تصميم: يوسف أيمن- المنصة

مركزية كرة القدم: لا أحد يفوز إلا في القاهرة

منشور الاثنين 14 ديسمبر 2020

 

شغف كبير يحمله المصريون لرياضة كرة القدم التي تمتد شعبيتها الطاغية في جميع أنحاء الجمهورية، إلا أن منافسات بطولة الدوري لا تعكس هذا الانتشار الجارف الممتد من شمال البلاد إلى جنوبها، بقدر ما يحكي لنا قصة أخرى عن المركزية التي تدار بها مصر، مع هيمنة أندية المدن الكبرى، خاصة القاهرة والإسكندرية، على المشاركة في المسابقات، واستئثار العاصمة تقريبًا بالفوز بألقابها.

هيمنة المركزية ظهرت بجلاء في الموسم الماضي من البطولة، فمن بين 18 ناديًا شاركوا في المنافسات، كانت هناك تسعة أندية من القاهرة الكبرى وثلاثة من الإسكندرية وناديان مثلا مدن القناة الثلاث إضافة إلى ثلاثة أندية من الصعيد ونادٍ واحد من محافظات الدلتا.

بل إنه حتى عندما صعد ناديا طنطا وأسوان للمشاركة في هذا الموسم، قرر الناديان لعب مبارياتهما في الإسكندرية والقاهرة والإقامة فيهما، لتوفير الجهد والنفقات بعد أزمة كورونا.

دوري الشركات؟

المثير للاهتمام كذلك أن أغلب الأندية التي تلعب في القاهرة لا تمثل أحياءً أو مناطق بها، بل تتبع شركات ومؤسسات حكومية كالبترول والجيش، مقارها الرئيسية بالقاهرة كأي كيان في مصر.

ويربط كثيرون بين ظهور أندية الشركات بإمكاناتها المادية الهائلة في بداية اﻷلفية الثالثة من جهة، وغياب مشاركة أندية المحافظات التي لا تقدر على منافستها من جهة ثانية. لكن الحقيقة أن هيمنة هاتين المدينتين على الدوري المصري كان منذ اليوم الأول لنشأة البطولة واستمر حتى اللحظة. من بين 65 ناديًا شاركوا في منافسات الدوري الممتاز عبر تاريخه، هناك 22 من القاهرة وثمانية من الإسكندرية، أي أن نحو نصف الفرق التي شاركت في منافسات الدوري انتمت إلى مدينتين فقط من أصل 27 محافظة في مصر تضم مئات المدن.

مشاركة أندية المحافظات كانت عرضية في الغالب، وهو ما يتضح أكثر بالنظر لإجمالي عدد مشاركات الأندية المختلفة، فكان نصيب القاهرة والإسكندرية معًا أكثر من 52% من الإجمالي، وإذا أضفنا مدن القناة الثلاث أصحاب نسبة المشاركات المرتفعة أيضًا بـ 23%، فلك أن تتخيل حجم مشاركة بقية المحافظات الضئيل جدًا طوال تاريخ البطولة منذ عام 1948.

كل هذا يتعلق بمجرد المشاركة في منافسات الدوري الممتاز، ولكن درع البطولة لم يخرج من القاهرة إلا خمس مرات؛ فمن بين 61 موسم مكتمل للدوري الممتاز، فاز الإسماعيلي باللقب ثلاث مرات، مقابل مرة واحدة لغزل المحلة ومثلها للأوليمبي، بينما فازت أندية القاهرة ببقية الألقاب بواقع 42 لقبًا للأهلي و12 للزمالك ولقب واحد لكل من الترسانة والمقاولين العرب. 

ولعقد مقارنة بسيطة، فاز 24 نادٍ إنجليزي ببطولة دوري الدرجة الأولى بمسمياته المختلفة؛ كان نصيب الأندية اللندنية منها 21 لقبًا، مقابل 28 استقرت في مدينة ليفربول، و26 لقبًا ذهبوا إلى قطبي مدينة مانشستر، مدينة بيرمنجهام سيتي لديها سبعة ألقاب أكثر من مدينة سندرلاند بلقب واحد، أما مدينة شيفلد فقد حقق قطباها شيفلد يونايتد وشيفلد وينزداي، مجتمعان، خمسة ألقاب.

عدد مشاركات اﻷندية بحسب المحافظات


تبدو المركزية في مصر سمة طاغية في كل التفاصيل، لا يوجد مصري لم يسافر من مدينته أو بلدته إلى القاهرة مرة واحدة على الأقل لقضاء خدمة أو إنهاء إجراء حكومي أو البحث عن فرصة لا توجد إلا في العاصمة. ربما يكون من السهل إدراك ذلك لو قصدت ميدان رمسيس، أحد أكثر ميادين العاصمة زحامًا على الإطلاق، نظرًا لوجود محطة قطارات مصر ومواصلات لأغلب المحافظات والمدن.

يسافر المصريون للقاهرة من أجل العلاج بمستشفياتها، حيث تتوفر تخصصات تغيب عن محافظات أخرى، بل ويسافر أطباء المحافظات للتعلم كما حدث في حالة طبيبات المنيا، وكذلك أغلب المعاهد والمستشفيات التعليمية مقراتها بالقاهرة. ويسافر سكان الأقاليم كذلك من أجل الدراسة بالقاهرة التي تملك عددًا هائلًا من الجامعات والمعاهد الحكومية والخاصة، حتى من درسوا بمحافظاتهم يلجؤون للقاهرة بحثًا عن فرص عمل أفضل في الشركات الكبرى والكول سنترز التي لا توجد إلا هناك. حتى إن كنت تبحث عن كتاب أو تود مشاهدة مسرحية أو فيلمًا في السينما، فقد تحتاج أن تقطع الطريق نحو العاصمة أيضًا، ولن يختلف الأمر كثيرًا إذا كنت لاعبًا للكرة وترغب في ممارستها كعمل احترافي. أحد أشهر قصص هؤلاء الموهوبين من لاعبي الكرة ممن خاضوا الطريق الصعب بالسفر من قراهم ومدنهم للقاهرة هو النجم محمد صلاح، الذي احتاج السفر بشكل شبه يومي من قريته بالغربية إلى القاهرة بحثًا عن فرصة حقيقة، وهي بالطبع قصة من ضمن آلاف. حتى قبل عصر الاحتراف كانت ظروف الحياة وانتقال وأسرهم للدراسة أو العمل بالقاهرة أو الإسكندرية، هي ما تدفعهم للانتقال إلى أنديتها منذ النصف الأول للقرن العشرين.

مركزية تاريخية

تتبُّع السيَّر الذاتية لأكثر من 50 لاعبًا من أبرز لاعبي مصر في النصف الأول من القرن العشرين الذين مثلوا المنتخب القومي، ضمتهم موسوعة "المنتخب المصري لكرة القدم في مائة عام" للدكتور أحمد شيرين فوزي، يوضح انتقال الكثير من اللاعبين البازرين لأندية القاهرة والإسكندرية لظروف شخصية بعيدًا عن الكرة، فسافر كامل طه من بني سويف للدراسة بالمدرسة السعيدية الثانوية بالقاهرة، ولعب بعد ذلك للنادي الأهلي.

انتقل كذلك جلال قريطم من البحيرة للإسكندرية ليلعب بنادي الترام ويفوز معه بكأس مصر، وينتقل بعد ذلك للعب مع الزمالك في القاهرة، وكذلك أحمد سالم انتقل من دمياط للإسكندرية، حيث لعب بالنادي الأوليمبي وبعد ذلك الأهلي حين عاش بالقاهرة للالتحاق بالكلية الحربية.

السفر للدراسة بالكلية الحربية وبالتالي العيش بالقاهرة واللعب لأنديتها تكرر أيضًا مع عصام بهيج، الذي كان يلعب بنادي المنصورة قبل أن يعرض عليه وزير الحربية، ورئيس الزمالك في نفس التوقيت، حيدر باشا الدراسة بالكلية الحربية واللعب للزمالك. انتقال العائلة بحثًا عن عمل أفضل أو لترقية الوالد في الوظيفة كانت السبب في انتقال أحمد مكاوي من المنصورة للعب بالزمالك، وعبد العزيز قابيل من مدرسة الزقازيق الثانوية للقاهرة وهناك لعب بالأهلي، ويكن حسين المولود بأسوان ولعب بالنادي النوبي بالقاهرة ومنه انتقل للأهلي ثم الزمالك.

ذلك كله قبل بدء اقتناص الأهلي والزمالك للاعبين الموهوبين بالمحافظات، وانتقالهم إليهما حبًا في الشهرة والفوز بالبطولات، وهو ما بدأ من زمن طويل أيضًا.

عام 1946 ضم الأهلي السيد حسين الشهير بتوتو من نادي طنطا، وفاز معه بالدوري 8 مرات، وفي نفس العام ضم الأهلي أبو حباجة قائد دفاع المصري البورسعيدي، وهو ما تكرر أيضًا بعد سنوات قليلة، حين ضم الأهلي من المصري نجمه وهداف الدوري السيد الضظوي عام 1957.

ضم الزمالك كذلك لاعب المصري وصاحب هدفي مصر في كأس العالم 1934 عبد الرحمن فوزي، ليكمل مشواره في العاصمة. وتضاعفت بعد ذلك أعداد اللاعبين المنتقلين من أندية المحافظات للقاهرة خاصة مع تصاعد شعبية الأهلي والزمالك وسلطتهم وإمكاناتهم الهائلة، قبل أن تشارك أندية الشركات والمؤسسات القطبين في شراء اللاعبين المميزين، وهو ما حدث منذ الألفينيات لينهي مشاركة العديد من أندية المحافظات بالدوري، ويمنح القاهرة مساحة أكبر للهيمنة. إذا كان الكثير من اللاعبين  فضلوا الانتقال لناديي العاصمة لأسباب تتعلق بمركزية القاهرة بشكل عام أو لتفوق أنديتها الكاسح بعد ذلك، فيبقى أن نفهم كيف حدثت الفجوة الهائلة في الامكانيات بين أندية القاهرة والاسكندرية وسائر المحافظات مما أضعف أنديتها، وهو ما تضاعف مع الوقت مما جعل أغلب مباريات الدوري الحالي لا تقام إلا بملاعب تلك المدينتين فقط كيف تفاقم الوضع حاليًا واختفى حتى التمثيل المشرف لأندية المحافظات على فترات؟

 

مشاركات اﻷندية في الدوري الممتاز منذ تأسيسيه. تصميم: يوسف أيمن- المنصة

غياب تكافؤ الفرص والاستثناء المحلاوي

أحد أبرز ملامح مركزية الدولة في مجال الكرة والرياضة عمومًا هو أن معظم الاستادات في المحافظات تتبع وزارة الرياضة بالقاهرة، وتلعب أغلب الأندية مبارياتها على ملعب المحافظة أو الجامعة وغيرها، فإذا كان الأهلي أو الزمالك بكل إمكانياتهما لا يملكان استادًا مجهزًا، فإن الأمر لا يختلف بالطبع في المحافظات، وتعتمد هذه الأندية على منشآت الدولة بالأساس من أجل لعب المباريات أو حتى التدريب.

تظهر المركزية كذلك داخل المحافظة الواحدة، فاستاد المحافظة يكون في عاصمتها، وعادة ما يكون النادي الأبرز في المحافظة هو فريق العاصمة كذلك، كالمنصورة في الدقهلية أو دمنهور في البحيرة أو جمهورية شبين في المنوفية وأسوان وبني سويف والمنيا وسوهاج في محافظاتهم، ويبدو الاستثناء مجددًا في غزل المحلة حيث يتفوق على نادي عاصمة الغربية طنطا.

ما يجعل أندية عواصم المحافظات تتفوق على باقي أندية ومراكز الشباب في نفس المحافظة، والذي منح المحلة بالتحديد أفضلية استثنائية على طنطا؛ هو توفر البنية التحتية ووجود استاد وملاعب مجهزة، فهذه العناصر أساسية لتطور مستوى ممارسة الرياضة من الهواية للاحتراف. تبدو القاعدة واضحة أكثر حين تطبَّق بشكل أوسع على مستوى مصر، فيتضح الفارق بين القاهرة واﻹسكندرية من جهة وبقية المحافظات من أخرى. تملك القاهرة حاليًا سبعة استادات مجهزة على الأقل هي القاهرة الدولي والدفاع الجوي والسلام والكلية الحربية وبتروسبورت وجهاز الرياضة العسكري والمقاولون العرب، ويوجد بالإسكندرية أكبر استاد في مصر، وهو الجيش المصري ببرج العرب بجانب استاد حرس الحدود واستاد اﻹسكندرية.

يوجد في المدينتين أيضًا عشرات الملاعب الصغيرة الخاصة بالأندية والتي يضاهي بعضها استادات المحافظات، مثل ملعب التتش في مقر النادي الأهلي بالجزيرة، واستاد حلمي زامورا في مقر الزمالك بميت عقبة، واستاد الترسانة بالقرب منه، أو مقرات الأندية السكندرية كالاتحاد بالشاطبي بالإضافة إلى سموحة، فيما حظت مدينة السويس بتطور هائل في منشآتها الرياضية بتطوير استاد السويس الجديد، بالإضافة لاستاد الجيش المصري هناك، وطور كذلك استاد الإسماعيلية واستاد بورسعيد أكثر من مرة قبل غلقه، ولكن عدا هذه الملاعب تفتقد أغلب محافظات مصر وجود استادات رياضية كبيرة مجهزة بشكل جيد ولائق، فكثير من ملاعب المحافظات تفتقد أضواءً كاشفة حديثة أو مقاعد بلاستيكية مريحة لاستضافة الجماهير.

لم يكن هذا الفارق الكبير موجودًا حتى تسعينيات القرن الماضي، فباستثناء استاد القاهرة ذي السعة الجماهيرية الكبيرة والمقاعد الخشبية آنذاك، كانت غالبية ملاعب المحافظات تشبه بعضها في سعتها الجماهيرية وغياب المقاعد أو اﻷضواء الكاشفة، وكانت أغلب المباريات تقام بالنهار.

كان بناء أغلب الاستادات الحديثة في مصر على صلة وثيقة بظاهرة أندية الشركات والمؤسسات، والتي توجد مقارها الرئيسية في القاهرة واﻹسكندرية نظرًا لمركزية الإدارة، فأنشأت وزارة البترول استاد بتروسبورت عام 2006 بسعة 16 ألف متفرج لاستضافة مباريات نادي إنبي، وأنشئ استاد حرس الحدود في الإسكندرية بسعة 22 ألف متفرج، وأنشأت وزارة الإنتاج الحربي استاد السلام عام 2009 بسعة 30 ألف متفرج، ليستضيف مباريات نادي اﻹنتاج الحربي، وأقيم كذلك استاد 30 يونيو التابع للدفاع الجوي بسعة 30 ألف عام 2012.

هذه الملاعب المميزة وإن ساهمت في طفرة الملاعب المصرية، مما دعم استضافة البطولات الكبرى وبعض مباريات الأهلي والزمالك في المسابقات الإفريقية، إلا أنها عززت في الوقت نفسه مركزية الرياضة في مصر، إذ بنيت جميعها في القاهرة أو الإسكندرية. ضعف إمكانات الاستادات في المحافظات الأخرى أثَّر سلبًا على أنديتها، فمن ناحية تعاني هذه الأندية من الملاعب السيئة خلال مباريات القسم الثاني، الذي تقام مبارياته على ملاعب يغرق بعضها في الشتاء بخاصة في وجه بحري. أضف إلى ذلك كان اتحاد الكرة يرفض استضافة أي من هذه الاستادات لمباريات الدوري اذا تأهلت هذه الفرق للدوري الممتاز بسبب عدم جاهزيتها أو للاحتياطات الأمنية والتي تضاعفت بشدة بعد مذبحتي بورسعيد والدفاع الجوي أو للظروف السياسية. عندما تأهل دمنهور للدوري موسم 2015 لعب الفريق بعض المباريات على استاده، ولكنها كانت جميعها بدون جماهير لعدم صلاحية الاستاد، وكذلك لعب الشرقية مبارياته حين صعد للدوري على ملعب بنها لعدم جاهزية استاد الجامعة بالزقازيق ورفض الأمن، فيما لم يتمكن الرجاء المطروحي من لعب أي مباريات بالدوري على ملعبه، ولجأ لاستاد الإسكندرية أحيانًا وللملعب الفرعي باستاد برج العرب، الذي يمتلك ملاعبَ فرعيةً أفضل من استادات كثير من المحافظات، في أحيانٍ أخرى.  بالنسبة لصعيد مصر لم يختلف الوضع كثيرًا، فرفض الأمن استضافة مباريات المنيا بالدوري على ملعبه لعدم الجاهزية، ولجأ مصر للمقاصة للانتقال من الفيوم للقاهرة وهو ما انطبق كذلك على تليفونات بني سويف. أما نادي أسوان فواجه مشكلة أخرى، ففي حين امتلك استادًا جيدًا تنطبق عليه الشروط الأمنية حتى لاستضافة مباريات الأهلي والزمالك، لم يكن السفر المتكرر في كل جولة بشكل أسبوعي للقاهرة أو الإسكندرية أمرًا مريحًا، ولا توجد بالطبع أي مواصلات سريعة سوى الطيران المكلف للغاية، مما جعله يطلب الدعم من مؤسسات الدولة المختلفة.

 

لافتات دعائية لمشروع استادات بتطوير ستاد الزقازيق. الصورة: أحمد الجيزي

 

تعقد الكثير من المحافظات الآن الآمال على تطوير الملاعب الرئيسية بها على شركة استادات القابضة، التي أسند إليها مؤخرًا تطوير عدد كبير من الملاعب في الدلتا والصعيد. سيطرة شركة خاصة على أغلب المنشآت الرياضية بالمحافظات قد يبدو مقلقًا للكثيرين، خوفًا من أن يؤدي ذلك لرفع أسعار الخدمات بالنوادي التي كانت ملكًا للعامة، لكن من ناحية أخرى يعقد الكثير من سكان "الأقاليم" آمالًا واسعة في أن يؤدي التطوير لتوفر خدمات رياضية جيدة تلبي الاحتياج الشديد لها.

 

كيف تتأهل اﻷندية للممتاز؟

يعتمد اتحاد الكرة نظامًا شبه دائم لمنافسات القسم الثاني المؤهلة للدوري الممتاز، يتمثل في تقسيم جغرافي للدولة لثلاث مناطق، يصعد ممثل عن كل منطقة لبطولة الدوري. المجموعة الأولى تضم كافة أندية الصعيد شمالًا وجنوبًا بالإضافة للبحر الأحمر، وتشمل المجموعة الثانية أندية الدلتا والإسكندرية، والمجموعة الثالثة تضم أندية القاهرة والقناة والمدن القريبة منها كدمياط والشرقية. بدا ذلك النظام مناسبًا للكثير من الفرق من الناحية النظرية، لتقليل نفقات السفر البعيدة لهذه الأندية وضمان تمثيل لمختلف المناطق الجغرافية، لكنه لم ينجح مطلقًا من الناحية العملية في تجنب هيمنة أندية القاهرة والإسكندرية على المسابقة كما يبدو في السنوات الأخيرة.

نجحت أندية القاهرة في ضمان بطاقة الصعود عبر المجموعة الثالثة، وكانت أغلب هذه الأندية من أندية المؤسسات والشركات العامة والخاصة. بعد صعود إنبي التابع لوزارة البترول، تأهل طلائع الجيش ولحق به الانتاج الحربي وكلاهما يتبع القوات المسلحة، وتأهل أيضًا اتحاد الشرطة والداخلية ممثلين لوزارة الداخلية، بالإضافة لنادي شركة المصرية للاتصالات ووادي دجلة ونادي النصر والنجوم وإف سي مصر.

ظهر كذلك نادي بتروجيت ليلحق بإنبي واختار مدينة السويس ليلعب بها مثل نادي شركة أسمنت السويس، وكلاهما لم يحظ بدعم جماهير السويس التي أصبح ناديها المحلي الأساسي (منتخب السويس) يعاني بشدة من أجل فرصة بين كل تلك الأندية للصعود للدوري منذ هبوطه في بداية الألفية، فيما نجح فريق الشرقية في كسر هيمنة أندية الشركات مرة وحيدة في طوال 18 عامًا فلعب موسمًا بالممتاز وهبط سريعا للدرجة الثانية ثم الثالثة ولم يعد.

كان الأمر أيسر بعض الشيء لأندية الدلتا في اقتناص فرصة للتأهل في منافستهم مع أندية الإسكندرية، فبعد تأهل حرس الحدود لم ينجح إلا سموحة السكندري في الصعود للدوري والتألق والبقاء به، وكذلك الأولمبي في مرة وحيدة، عدا ذلك كان جميع المتأهلين من مدن ومراكز الدلتا، وازدادت حدة المنافسة في هذه المجموعة عقب هبوط أندية الدلتا إليها من الدوري الممتاز تواليًا، كالمنصورة وغزل المحلة وبلدية المحلة، وظلت هذه الأندية تتنافس بشدة بينها على الصعود كل عام، فصعد غزل المحلة وطنطا وهبطا أكثر من مرة وكذلك دمنهور، بل وكانت المفاجأة في صعود نادي الرجاء ممثل محافظة مرسى مطروح للدوري الممتاز.  مجموعة الصعيد أكثر تعقيدًا، فاعتبار الصعيد نفسه مجموعة واحدة لتسهيل اﻷمور من ناحية المسافات ونفقات السفر أمر غير منطقي بالمرة، لاتساع الرقعة الجغرافية التي نتحدث عنها، فإذا كان التنقل بين مدن الدلتا والاسكندرية أو بين القاهرة ومدن القناة قد يستغرق أربع ساعات على الأكثر بين أبعد نقطتين، فالأمر في الصعيد مختلف تمامًا، فيحتاج فريق أسوان مثلًا ثلاث ساعات للوصول لأقرب محافظة إليه وهى الأقصر، وحين يسافر ليلتقي المنيا أو بني سويف فقد يمتد السفر لعشر ساعات.

لم تشارك أندية شعبية ممثلة للمحافظات بالدوري الممتاز طوال العشرين عامًا سوى على استحياء، بينما فاز بكوتة الصعيد في أغلب المواسم أندية تابعة لشركات كأسمنت وبترول أسيوط وتليفونات بني سويف، ومصر للمقاصة والجونة، وتبعت هذه الأندية مجموعة  الصعيد رغم أن غالبيتها لا ينتمي للجنوب، حتى نادي الأسيوطي انتقل من مقره السابق ببني سويف إلى القاهرة بعد أن تحول إلى  بيراميدز.


اقرأ أيضًا: ما وراء إعلانات "سيتي كلوب"

 


الكرة في ملعب جماهير الأقاليم

كانت منطقة القناة ومحافظة الغربية، وتحديدًا المحلة الكبرى، من المناطق القليلة جدًا التي نجحت في المشاركة في أغلب نسخ الدوري العام عبر تاريخه، فلماذا نجحت هذه المدن فيما لم تنجح به غيرها بمزاحمة أندية القاهرة والإسكندرية بالدوري؟ نجح النادي الإسماعيلي والنادي المصري البورسعيدي في الاستمرار بالدوري بشكل دائم وتحقيق نتائج مميزة في مواسم كثيرة. ففاز الأول ببطولة افريقيا كأول فريق مصري وعربي وحقق الدوري ثلاث مرات والكأس مرتين، وفاز الثاني بالكأس مرة واحدة ونجح ممثلي القناة في الوجود بالمراكز المتقدمة بالبطولة في سنوات عديدة ولم يهبطا للقسم الثاني سوى مرة وحيدة لكل منهما. السبب الرئيسي في نجاح الناديين كان في الشعبية الجماهيرية الكبيرة التي يمتلكها كل منهما في مدينته، والتي فرضت بطريقة ما توفير دعم سياسي واجتماعي لهما يحافظ على استمرار الناديين في المسابقة، وهو ما لم يتوفر لأندية المحافظات الأخرى، حيث يشجع الجميع الأهلي والزمالك، ويأتي نادي المدينة في المرتبة الثانية أحيانًا، ولا يهتم أحد لشأنه من الأساس. في التسعينيات والألفينيات حين كنا نشاهد مباريات أي من قطبي العاصمة في المحافظات، كانت الملاعب تمتلئ بالمشجعين لا لدعم الفريق المحلي ولكن لتشجيع الأهلي أو الزمالك ضد نادي مدينتهم. كانت هذه المباريات فرصة لجماهير هذه المدينة أو تلك والقرى والمناطق المحيطة بها ليشاهدوا نجومهم المفضلين الذين يتابعونهم عبر التليفزيون في الملعب. في بورسعيد والإسماعيلية كان الأمر مختلفًا تماما فسواء كان الخصم الأهلي أو الزمالك أو أي فريق آخر كانت المدرجات تمتلئ بتشجيع فريق المدينة، والتعبير بشدة عن الانتماء للمدينة وللنادي، فتهتف الجماهير "بالروح بالدم نفديكي يا بورسعيد"، و"الإسماعيلية عليها نموت".

شعبية الناديين ارتبطت بالطبع بتحقيق الانجازات الكروية وتواجد العديد من المواهب واللاعبين البارزين، واﻷهم ارتباط تلك اﻷندية في ذهنية المشجعين بالتاريخ الملحمي لتأسيسها، ولمدن القناة في مقاومة الاحتلال والحروب والظروف القاسية التي مرت بها. فنشأ النادي المصري البورسعيدي عام 1920 كأول نادٍ مصري لكرة القدم بمنطقة القناة، وبدأت شعبيته بالنمو بانتصاراته على الأندية الأجنبية الموجودة بالإقليم، ولحق به الإسماعيلي والذي تأسس تحت مسمى نادي النهضة عام 1924. 

الدور التاريخي لمدن القناة في التاريخ المصري الحديث منح سكان هذه المدن إحساسًا بالفخر والانتماء لهذه المدن وتطلعهم دائمًا لمنافسة القاهرة والإسكندرية في كل شيء، وكانت ميادين الكرة ساحة لهذا التنافس بين المدن والعاصمة فالفوز على الأهلي أو الزمالك يعني أننا هنا ولا نقل أبدًا عنكم. من ناحية أخرى، كانت هذه الشعبية السبب في الحصول على دعم مادي وسياسي، خاصة بعد ظهور أندية الشركات والمؤسسات بإمكاناتها الهائلة، فاعتمدت أندية كالمصري أو الإسماعيلي على دعم المحافظة أو رجال الأعمال والمشاهير ممن يطمحون لنيل رضا هذه الجماهير للحصول على منصب سياسي أو مكانة اجتماعية مرموقة في مدينتهم، فيما لم تتحقق هذه الظروف لباقي الأندية بالمحافظات والتي ربما إن دعمتها جماهيرها بشكل كافٍ لتمكنت من الاستمرار ومقاومة الضغوط المادية الحالية. كانت تجربة غزل المحلة مميزة أيضًا وارتبطت بما وفرته شركة الغزل والنسيج بالمدينة من إمكانات مادية جيدة، تمثلت في بناء مدينة رياضية متكاملة بمقر الشركة، ويعكس لقب "زعيم الفلاحين" كونه أبرز ممثل لمنطقة الدلتا وممثلها الوحيد في سنوات طويلة بالدوري، بل حقق المحلة البطولة عام 1973 وكان قاب قوسين أو أدنى من الفوز بدوري أبطال أفريقيا حين خسر النهائي في العام الذي يليه، وهي التجربة التي لم تستمر في السنوات الأخيرة، ﻷن الشركة لم تواكب التطور الحادث حاليًا في الشركات والمؤسسات الأخرى، وهبط المحلة للدرجة الثانية قبل أن يحجز تذكر العودة إلى الأضواء مجددًا في هذا الموسم.