المخرج خيري بشارة- الصورة: فيسبوك

الفيلم أغنية ورغيف: خيري بشارة بين الثورة والشاشة والبحث عن جمهور

منشور الأربعاء 23 ديسمبر 2020

فهم المخرج المصري خيري بشارة (30 يونيو 1947) منذ البداية أنه يصنع أفلامًا للجمهور لا لنفسه، وأن الفن لا يتعارض أبدًا مع جذب المشاهدين، حيث ينظر مؤسس الواقعية الجديدة في مصر، إلى السينما مثل خطاب تنبغي كتابته بلغة رشيقة ومعبرة، قبل أن يوضع في غلاف جاذب يشجع المرسل إليه (الجمهور في هذه الحالة) على اقتطاع ساعتين من وقته للذهاب إلى دار العرض السينمائي فيفض غلافه ومن ثم يشاهد شخصيات وأماكن وأحداث لا يعرف عنها شيئا؛ فهو يؤمن تماما أن لا سينما بدون جمهور.

منذ أن كان طفلًا صغيرًا، عشق خيري بشارة السينما، فالتحق بمعهدها العالي وتخرج في قسم الإخراج عام 1967، وهو العام نفسه الذي هزمت فيه إسرائيل مصر ، ليشكل ومن خرجوا إلى حياتهم العملية في ذلك الوقت من الفنانين ما عرف لاحقًا باسم "جيل النكسة"، لذلك ارتبط مصيره بالحرب، وكان منطقيًا أن يهتم بها في أول أفلامه صائد الدبابات (1974)، وهو تسجيلي يتناول بسالة الجنود المصريين أثناء حرب أكتوبر، ليبدأ بعده في صناعة مجموعة كبيرة من الأفلام التسجيلية والقصيرة وصولًا إلى فيلمه العوامة رقم 70 (1982) أول أعماله الدرامية الطويلة في سلسلة اتسعت لتشمل أفلامًا كثيرة مؤثرة، مثل: الطوق والأسورة، ويوم مر ويوم حلو، وكابوريا، وآيس كريم في جليم، وحرب الفراولة، وإشارة مرور.

في البدء كانت الرؤية

كثيرًا ما تحدث النقاد عن إغفال خيري بشارة الرؤية من أجل التكنيك في فيلمه كابوريا، الذي يعتبر عملًا مفصليًا في مسيرته، لكنه يملك رآيًا آخر ويستدل عليه بفيلمي الناصر صلاح الدين ليوسف شاهين، وألكسندر نيفسكي للمخرج الروسي سيرجي أيزنشتاين، اللذين ينتقدهما "من المفترض ألا يتم فصل التكنيك عن الرؤية. فهذه الأفلام يغلب عليها التكنيك وبلا رؤية حقيقية. لكن مثلًا في فيلم تحت الأرض للمخرج الصربي أمير كوستوريتسا، الذي يتناول فيه انهيار الاتحاد السوفيتي نجد في الفيلم تكنيك عظيم لا ينفصل عن الرؤية التي يعبر عنها الفيلم".

ويؤكد بشارة للمنصَّة التي حاورته على هامش تكريمه منذ أيام في مهرجان البحر الأحمر السينمائي بالسعودية، أن فيلم الناصر صلاح الدين "يحتوي على الكثير من المشاهد المسرحية التي ليس لها أي علاقة بالسينما، كما يتضمن حوارًا ساذجًا وغير ناضج بالمرة؛ غلبة السياسة على السينما غير مفيدة بتاتًا، ولكن في أفلام باستر كيتون مثلا نجد تكنيك عظيمًا للغاية خاصة في حركة الكاميرا والمجاميع والميزانسين (تكوين المشهد). من يستطيع أن يتحدث عن التكنيك الآن بينما باستر كيتون قام بكل هذه الحيل في العشرينيات من القرن العشرين؟ عليك أن تحدثني عن عالم ورؤية وأسلوب، التنكيك هو أمر مخفي وملتحم عضويًا بالرؤية والأسلوب. ودائمًا ما أقول أنه من السهل أن تعلم أي مخرج كيف يكون لديه تكنيك لكن من الصعب أن تعلمه أن يكون لديه خبرة حياتية أو رؤية ثاقبة وعميقة وبسيطة للحياة والواقع في الوقت نفسه".

يمتلك خيري بشارة معرفة واسعة في السينما والفلسفة والأدب، ويعود جزء منها وبخاصة في الأدب إلى تأثره بخاله الكاتب والمترجم كامل يوسف، الذي يعتبره مثلًا أعلى، وهو من أهدى إليه فيلمه الشهير آيس كريم في جليم، وينعكس ذلك التأثر في ربطه بين السينما والأدب حين يفصل موقفه من الرؤية قائلًا "الرؤية لا تعني الأيدولوجيا أو الرسالة، فشكسبير ليس لديه رسالة أخلاقية أو مواعظ لكن لديه عالم فريد، الرؤية هي أن ترى الحياة في حبكة وهذه الحبكة عالم، فأعظم نوع من الروايات هي الشخصية لا رواية الحبكة التي هي أقرب للنمط التجاري، من يصنع الحبكة هو الشخصية وليس العكس، فحينما تحرك الحبكة الشخصية تصبح قدرًا لا واقعًا؛ الرؤية أن ينقل المخرج تجربة حياتية أو أن يشيد عالمًا خاصًا، وبما إن الحياة قصص بلا حبكة فعليه أن يضيف إليها الحبكة، والحبكة هنا ليس معناها الصنعة ولكن معناها وجود وحدة وغاية، الرؤية تكشف عن معاني وفهم وتجعل المشاهد يخرج من الفيلم مختلفا عن ذاته التي شاهدت الفيلم، لو استطاع المخرج أن يفعل ذلك فقد نجح، إذا فالمطلوب هو مزيد من الفهم والتأمل والجدل مع الذات والآخر".

 

غلاف كتاب المتمرد الصادر ضمن مطبوعات الدورة الأخيرة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي

يطرح ذلك سؤالًا عن الدور الذي يلعبه المخرج في صناعة شريطه السينمائي، إن كان هو من يتحكم بالدراما كلها كما باقي أدواته أو ينصاع إلى أفكار مؤلف النص، يجيب خيري بشارة قائلا "لا أحب أن أكتب على التترات أنني كتبت السيناريو للفيلم، ولكن الحقيقة أنني كتبت أو شاركت في كل سيناريوهات أفلامي، ومن يشاهد أفلامي يعرف جيدا أن روحي موجودة في كل لقطة وكل جملة حوار فيها، هذا لا يعني أن الكتاب الذين عملت معهم لم يقدموا إسهامات مهمة، أحيانا ما كنت أستفزهم وأجادلهم لنختبر الأفكار والتراكيب معًا من أجل الوصول إلى سيناريو جيد، فأحيانا واحد زائد واحد نتيجتها ثلاثة (1+1=3) حيث إن المشاركة في السيناريو تطوره".

ويستطرد "دائما يوجد تفاعل بيني وبين أشخاص يفهمون ما أريده وما أفكر فيه، مثل موندوج، الذي شاركني ابني روبرت في كتابته، ولكنها مشاركة اتسقت مع أفكاري، الأغنية الأولى للفيلم ثلاث سمكات مقلية، مثلًا، مستوحاة من كابوس مررت به، ولكن في أغنية عندما كنت في السادسة عشر من عمري قلت له هذه أغنية تخصك أنت وعليك كتابتها وحدك، أما أغنية أريد أن أصرخ فكتبتها بالفصحى، ولكن روبرت أضاف إليها، حيث كنت أتحدث عن العلاقة بين الأجيال وكيف أن الأجيال لا تفهم بعضها وكيف أن جيلي يحاول السيطرة والسطو على الأجيال التي تلته، بينما المجتمعات الناضجة تعرف جيدا أن حيويتها كامنة في تعاقب الأجيال ومن تفاعل هذه الأجيال لا صراعها".

سينما للنخبة أم للشعب؟

يصرُّ بشارة، الذي صدر عن مسيرته السينمائية كتابًا بعنوان المتمرد ضمن فعاليات تكريمه بمهرجان البحر الأحمر، أن أفلامه كلها شعبية، أو أنه على الأقل حاول صناعتها كذلك، لكن أعماله الأولى الأقدار الدامية، والعوامة 70، والطوق والأسورة، ويوم مُر ويوم حلو لاقت احتفاءً من النخبة المثقفة فيما هجرها المشاهد العادي، فكيف تندرج وفق ذلك المعطى ضمن رؤيته عن السينما الشعبية؟

يقول صاحب كابوريا "كنت مؤمنًا بأفكار الكاتب علي الراعي وخاصة في ثلاثيته مسرح الشعب: الكوميديا المرتجلة - فنون الكوميديا - مسرح الدم والدموع. في هذه الكتب يتناول الديمقراطية وكيف يمكن تطبيقها بصيغة ثورية، ويرى أن ثمة صيغ رائجة شعبية في الدراما على الفنان أن يستخدمها في صالحه من أجل جذب الجمهور ونقله إلى المنطقة التي يريدها الفنان، وهذا ما حاولت فعله في الطوق والأسورة، حيث قدمت طقوسًا شعبية وغناءً وموسيقى ودراما، ورأيي أن السينما ظاهرة شعبية، ولست ضد السينما المستقلة، فهذه الأفلام تطور الصناعة نفسها، ففيلم المومياء خاص وليس للجمهور العريض، ولكن بعض المخرجين حاولوا أن يستفيدوا منه ليقدموا صيغًا شعبية للوصول إلى جمهور أكبر، وهذه أهمية وجود سينما من هذا النوع؛ أنتمي إلى سينما مختلفة أيضًا ولكني لا أقدم أعمالًا تجريبية فيما عدا فيلمي الأخير موندوج".

 

مشهد من فيلم الطوق والأسورة- الصورة: أرشيف خيري بشارة الخاص

وربما يفسر التضارب بين رغبة خيري بشارة في صناعة أفلام جماهيرية وما تركته أفلامه تلك من انطباع لدى النخبة، ما امتلكه في شبابه من طموح لصناعة سينما فنية خالصة، وقمعه ذلك الطموح بعدما قرر لاحقًا أن يصنع سينما تجذب أكبر قدر من الجمهور وكأن ثمة صراع يدور بين الرغبتين هو ما أفرز تلك الأعمال، يقول"لم أخن طموحاتي ولكن أعيد تدويرها دائمًا في طريقة سرد فيها الكثير من الطموح والتجريب، ولكنني أريد أن يشعر الناس دائمًا بالمتعة والسعادة وتظل أعينهم على اتساعها وهم يشاهدون أفلامي".

بين الثورة في الشارع وعلى الشاشة

يسم صراع الأجيال أعمال خيري بشارة كلها تقريبًا، وهو صراع أبرزته أيضًا 25 يناير، التي حركها الشباب وحاول "العواجيز" عرقلتها، لكن علاقة بشارة بالأخيرة كانت مختلفة، حيث إنه حرص على متابعة تطوارتها طوال فترة وجوده خارج البلاد الذي تصادف حدوثه وقت اندلاعها، وما أن عاد إلى مصر حتى انضم إلى ميدان التحرير "علاقتي بثورة يناير مختلفة، قلت كل ما أريده قبلها ثم ابتعدت عن الأضواء لأنني لم أرِد أن أكرر الكلام نفسه الذي سبق أن قلته وعبرت عنه، أنا مقتنع أنني إذا ما فعلت ذلك فسأكون مجنونًا، حينما عدت من الخارج بعد تنحي مبارك، ذهبت لميدان التحرير ولكني شعرت أنني أجنبي أو زائر من الفضاء، وقال لي الكثيرون حينها أنني واحد ممن تسببوا في هذه الثورة، لأنني كنت ممن حرضوا على التمرد والتغيير، وكنت أرد عليهم قائلًا: لا هذه ثورتكم أنتم الشباب وليست ثورتنا نحن. وأنا لا أحب أن أطلق عليها "ثورة" لأن الثورة يجب أن تنجح حتى تسمى هكذا. وأفضِّل أن أطلق عليها انتفاضة، مثل انتفاضة 1977 ولكن أكبر وأضخم بالتأكيد".

 

مشهد من فيلم أيس كريم في جليم- الصورة: أرشيف خيري بشارة الخاص

وعلى عكس معظم النقاد يرى بشارة أن آيس كريم في جليم، هو أكثر أفلامه تحريضًا على الثورة وبخاصة "حين يغني عمرو دياب: أنا مش مألوف إمبارح لكن للجاي مألوف، وهاعاند أيوه هاعاند، وشمسي هتشق الغيب؛ كلها مقاطع تحرض على الثورة والتغيير والتمرد، وأيضا اجتماع سيف مع أصدقاءه من الشباب في الجراج الذي يسكنه حيث يحتفلون بعيد ميلاده، ويتحدثون عن كيف أنهم يبحثون لأنفسهم عن مكان تحت الشمس، ذلك الشباب الضائع وسط عجائز، لذلك أحبُ جدًا قصيدة عبد الرحمن الأبنودي الميدان التي قال فيها: "آن الآوان ترحلى يا دولة العواجيز "، فأنا لو وافقت على تصدر مشهد الثورة حينها كنت سأكون شخصا مزيفا لأني سأكون خنت كل ما قلته قبل ذلك".

أدرك بشارة منذ منتصف التسعينيات تقريبًا أن دوره انتهى، وانعكس ذلك في شخصياته أفلامه وما صنعه خلالها من علاقات بين الأجيال المختلفة، مثل زرياب الذي كان ينظر لابنته نور وبطل الفيلم سيف باعتبارهما الغد الآتي، وأن لحظة موته كانت هي نفسها لحظة الولادة الفنية للجيل الجديد، يقول بشارة "ثورة يناير هي ثورة شباب من الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، حيث كافح آباءهم كثيرًا ثم فقدوا الأمل فشعر الأبناء بمحنتهم، لذا فجزء من ثورة يناير هو استرداد حقوق جيل الآباء هذا الذي حاول تغيير وضع البلاد ففشل، فقرر ألا يعيش إلا من أجل نفسه وعائلته، ولكن المثقفين والسياسيين من كل الاتجاهات قفزوا على مركب الثورة وسرقوها من الشباب الذين صنعوها وهو ما جردها من وهجها ومعناها وغاياتها".

ولكن التحريض على التمرد، جعل أفلام بشارة تعاني كثيرًا مع الرقيب، مثل قشر البندق الذي انتظر طويلًا حتى أجيز عرضه على القنوات التلفزيونية، ومسلسله أهل إسكندرية الذي أنجزه بعد الثورة ولم تسمح الرقابة بعرضه حتى الآن، وهو الأمر الذي يثير استغرابه بشدة "كتبت كثيرًا وتكلمت مع عدة أشخاص عن المسلسل ومنهم أشخاص يدعون أنهم مثقفون وثوريون، لكنهم يصلون لذلك ولا يتفوهون بكلمة واحدة؛ لم أتعرض أبدًا لمضايقات في عصر السادات أو مبارك، تعرضت لبعض المضايقات من الصحفيين والنقاد والرقيب ولكن ليس من النظام نفسه، ومشكلة النظام ليست معي، المشكلة كانت مع بلال فضل وعمرو واكد وبسمة لأنها كانت متزوجة من السياسي عمرو حمزاوي، فالمسلسل لا يحتوي على أي شيء يتعلق بالثورة فكل أحداثه قبلها".

 

مع رانيا محمود ياسين أثناء تصوير فيلم قشر البندق- الصورة: أرشيف خيري بشارة الخاص

غير أن المنع لم يعد يثير في داخله أي مشاعر سلبية "أدركت أن قدري أن أولد وأعيش في مصر،؛ أحبها للغاية"، وإن لم تعد لديه أية آمال في عرض مسلسله في المستقبل القريب "ما زال عمرو واكد وبلال فضل يهاجمان النظام بعدما سافرا خارج البلاد والأول كاتب المسلسل والثاني بطله".

و على الرغم من موقفه السابق الذي قد يوحي بمهادنة النظام في عصر مبارك، إلا أن فيلمه قشر البندق حمل إسقاطات سياسية كثيرة تحيل إلى فساد ذلك العصر"كان واضحًا في الفيلم أن الفندق هو مصر وأن مديره هو رئيس الجمهورية، ولهذا لا يذاع الفيلم في القنوات كثيرًا بسبب احتواءه مشاهدًا تبين أكل أطفال الشوارع من القمامة، وأن الناس قد تموت في سبيل تحقيق أحلامها، فهم في سباق محموم من أجل الجائزة، أيضا يحتوي الفيلم على سخرية مريرة من الرأسمالية".


اقرأ أيضًا: من يوسف شاهين إلى كزافييه دولان: لذة الانغماس في الذات


الفيلم أغنية ورغيف

يولي خيري بشارة اهتمامًا ملفتًا بالموسيقى في أفلامه جميعها "لا يمكنني إنكار أنني ابن تراثي السينمائي، وهو تراث غنائي وحِواري، كان تأثير عبد الحليم حافظ كبيرًا عليَّ وخاصة أغنية على قد الشوق، في فترة المراهقة في نهاية الخمسينيات في الإسكندرية أثناء تصييف العائلة، كنت أرى العالم حولي عبر أغاني عبد الحليم. أعتقد أن الأغاني مثل القصائد بها تلخيص وتكثيف مدهش للعواطف والمعاني الضمنية. كنت أتمنى أن تكون كل أفلامي غنائية لا حوارية. كنت أحب أفلام جاك ديمي مثل مظلات شربورغ ولولا وشابات روشفورت، وكنت أريد أن أصنع الطوق والأسورة كله استعراضات وأغانٍ"، لكنه اندهش على الرغم من ذلك عند حضوره إلى السعودية لتكريمه في الدورة الأخيرة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي، بعد أن شاهد النساء اللائي كن مغلوبات على أمرهن في تلك الدولة تغني وترقص بحرية، وأن أفلامه الغنائية أحبها السعوديون وظلوا منذ التسعينيات يشاهدونها خلسة في غرفهم المغلقة.

بالإضافة إلى الموسيقى، تتميز أفلام خيري بشارة بعدة موتيفات أحيانًا ما تكون محددة، أو غير مقصودة في أحيان أخرى، مثل إبرازه حب الطعام الذي يتقاطع بشكل ما مع ولع شخصي"الأكل مهم بالنسبة لي. ومنذ وقت طويل أثر فيَّ كتابين عن الطعام كثيرًا. الأكل ليس مجرد أكل بل اختيارات وعادات اجتماعية، مثل من يحب أن يأكل وحده أو وسط مجموعة. لدينا للآسف تفكير سطحي نحو الأكل والجنس والملبس ولكن هذه الأمور لها دلالات عميقة للغاية... وسحر الإخراج هو مزيج بين الوعي واللا وعي".

ويستطرد "خلال عملية الكتابة أكون واعيا لكن خلال التصوير لا أكون كذلك، في كابوريا، مثلا، كنا نصور في مكان بعيد فطلبت فجأة عازف كمان لأني شعرت أن هذا المشهد يحتاج إلى عازف كمان؛ أحيانا ما أرتجل أثناء التصوير لتطوير المشاهد، مثلا في مشهد شرب البيرة في رغبة متوحشة، همست في أذن محمود حميدة قائلا: لم تمسك الشخصية بعد. هل تريد التوقف قليلا لتستعيد نفسك؟ سألني: هل من الممكن فعل ذلك؟ قلت له: بالتأكيد. لا أذهب أبدًا إلى طريق لا أرضى عنه، وفي أحد مشاهد آيس كريم في جليم بين عزت أبو عوف وسيمون، أوقفت التصوير رغم إرهاق الجميع وقلت لهم: أنا خرا. لم أقل لهم: انتوا خرا، ثم أعطيتهم استراحة وأخذت أتمشى قليلا ورجعت بشكل تلقائي فأخرجت المشهد كما هو في الفيلم الآن".

الارتجال فن

يعرف عن المخرجين المؤثرين في السينما أنهم يخططون لكل شيء قبل البدء في تنفيذ العمل، ولا يحيدون عما خططوه أو يعطون فرصة للارتجال، لكن لخيري بشارة رأيًا آخر "في أحد المرات، قال لي رضوان الكاشف أن يوسف شاهين أخبره أثناء تصويره الوداع يا بونابرت أنه معترض على فكرة عدم قيامي بديكوباج. وحينما قابلته قلت له: أنا ملهَم. فقال لي ساخرًا: وماذا لو أصابك صداع أو إمساك؟ فرددت عليه ساخرًا: لا أصاب بأي منهما".

 

مع حميد الشاعري وهاني خليفة أثناء تصوير قشر البندق- الصورة: أرشيف المخرج الخاص

الديكوباج هو السيناريو الإخراجي، ويتضمن تقطيع مشاهد السيناريو الأصلي إلى لقطات محددة، وإيضاح تكوين الصورة من حيث وضع الكاميرا وحركة الممثلين وإيقاع المشهد، لكن لبشارة تجربة مختلفة "كل المحاولات النادرة التي قمت فيها بديكوباج أدمرها في اللوكيشن، لكن لا أحد يشعر بعدم وجود ديكوباج".

ويضيف "أنا شريك في كتابة كل أفلامي وبالتالي أنا متورط في عالم فيلمي، وبسبب اهتمامي بالمسرح، أرى أن كل مشهد له شحنة معينة، وغالبًا ما أكتب على السيناريو قبل التصوير الشحنة الرئيسية لكل مشهد، ثم أذهب إلى اللوكيشن مبكرا وأسجل الديكوباج في خمس دقائق. الاحتراف الزائد الناتج عن الالتزام الحرفي بالديكوباج يقمع قدرتي على التخيل والإبداع، أحيانًا ما يأتيني إلهام من شيء غير مقصود مثل ممثل يجلس في مكان مختلف وعلى الفور أعدِّل الخطة والتركيبة، وهو ما حدث بالفعل في أفلام يوم مر ويوم حلو، والطوق والأسورة، وأمريكا شيكا بيكا".

أزمة إشارة مرور

كان عام 1996 هو الأصعب بالنسبة إلى خيري بشارة، فعلى الرغم من فوزه بجائزة أفضل مخرج من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عن إشارة مرور، لكنه قرر التوقف عن صناعة الأفلام في ذلك العام الذي شهد صدور فيلمين جديدين له، بسبب ما أصابه من إحباط من الجمهور والنقاد الذين لم يفهموا فيلميه "ما أزعجني هو الحرب الضروس ضدي، هذا الاستعداء وكأني قد اقترفت جريمة سينمائية، هذا ما ضايقني وجعلني لا أريد العمل في السينما بعد ذلك، فجأة وجدت الإعلام والجمهور ضدي لولا أن لجنة التحكيم التي يتكون أغلبها من أجانب هددوا بالانسحاب لو لم أفز بالجائزة. بالتأكيد لو فاز بها مجدي أحمد علي كنت سأفرح له أكثر، خاصة أني فزت بالعديد من الجوائز قبل ذلك".

ورغم مرور الكثير من السنوات على تلك الأحداث، عادت المشاعر نفسها لتؤرق خيري بشارة مع عرض مسلسليه ذات والزوجة الثانية "كتبت قصيدة أيها الكائنات المشوهة ردا على الهجوم الذي واجهته بعد عرض بنت اسمها ذات، رغم أن كاملة أبو ذكري رفضت أن تكمل المشروع، وأنا الذي أنقذته".

ويستطرد "كاملة أبو ذكري مخرجة موهوبة وأحبها وأقدرها، وهي من تلامذتي، وعندما قابلتها أخبرتني أنها دخلت مجال السينما بسبب الطوق والأسورة، وقبل أن أتولى المسؤولية كلمتها ثلاث مرات وقلت لها كيف يمكن عبر الإنتاج أن تسرع من وتيرة عملها لتنجز المشروع، ولكن قبل حتى أن يعرض الجزء الثاني الذي أخرجته، وجدت النقاد يهاجمونني مدعين أنه سيكون أقل من الجزء الذي أخرجته كاملة لأني لن أستطيع أن أفك شفرة مديرة التصوير نانسي عبد الفتاح".

 

المخرج خيري بشارة بين آيتن عامر وعمرو عبد الجليل في مشهد من مسلسل الزوجة الثانية- الصورة: أرشيف المخرج الخاص

وعن الزوجة الثانية وما أثاره، يقول بشارة "في العام نفسه هاجمني الجميع بسبب الزوجة الثانية أيضًا، ولكن دعني أقول لك إن المسلسل أفضل كثيرًا من فيلم الزوجة الثانية لصلاح أبو سيف، فالفيلم ساذج للغاية حتى سعاد حسني رغم سحرها لم تكن في أفضل حالاتها، ولكن العبقري بالتأكيد هو صلاح منصور. وللتاريخ، هذا المسلسل ظُلم كثيرًا وحينما تُعاد مشاهدته سيجد الناس أنه متفوق على الفيلم من الناحية الفنية والأدائية والكتابة". 

ويضيف "يهاجمني الناس منذ البداية. فأنا أغير في السرد والدراما في السينما والمسلسلات منذ مسألة مبدأ مرورا بريش نعام وحتى آخر مسلسل لي، وأنا أعي تماما أنهم لا يفهمون كيف أستطيع فعل ذلك، الأمر نفسي بحت لا علاقة له بالكراهية، لأني أعرف جيدا أن الجميع يحبونني ولكن لا يفهمون كيف استطعت أن أطور في السينما وأيضا في الفيديو أي المسلسلات... في أحد المرات استفززت كل النقاد المصريين المجتمعين حيث كانوا يرتدون نظارات شمس فقلت لهم: تبدون وكأنكم ضباط أمن دولة. وهو ما يجعلهم أحيانا يهاجمونني أو يقولون أن مخرج آخر أفضل مني. وهو أمر لا يهمني طالما أنهم ينعتون مخرجا جيدا بالفعل".

"لم يفهمني النقاد منذ البداية" يؤكد صاحب العوامة رقم 70 "حتى أفلامي الأولى وقبلها أفلامي التسجيلية لم يفهمها النقاد، كل السمات التي تجدها في أفلامي بداية من كابوريا، موجودة كذلك في الأفلام السابقة عليه، بل إنها موجودة إلى حد ما في السينما المصرية، فحينما تشاهد السوق السوداء لكامل التلمساني تجد بعض السمات الموجودة في كابوريا، فالتركيبة التي صنعتها ستجد فيها بالتأكيد سمات من الماضي والحاضر والمستقبل. ولكن وبعد أن انتهيت من يوم مر ويوم حلو، كنت قد استنفدت كل ما يمكنني صنعه في هذه المنطقة، وفي تلك الفترة قال لي أحد النقاد الأجانب: فيلمك شديد الصدق. لم يقل صادقًا بل شديد الصدق، وهو ما اعتبرته عيبًا لا ميزة، كان نقدًا ذكيًا جدًا وأثر في ولم أنس هذه الجملة أبدًا، في هذه الفترة، كنت أريد الانعتاق من الأطواق والأساور التي تكبلني وربما ساعدتني هذه الجملة على هذا الانعتاق".

ربما يكون المخرج خيري بشارة الذي يبلغ من العمر 73 سنة الآن، هو أكثر المخرجين حرية في السينما المصرية، رغم عمله ضمن إطار السينما التجارية مع منتجين كبار ونجوم شباك من الصفوف الأولى وبأهداف على رأسها تحقيق إيرادات مرتفعة، هل كان محظوظًا أم خطط لذلك؟ هل كان ذكيًا أم عنيدًا؟ فعل ذلك كله وتمرد أيضًا؛ تمرد على السينما التسجيلية التقليدية منذ أول أفلامه التسجيلية، وتمرد على السينما السائدة مع أفلامه الدرامية الأولى، والعوامة رقم 70، ويوم مر.. ويوم حلو، وتمرد على نفسه في أفلامه كابوريا، ورغبة متوحشة، وآيس كريم في جليم، وأمريكا شيكا بيكا، وحرب الفراولة، وإشارة مرور، وقشر البندق. وذلك التمرد هو سمة رئيسية في أي فنان حقيقي في تاريخ الإنسانية.