مترجم | بمناسبة المئوية الرابعة لوفاتيهما: سلمان رشدي يكتب عن شكسبير وثربانتس

منشور الأحد 17 أبريل 2016

في أبريل/نيسان عام 1616 توفى رائد المسرح الإنجليزي وليام شكسبير وفي أبريل من العام نفسه توفى الكاتب الأسباني ميجيل دي ثربانتس، الذي يصنف العديد من النقاد روايته "دون كيخوته" كأول رواية بالمعنى الحديث. ويحتفل العالم هذا الشهر بالمئوية الرابعة لوفاة الكاتبين العظيمين. واحتفاء بالكاتبين العظيمين يحتفل العالم باليوم العالمي للكتاب في يوم 23 أبريل من كل عام، وهو اليوم الذي يُعتقد أنه توفى فيه كلاهما.

يكتب الروائي البريطاني سلمان رشدي عن الأديبين وطرافة التقاء موعد وفاتيهما، وتأثير أعمالهما على ورثتهما من الكُتاب على مر العصور.


سلمان رشدي ترجمة عن نيو ستيتسمان

ونحن نحتفل بالمئوية الرابعة لوفاة شكسبير وميجيل دي ثربانتس سابدرا، ربما يكون من المهم أن نلاحظ أنه بينما هو من المقبول عمومًا أن العملاقين توفيا في الوقت ذاته، 23 أبريل/نيسان عام 1616، إلا أنه في الواقع لم يكن اليوم نفسه. بحلول عام 1616 تحولت أسبانيا لاستخدام التقويم الجريجوري (الميلادي)، بينما كانت إنجلترا ما تزال تستخدم التقويم اليولياني، الذي كان متأخرًا عن الأول بـ 11 يومًا. (تمسكت إنجلترا بالتقويم اليولياني القديم حتى عام 1752، ومع حلول التغيير في النهاية، قيل إنه حدثت اضطرابات، وصرخت الحشود في الشوارع قائلة: "أعيدوا لنا الـ 11 يومًا!") يتوقع المرء أن تصادُف التاريخين والاختلاف في التقويمين كانا سيسرّان المشاعر المرحة والعليمة لأبويّ الأدب الحديث.

لا ندري إن كانا عرفا بعضهما، ولكنهما يشتركان في العديد من الأشياء، بدءًا من وجود منطقة "لا نعرفها" عنهما، لأن الرجلين كانا غامضين؛ هناك سنوات مفقودة في سجلاتنا عنهما، والأمر الموحي بشكل أكبر أن هناك وثائق مفقودة. لم يترك الرجلان خلفهما موادًا شخصية؛ القليل جدًا من الرسائل ويوميات العمل والمسودات غير المنشورة التي لا تكاد تمثل شيئًا؛ فلا توجد سوى الأعمال الضخمة والمكتملة "والمتبقي هو الصمت". بالتالي وقع الرجلان ضحية نوع من النظريات الساذجة التي تسعى للتشكيك في كونهما كاتبي هذه الأعمال.

على سبيل المثال لا يكشف البحث السريع على الإنترنت فقط أن فرانسيس بيكون هو من كتب أعمال شكسبير، إنما يكشف أنه كتب "دون كيخوته" أيضًا. (نظريتي المجنونة المفضلة عن شكسبير هي أنه لم يكتب مسرحياته، ولكن كتبها شخص آخر يحمل الاسم نفسه). وبالطبع واجه ثربانتس تحديًا لإثبات نسبة العمل إليه في حياته، عندما نشر الاسم المستعار "آلونزو فرنانديز دي آبيانيدا"، المشكوك في هويته، جزءه الزائف من دون كيخوته، هذا الذي دفع ثربانتس لكتابة الكتاب الحقيقي الثاني، الذي تعرف شخصياته المنتحل آبيانيدا والذين ينظرون له بازدراء شديد.

الأقرب للتأكيد هو أن ثربانتس وشكسبير لم يلتقيا أبدًا، ولكن كلما نظرت بشكل مقرب للصفحات التي تركوها كلما سمعت أصداء مشتركة بينهما، وأول هذه الأصداء، وفي ظني أكثر الأفكار المشتركة ذات القيمة لديهما، هو القناعة بأن العمل الأدبي ليس بحاجة إلى أن يكون ببساطة كوميدي أو تراجيدي أو رومانسي أو سياسي/تاريخي: أي إذا عبرنا عن الأمر بدقة، يمكن للعمل الأدبي أن يكون العديد من الأشياء في آن واحد.

بإلقاء النظر على المشاهد الافتتاحية في مسرحية هاملت، وفي المشهد الأول من الفصل الأول نواجه قصة شبح. يسأل برناردو هوراشيو: "أليس هذا شيء أكبر من كونه خيال؟" وبالطبع المسرحية أكبر من كونها كذلك. في المشهد الثاني من الفصل الأول يتم استحضار الحبكة التي تحدث في بلاط إلسينور: الأمير المثقف الغاضب، وأمه المترملة حديثًا والتي تتزوج من عمه: ("ياللسرعة الخبيثة، التي تقفز بها إلى سرير الرذيلة"). في المشهد الثالث من الفصل الأول، نرى أوفيليا وهي تحكي لأبيها بولونيوس المثير للريبة عن بداية ما سوف يصير قصة حب حزينة: "سيدي، لقد عرض عليّ الحب بأسلوب كريم". في المشهد الرابع من الفصل لأول نرى قصة شبح مجددًا، ونرى شيئًا عفنًا في بلاد الدنمارك.

تنمسخ المسرحية مع مرور أحداثها، تصير بالتتالي قصة انتحار وقصة جريمة ومؤامرة سياسية ومأساة انتقام. تحتوي على لحظاتها الكوميدية وعلى مسرحية بداخل مسرحية. وتحتوي على بعض من أسمى الأشعار التي كتبت بالإنجليزية وتنتهى ببرك دماء ميلودرامية.

وهذا هو ما ورثناه بعد ذلك من الشاعر الكبير: معرفة أن العمل يمكن أن يكون كل شيء في آن واحد. التقليد الفرنسي الأكثر صرامة يفصل التراجيديا (راسين) عن الكوميديا (موليير). شكسبير يمزجهما معًا، وكذلك نفعل نحن بفضله.

طرح ميلان كونديرا في مقال شهير له أن فن الرواية له أصلين، وهما روايتا "كلاريسا" لصمويل ريتشاردسون و"تريسترام شاندي" للورانس ستيرن؛ إلا أن هذين الروايتين الضخمتين الموسوعيتين يظهران تأثير ثربانتس. شخصيتا العم توبي والعريف تريم لدى ستيرن صنعا بشكل كبير على نموذجي كيخوته وسنشو بنثا، وتدين واقعية ريتشاردسون بشكل كبير إلى سخرية ثربانتس للتقليد الأدبي الأحمق في العصر الوسيط، التي سيطرت أوهامه على دون كيخوته. عمل ثربانتس الأعظم، مثله مثل عمل شكسبير، تتواجد فيه الإخفاقات جنبًا إلى جنب مع النبل، والشفقة والمشاعر مع الفسق والبذاءة، ذلك الذي يصل إلى ذروته في اللحظة المؤثرة التي يفرض فيها العالم نفسه ويقبل الفارس ذو المحيا الكئيب أنه رجل أحمق ومجنون وعجوز: "يبحث عن طيور الموسم، في عشش الموسم الماضي".

 كلاهما كاتبان واعيان ذاتيا، حديثان بالطريقة التي يعرفها معظم الأساتذة المحدثين، أحدهما يكتب مسرحيات واعية جدا بمسرحيتها وبأنها تُعرض أمام جمهور. والآخر يكتب روايات واعية بدقة بالطبيعة الروائية، حتى عندما يخلق ساردًا متخيلًا وهو سيدي حامد ابن الأيلي، وهو بشكل مثير للاهتمام سارد من أصول عربية.

والاثنان مولعان بالحياة الوضيعة وخبيران بها، مثلما هما مولعان وخبيران بالأفكار السامية، إذ تشعر أن مجموع شخصيات الأوغاد والعاهرات واللصوص والسكارى في مكانهم يجلسون في حانات واقعية. هذا الارتباط بالعالم يكشف أنهما كانا واقعيين بالمعنى الأوسع، حتى عندما يتظاهران بكتابتهما للخيال، ومجددًا نحن من جئنا بعدهما يمكننا أن نتعلم منهما أنه لا جدوى من السحر باستثناء كونه في خدمة الواقع – هل هناك ساحر واقعي أكثر من بروسبيرو في مسرحية "العاصفة"؟ ويمكن أن تتحقق الواقعية عن طريق حقن جرعة صحية من مهارة القاص. في النهاية، ورغم أن الاثنين يستخدمان استعارات لها أصلها في القصص والأساطير والحكايات الشعبية، إلا أنهما يرفضان أن يضفيا عليها الأخلاق، وهما في ذلك أكثر حداثة من العديد ممن تبعاهما، لم يخبراننا بما يفكران فيه أو يشعران به، ولكنهما أظهرا لنا كيف نقوم بذلك.

من بين الاثنين، ثربانتس كان رجل الفعل، يحارب في المعارك، جُرح بشكل خطير وفقد قدرته على استخدام يده اليسرى، واستعبده قراصنة الجزائر لخمس سنوات حتى دفعت عائلته فدية لإعادته. لم يتعرض شكسبير لهذا القدر من الدراما في تجربته الشخصية، إلا أنه من بين الاثنين يبدو الكاتب المهتم أكثر بالحرب والجيوش. قصص عطيل وماكبث ولير كلها حكايات لرجال يخوضون حروبًا (مع أنفسهم نعم، ولكن في أرض المعركة أيضَا). وعلى سبيل المثال استخدم ثربانتس تجاربه الأليمة في قصة الأسير في "دون كيخوته" في بعض مسرحياته. ولكن المعركة التي انطلق منها دون كيخوته – إذا استخدمنا كلمات حديثة – كانت عبثية ووجودية أكثر منها "واقعية". وبشكل غريب، كتب المحارب الأسباني عن التفاهة الكوميدية لخوض المعارك وخَلَق شخصية أيقونية عظيمة للمحارب باعتباره أحمق (نفكر هنا في رواية "كاتش-22" لجوزيف هيلر أو "مسلخ-خمسة" لكيرت فونيجوت، للبحث الأحدث في هذه الثيمة)، بينما انغمست مخيلة الشاعر والمسرحي الإنجليزي في الحرب (مثل تولستوي وميلر).

إنهما يجسدان في اختلافاتهما المتناقضات المعاصرة مثلما يتفقان في تشابهاتهما في قدر كبير من الأشياء التي ما تزال مفيدة لورثتهما.