تصميم: يوسف أيمن - المنصة
يسدد الكتاب عدة صفعات على وجوه كثير من المجاميع والأشخاص

تاريخ العصامية والجربعة: القلعة تستقر بسلام إلى جوار البحر

منشور الأحد 4 يوليو 2021

 

اختار الكاتب محمد نعيم اسمًا صادمًا لكتابه الجديد؛ تاريخ العصامية والجربعة، ليترك قارئه للوهلة الأولى مرتبكًا بين التبجيل الاجتماعي لـ "العصامية"، وهو تبجيل موروث من حقبة يوليو بمفهومها المجتمعي، متبوعًا بـ "الجربعة" في تناقض صارخ يثير تساؤلات عن "إيه اللي جاب القلعة جنب البحر". 

يسدد الكتاب الذي صدر الشهر الماضي عن دار نشر مركز المحروسة بالتزامن مع معرض القاهرة الدولي، عدة صفعات على وجوه كثير من المجاميع والأشخاص؛ منها أن نعيم قرر تناول المجتمع المصري بتحليل سوسيولوجي وهو أمر غاب في أزمنة مختلفة عن أوساط المثقفين المصريين، وهم دائمي الاحتقار للمجتمع بطبقاته الاجتماعية العادية ولا يعنون كثيرًا بفهم شخوصه وذواته وطبقاته الاجتماعية او حتى التعاطي معهم في الحياة اليومية.

ونتيجة لتجارب نعيم العميقة، التي بدأت منذ طفولته في شوارع وبلوكات الحي السابع في مدينة نصر، وذكرياته فيها، قرر السكن لاحقًا في إحدى جغرافيات القاهرة التاريخية والشعبية في الوقت ذاته؛ ما بين السيدة زينب والدرب الأحمر، ولم يخفِ سعادته باكتشاف أصول الجربعة بتجوله الدائم في المنطقة مسجلًا ملاحظاته الدقيقة حول الناس وحركتهم؛ والأهم أفعالهم. في قراءته للمجتمع، أرى أنه يحاول ليس فقط تقديم قراءة للمجتمع المصري، لكنه يسهم بمقدمة لازمة لفهم أسباب فشل الثورة.

يلقي الكاتب على مدار صفحات كتابه بفصوله السبعة ضوءًا على فكرة الجيش ونظاميته وكيف أثر على المجتمع وتلاقيه وترقيه أو انحداره وجربعته بمفرداته، وهو همٌّ أصيلٌ يليق بأي شخص يدّعي الاهتمام بالحياة العامة بعد عشر سنوات على مرور الثورة المصرية في 2011، وسؤالٌ لا يمكن التراخي عن طرحه بعمق وبتكرار دؤوب في الفهم والتحليل.

 

نسخ من تاريخ العصامية والجربعة. الصورة من صفحة دار المحروسة - فيسبوك

لا يخفى بين صفحات الكتاب، أن جزءًا أساسيًا من مراجعاته تشكّل مقدمةً للتعمق في فكرة الثورة المصرية وأحداثها المختلفة التي كان فاعلًا سياسيًا دائمًا في صمت وخلف الكواليس بشكل حركي من الدرجة الأولى. أعتبر قراءته في هذا النص مقدمة معمقة لواحد من أسباب فشل الثورة، واعترافًا بالهزيمة ومحاورها، حيث تضم انحدار وتدهور المجتمع وأطيافه وأهمهم الطبقة الوسطى، مع حالة متماهية من الاحتقار العميق للذات تنمو وسط نزعات أخلاقية مدعية وكاذبة. بالتأكيد فإن جزءًا أصيلًا من نزعة محمد نعيم التحررية، وهو الباحث دائمًا عن التغيير، لا تنفصل عن هذه الرؤية النقدية لمجتمع يهمه ويشغله سياسيًا بشكل دائم، وأنه لا تغيير حقيقي دون محاولة فهم أصول العصامية والجربعة في المجتمع المصري. 

تنويعات على هامش الجربعة

يضع نعيم كل التفعيلات اللغوية لكلمة "جربعة" ولوهلة خلال قراءة الفصل الثاني قد تستغرب تحديات عمل تفعيلاتها لغويًا، ولكنه يعرّف الجربعة كعمليات متتالية في عمق التغيير المجتمعي تخص جانبين؛ أحدهما اقتصادي والآخر سياسي، الأول يعبر عنه من خلال سؤال الملكية حيث يقوم بالتعريف الأساسي للجربعة؛ "التخلص من الفقر ووصمته"، وأرى أنه هنا يطرح سؤال فشخرة الملكية والتباهي بما لا نملكه، والتباهي بالملكية في حد ذاته فعل حقير بالتعريف بشكل اقتصادي وماركسي أيضًا. أما الجانب الثاني للجربعة فهو التماهي مع الفشل والهزيمة وهو فعل سياسي من الدرجة الأولى يضعه نعيم في سياقه التاريخي السياسي المصري.

يبني نعيم على مفاتيح الاحتقار الاجتماعي والطبقي، حيث يتناول فهم المصريين لألوان البشرة كسبب لتمايز النوع الاجتماعي في خلق معيارية لا أصل لها بين استحسان سمرة الرجل كمفتاح للرجولة، وبياض السيدات كعلامة أنثوية، ويتبعه بفهم لسيادة اللهجة العامية القاهرية، باعتبارها الأصل "إلى أن يثبت عكس ذلك"، وهو ادعاء بيّن لإثبات تمدنهم وتحضرهم ولكنه في الحقيقة يؤكد زيفهم، بشكل مخالف للأصول الجغرافية واللهجات المختلفة في مصر، وهو ما سماه "أنماط ضبط الألسنة" في القرن العشرين.

ينتقل بعد ذلك إلى جربعة اللسان، حيث "أمركة المصطلحات" والجهل الفخور باللغة ومفرداتها في محاولة فاشلة للترقي الطبقي، وهو ما يصفه بأنه محاولة تامة "للهروب وليس البناء". يكمل شرحه لعوامل التناقضات العميقة مثل الإيمان بالحسد، وفعله المادي في الشعور بالخطر سواء للفقر والعوز أو الرعب من الحقد الطبقي. يرى نعيم في علاقة المجتمع بالأكل علاقة حرمان دائم، تبرر الشعور الجماعي بالعوز والفقر ووصمته.

نظرة أخرى من عين الطائر

لاحقًا؛ يأخذنا نعيم إلى تحليل سياسي واقتصادي ويقترح محطات هامة وقعت فيها تغييرات مجتمعية حقيقية بنى عليها بشكل أساسي تحليله حول تاريخية العصامية والجربعة، ليُعرِّف هذه الأخيرة بـ "أن يتماهى الفرد مع تاريخ بعيد"، هكذا يأخذنا الكاتب في الفصل الرابع من كتابه، مستعيدًا محطات تاريخية خلقت صورًا تخيليةً لدى المصريين عن حياتهم هي في حقيقتها وهمًا دراميًا من محض الخيال

يرى نعيم أنه قبل 1952، تكونت أمصار "ولم تكن أبدًا مصرًا واحدًا"، تعبر عن سيولة واضطراب مجتمعي واقتصادي في بلد متخلف لم يملك مصيره. وبإدراك واضح، غير مضمن، يدفع الكتاب بأنه لا يمكن تقديم قراءة لثورة يناير 2011 دون العودة إلى انقلاب 1952، فيتناول بعمق تصاحبه المرارة كيف تعززت العصامية في دولة يوليو في الخمسينيات، بالتزامن مع ارتفاع عظيم في شأن أفراد الأمن والجيش بقبضة مستبدة أصبح تجليها واضحًا في الستينيات.

 

مجلس قيادة الثورة في اليوم الأول لحركة الضباط الأحرار. الصورة من ويكيميديا برخصة المشاع الإبداعي

بات وجود القوات المسلحة طاغيًا في الحياة المدنية، ومصائب التأميم في التكوينات الاقتصادية في مصر، بل و"نشأت البرجوازية البيروقراطية كفئة اجتماعية جديدة"، ثم ومع هزيمة 1967، ظهرت الجمل السياسية الجربوعية بشكل منافٍ تمامًا لما رسخته الخمسينيات، مثل تصاعد دعوات العدمية السياسية، باسم الواقعية، من المثقفين ذوي الميل اليساري.

ينتقل بعدها للسبعينيات مع السادات وأفراد طاقم عمله ومنه إلى مبارك حيث يتناول تصورات الدولة وطريقة الحكم بشكل سياسي واقتصادي بحت في عصرهما. هنا يأخذنا نعيم في إطلالة، من منظور عين الطائر، على مشاريع سياسية فاشلة وانتهازية في تعريفها السياسي، عكس ما بدأ به الفصول  الأولى التي دوّن فيها ملاحظات اجتماعية دقيقة وتفصيلية.

ومع الوصول إلى التسعينيات بأحوالها المتناقضة بين القمع والازدهار، يعود بنا الكتاب مرة أخرى إلى تفاصيل الحياة المجتمعية وتأثير التكنولوجيا وعالم الانترنت في حياتنا. وبصفته كان شابًا في العقد الثاني من عمره في ذاك الزمن فقد استخدم ملاحظاته مشتبكًا بشكل شخصي معها، بوصف هذا العالم بالأسفل حيث مارسنا حريتنا بطلاقة وبحرمان المسجونين بوضوح.  أضفى هذا العالم تكوين شبكات حقيقية وفاعلة بشكل عصامي لنعيم ورفاقه وجيل بأكمله، ودخلنا الالفيات وعالم المدونات لنمارس للسياسة في فضاء افتراضي يمثل شبكة أمان وفقًا للكاتب. 

أين الشعب؟ 

يلحظ الكتاب عدة ظواهر اجتماعية رافقت محطات سياسية هامة مثل أمركة المجتمع وكيف أصبح نمط الاستهلاك الرأسمالي المتأمرك عبئًا على جميع الأسر، معطيًا أمثلةً دقيقةً للاستهلاك الغذائي بـ "برنداته" مثل ماكدونالدز، والاستهلاك الثقافي بالهالوين، لينتقل منه إلى موضوع الهجرة واعتيادها من وإلى مصر، وهو الأمر الذي اعتبره في تحليله إعادة تشكيل للخريطة الطبقية المصرية.

أتاحت الهجرة منذ السبعينيات، حسب الكاتب، وفود الفلاحين وصغار العمال الذين ارتقوا طبقيًا، بالمعنى الاقتصادي، إلى صفوف الطبقة الوسطى فدخلوا في صلبها اجتماعيًا حاملين معهم ثقافاتهم الوافدة، فيضع يده على الصحوة الإسلامية باعتبارها الظاهرة السوسيولوجية الأهم في التاريخ المصري الحديث حتى ثورة يناير 2011، ويحللها كضرورة سياسية إثر هزيمة 1967 ومناهضة دولة يوليو، وينتقل من تحليل حقبة الناصرية إلى السادات وخطواته السياسية والاقتصادية ومعانيها وهو ما يحتاج إلى قراءة أكثر وعيًا وتمعنًا من المتلقي.

يبني نعيم ذلك كله على ما استهل به فصله الأول بتحليل ماركسي يربط بين ماهية المصريين وفكرة العمل، حيث ما يعملون به يشكل هويتهم وذواتهم سواء الفلاحة او الانتظام في الجيش في عصر محمد علي. كما يبدأ في تحليل التناقض العميق والمتشكل بين إيمان المصريين بالغيب أمام كرههم الشديد للعلم رغم أنه مجتمع نشأ كاملًا، بوضعه الحالي، في فترة الحداثة.

ويطرح، عكس المعتاد، أن المصريين مجتمع قابل للتطور وتقبل الجديد خلال الزمن بإعطاء أمثلة واضحة لماهية تغيير المجتمع المصري خلال مئتي سنة وخروجه من وادي النيل إلى خط القنال تعميرًا وتصنيعًا، ثم خلق طوائف الحرف المختلفة بعدما عرف الفلاحة لعقود، ومنها يذكر عصامية الشعب الطوعية في التعلم والتطور.

قد نسأل نعيم عن مكان طبقة العمال في هذا التكوين، ولكنه قد يجيبنا بأنها جميعها تعود أصولها إلى الفلاحين، وقد طرحت هذا بالفعل الكاتبة والمؤرخة حنان حماد في كتابها (Industrial Sexuality) الذي ركزت فيه على الطبقة الاجتماعية العاملة في أحد مصانع المحلة خلال أوائل القرن العشرين، وما تحمله من تناقضات التحول فجأة من الزراعة إلى العمل في المصانع. تجاهل نعيم طوائف الحرف بتاريخها في التكوين الصميم للمجتمع المصري الحالي، لكني أتخيل أنه، وبمد الخط على استقامته، سنجد نكرانًا بين عصامية طوائف الحرف وتكوينها لمراكز وشخوص أبناء عائلاتها.


اقرأ أيضًا: أم الدنيا: ضد الدنيا وخارجها

 

الرئيس السيسي يقود تدريبًا عسكريًا

خصص نعيم الفصل السادس من كتابه لعالم ثورة يناير وما سبقها من مسببات، لنخوض معه رحلة من الارتباك الشخصي بسبب مشاركة جيلنا في أحداثه، قبل أن يصفع القارئ على وجهه عندما ينتزعه من ارتباكه بوضع شروط لحسم جدلية صراع الثورات وربطها بنماذج تاريخية وكأنه يقول لك "شوف مكانك، وحط نفسك في سياق عشان تفهم" أو بمعنى "وسعها متضيقهاش".

يحلل الكتاب تواجد وإمكانات الطبقات المختلفة في الثورة المصرية، ثم يتركك مع عدد من الأسئلة لعل أصعبها "أين الشعب؟". لم يذكر نعيم بالمرة كلمتي العصامية أو الجربعة في هذا الفصل، الذي أعلم أنه لم ولن يكتفي به لقراءة لثورة 2011.

أمتن لهذا الفصل تحليلًا، وإن كان بحاجة إلى بعض الوصل الفكري بالفصول الأخرى التي تقدم أطروحته الأساسية. أما خلاصته في الفصل السابع فتؤكد وضعية الجمهورية المبتسرة في نسختها المصرية. ويسير بنا في تفكيك لمعنى الجمهورية والشعب، والدستور، ومراحله، وسلطاته. وينهي مؤكدًا انهيار الأوضاع والخشية من استمرار ذلك نحو هوة الانحطاط فيما يشبه السقوط الحر.

يشتبك محمد نعيم بشكل واضح وصريح مع عدد من الكتاب المثقفين الذين يسهل تصنيفهم وفق إصداراتهم المعرفية كنخب معنية سياسيًا واقتصاديًا بالمجتمع المصري، كما يعود لمراجع مثل مذكرات بعض السياسيين. يتناول ببساطة ذاكرة أرشيف السينما والبصرية كأداة توكيدية لما يطرحه في فصوله السبعة.

ولكنه في الوقت نفسه يتجاهل عددًا لا بأس به من كتاب وصفوا بالمهمين، لكن هل كانوا مهمين فعلًا؟ هل حاور محمد نعيم أطروحة جلال امين في ماذا حدث للمصريين ام احتقرها تمامًا في كتابه؟ من الواضح أن نعيم لم يذكر حتى الكتاب في أيٍّ من مراجع كتابه، وعلى الأغلب فإنه يراها كتابة سطحية غير تاريخية ولا تنشب بعمق في أي فكرة كوّنت ذوات شخوص المجتمع المصري. وسواء كان تحليل جلال أمين سياسًا أم لا، فهو لا يعنينا هنا، بل ما يعنينا هو أن كتاب تاريخ العصامية والجربعة نص ناتج عن صراع، ليس صراعًا هوياتيًا لدى الكاتب لكنه صراع في خضم سياساته يحمل غضبًا مما آلت إليه تلك الجمهورية، وغضبًا من أوضاع سياسية واقتصادية مستنزفة أدت إلى انهيار مجتمعي، وغضبًا نابعًا من المسؤولية نحو ثورة هزمت.