهزة الضبطية القضائية والإدارية لحراسة تلك الحدود المستحدثة والتي تضم ملايين المواقع، مما لا يتسنى حصر الضار منها وما فيه من شرور".

حدود رابعة

كررت النيابة الحديث نفسه عن الأخلاق والمبادئ في بيان يتعلق بالتحقيقات مع الراقصة سما المصري، صدر في 27 أبريل، إذ بعد ذكرها تفاصيل القضية، اختتمت بتأكيد "التزامها بالتصدي للجرائم الخادشة للحياء والمتعدية على اﻷخلاق والقيم" ومطالبة بـ"التفريق بين حقوق التعبير والإبداع الحُر، ودعاوى الابتذال والإباحية والسعي لجني المال بطرق مُخلّة غير مشروعة".

هذه العبارات أعادت النيابة نشرها بصورة منفردة في 29 أبريل، دون ذكر سياقها المختص بقضية سما المصري.

 

اﻷمر نفسه تكرر مع بيان حسام حنين، إذ أعادت النيابة نشر مقتطفات منه يوم 2 مايو/ أيار الجاري، وهو المتعلق بما سمّته "الحدود الرابعة السيبرانية"، ودون أي ذكر لقضية حنين أيضًا، كررت النيابة تأكيدها أن هذه الحدود "تؤدي حتمًا إلى تغييرات جذرية في سياسة التشريع والضبطيات الإدارية والقضائية" وهو ما يحتاج "ردع واحتراز تام لحراستها".

وعلى الرغم من ذلك أكدت النيابة أن تلك الحراسة "ليست دعوة لتتبع الناس أو حرماتهم الخاصة، ولا استطالة على الحريات أو تقييدًا لها، ولا دعوة إلى الرجعية ورفض التطور؛ إنما هي تصدٍ لظواهر من ورائها قوى للشر تسعى لإفساد مجتمعنا وقيمه ومبادئه، وسرقة براءته وطهارته".

 

كان أحدث ما نشرته النيابة فيما يتعلق بالأخلاق والقيم، هو ما جاء في بيان عن قضية فتاة روسية وصفها البيان بأنها "سيئة السُمعة"،  تقرر حبسها وثلاثة مصريين، للتحقيق معها في اتهامات تتعلق بـ"إعلانها عبر الشبكة المعلوماتية (الإنترنت) دعوة تتضمن إغراء بالدعارة، واعتياد ممارستها"، واختتمت بيانها بتجديد الدعوى إلى "الالتزام بحس استخدام الشبكة المعلوماتية ومواقع التواصل، لتكون مناخ صالح لما ينفع الناس، وليس مأوى لارتكاب الجرائم والآثام".

وحدة الرصد

البيانات التي حملت هذه العبارات عن الحدود السيبرانية وضرورة حراستها، هي نفسها التي حمل عبارات أخرى عن وحدة الرصد التابعة للنيابة العامة، وما تتخذه من إجراءات، كان من بينها في قضية الروسية "رصد شكاوى من قاطني مدينة الرحاب"، بجانب ما تقدّم ضدها من بلاغات، وكذلك "مطالعة النيابة صفحة بمواقع التواصل الاجتماعي باسم سكان مدينة الرحاب، تبين تضرر قاطني المدينة من الحفلات التي تنظّم في الفيلا (محل سكن الفتاة الروسية)".

وحدة الرصد كان لها دور في قضية حنين حسام، عن طريق "رصدها تفاعلاً واسعًا من مشاركي مواقع التواصل الاجتماعي، وورد إلى حسابها الرسمي مطالبات بالتحقيق مع المتهمة، لنشرها مقطع مصوّر دعت خلاله الفتيات للمشاركة في مجموعة إلكترونية، لتذيع الفتيات فيها بثًا مباشرًا لهن متاحًا للكافة مشاهدته، والتعارف والتحدث إلى متابعيه، مقابل حصولهن على أجور بالدولار"، وفقًا لما ذكره بيان النيابة.

 

وذكر بيان النيابة أن القبض على حنين كان بموجب شكاوى مواطنين ومجهودات وحدة الرصد، تمامًا كما كان الأمر بالنسبة لسما المصري، التي "رصدت الوحدة تداولاً واسعًا بمواقع التواصل الاجتماعي المختلفة لصور ومقاطع مصورة للمتهمة، مخلّة وخادشة للحياء العام. وورد إلى الصفحة الرسمية للنيابة عبر فيسبوك شكاوى ضدها وبلاغات عن حساباتها".

بيانات "أخلاقية"

يرى محمد ناجي، مدير وحدة البحث بمؤسسة حرية الفكر والتعبير، فيما ورد بالبيانات الأخيرة للنيابة من عبارات، لاسيما التي تتحدث عن "الحدود الرابعة" أنها تمثل "مؤشر على شيء خطير جدًا، وهو ممارستها رقابة على وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت الملاذ اﻷخير للمواطنين للتعبير عن أنفسهم بعد غلق المجال العام، بل ومحاسبتهم على مشاركاتهم الإلكترونية ولو كانت بمجرد محتوى ترفيهي".

يعقّب ناجي على انتشار هذه البيانات بقوله إنها "جاءت بموجب قرار متابعة وسائل التواصل الاجتماعي والتحقيق في جرائمها، فيما يمثل نمطًا منها، صار متصاعدًا في الفترة اﻷخيرة"، محذرًا من أن مثل هذه التحركات "تنذّر بإغلاق آخر منافذ للتعبير عن الرأي".

وأنشئت وحدة الرصد في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بموجب قرار النائب العام رقم 2367 لسنة 2019، تحت مسمّى "إدارة البيان والتوجيه والتواصل الاجتماعي بمكتب النائب العام"، لتؤدي عدّة مهام، من بينها "إنشاء وتوثيق وتطوير صفحات وحسابات النيابة العامة على مواقع التواصل الاجتماعي، رصد وتحليل المضمون الإعلامي اليومي، لدعم الإدارة فى اتخاذ قراراتها".

 

وعن البيانات التي تصدر فيما بعد إنشاء الوحدة، أبدى ناجي للمنصّة، ملاحظاته عليها بقوله "لم أرَ فيها أي استناد على أرضية واضحة من مواد الدستور أو القانون، وخرجت عباراتها بصيغة أخلاقية بحتة، كما كان في بيان قضية حنين حسام، إذ لم يكن الحديث عن مواد قانونية تفيد بوقوع انتهاك أو تعدٍّ، بل كان عن قيم أسرية ومجتمعية".

واختتم الباحث الحقوقي بقوله "في رأيي هذه بيانات تحمل نغمة أخلاقية، وغير مفهوم بالنسبة لي صدوره عن جهة من المفترض بها أنها تتعامل بمنظور قانوني فقط".

حق للنيابة

على النقيض من حديث ناجي، يقول المحامي بالمؤسسة نفسها محمود عثمان، أن مثل هذه البيانات معتاد صدورها، مفسرًا غياب الديباجات القانونية عنها بقوله "أمر الإحالة وليس البيانات هو ما يحتوي على المواد القانونية التي يتم الاستناد عليها لاتهام شخص بارتكاب جريمة".

وأوضح عثمان، للمنصّة، فيما يتعلق بالصيغة المستخدمة في البيانات أنها "وإن بدت لهجة محافظة ودفعت البعض للتساؤل عن قانونيتها، إلاّ أنها قانونية، ﻷن الدستور يحتوي على مادة تتحدث عن الحفاظ على القيم الأسرية، وهي التي صارت النيابة العامة ترتكن إليها في بياناتها، وآخرها ما صدر بشأن سما المصري وحنين حسام".

واستدرك المحامي بمؤسسة حرية الفكر والتعبير، قائلاً "لكن في الوقت نفسه، الحديث عن خدش الحياء مخالف للدستور قولًا واحدًا، تحديدًا المادة 67 الخاصة بكفالة حرية الإبداع، وهو اﻷمر الذي استندنا إليه في قضية الروائي أحمد ناجي، بأن المادة 78 من قانون العقوبات التي حوكم بموجبها، غير دستورية ﻷنها غير منضبطة ولا توضح ما هو خدش الحياء العام بتوصيف دقيق يمكن من خلاله للمواطن ممارسة حريته دون خوف من الوقوع تحت طائلة القانون".

واختتم عثمان بالقول إن مثل هذه الأسانيد التي توجه بموجبها الاتهامات "تخالف مواد الدستور الخاصة بالحق في العمل بشكل أساسي، ﻷن المبدع ليس له الحق في حرية التعبير وحسب، بل اﻷولى واﻷهم هو حقه في العمل، خاصة في وقت انتشار جائحة تُعرّض العمالة غير المنتظمة، ومن بينها كثير من الفنانيين والكتاب، لمشكلات مادية، في ظل بقائهم في المنازل كإجراء احترازي".