تصميم: يوسف أيمن- المنصة

بهاء عبد المجيد: أمتطي الحياة كأنها أرجوحة

منشور الاثنين 30 أغسطس 2021

 

في ليلة باردة من ليالي يناير/ كانون الثاني الماضي، كنتُ انزل من تاكسي، بالقرب من فرع عمر أفندي في ميدان الجيزة، أسوِّي حقيبتي وأستعد للسير بضع خطوات، هي المسافة إلى أقرب بائع صحف في الميدان، كان الليل في كل مكان، نظرتُ أمامي فرأيته قادمًا من الاتجاه المُعاكس، وارتجف بدني، قبل حتى أن يحاول عقلي تفسير الموقف.

رأيتُه. أو رأيتُ رجلًا له  الأبعاد الجسدية نفسها، يرتدي بذلة، ويمشي مشيته ذاتها. لكنَّ هذا الشبح لم يتوقف ليُلقي عليَّ السلام، وهذا يعني أنه ليس هو. ليس صديقي الكاتب والأكاديمي بهاء عبد المجيد. لو كان هو، ما كان ليتجاهلني أبدًا، مهما كان الليل حالكًا. أكملتُ أنا أيضًا المسير، ولو دون إرادتي، في الاتجاه الآخر، التفتُّ مرة واحدة وأخيرة إلى الخلف، كي يقتنع عقلي، الذي يحتاج دائمًا إلى دليل، أنه ليس هو.

رحل بهاء عبد المجيد، المولود هذا الشهر في يوم 5 أغسطس/ آب، بغتة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بعد أيام من استغاثة قصيرة وضعها على فيسبوك طلبًا لاهتمام طبي فعّال، يُنقذه من الإصابة بفيروس كورونا.

سرتُ حتى بائع الصحف، كنتُ أحس أني سأتلقَّى عنه خبرًا، أنه يريد أن يقول لي شيئًا، أن ظهوره الخفيف لم يكن عشوائيًا. اشتريتُ صحيفة الأهرام إبدو، وأنا أُخرِج المال من طرف حقيبتي، وقعتْ عيناي على عنوان ترانت سيس بغلاف غريب وجذاب، لكاتبة مغربية اسمها مليكة مُستظرف. قلتُ لعل الرسالة تكون في الكتاب، وقررتُ أن أشتريه. حاولتُ أن أتفاوض مع البائع على السعر، فمضى مُتكبرًا، وأنا لمتُ نفسي، على أني وجعت دماغه، هو الذي يقف في الشارع شتاءً وصيفًا، يتحمل البرد القارص، والحرّ الذي لا يُحتمل. دفعتُ حساب الكتاب والجريدة، ثم رحلتُ.

قرأتُ عدة أسطر من القصة الأولى، فامتننتُ على الفور لأني تعرفتُ على مليكة مستظرف. لا تختبئ المواهب الحقيقية طويلًا، تفضحها بضع كلمات. خطر على بالي لو أن بهاء حي، لكنتُ طلبته على الموبايل، وحكيتُ له عن اكتشافي الجميل. لقلتُ له سأُعيرك الكتاب بمجرد أن أنهيه. هو الذي كان يُحب دائمًا هذا النوع من المفاجآت، ولم يكن يخجل من التعبير عن إعجابه الأدبي بعمل كاتب أو كاتبة، دون اعتبار للمُجاملات التي تُغرق الوسط الثقافي، أو المصالح التي كما يقول المثل تتصالح علنًا وبلا حياء، أو لكونه أستاذ جامعة، مُدرسًا للأدب الإنجليزي في جامعة عين شمس، وينبغي أن يُعامل الآخرين من مسافة. هو الذي كان يُشاركني حوارات، ليس فيها شيئًا سوى الأدب. لقد كان طيّبًا، كريمًا، ودودًا، حتى مع أولئك الذين لا يراعون ودًا، حتى مع الذين لا يؤمنون بالمساواة، ويتوهمون أن العالم ينبغي أن يخدمهم دائمًا، لسبب مجهول. على الصف الآخر من الطريق، رأيتُ بمحض الصدفة يافطة صيدلية تُضيء الظلام الزائد للشارع، مكتوب عليها بخط واضح: صيدلية د. بهاء. أغمضتُ عينيّ وبادلتُه سلامًا بسلام.

لعل الرابط بين مليكة مستظرف وبهاء عبد المجيد هو الطموح الأدبي الكبير، والرحيل السريع أيضًا، الرحيل قبل تحقيق هذا الطموح. لكني أُفضِّل الكتابة عن مليكة في وقت لاحق.

بعد أن أعلنوا خبر الوفاة الذي لا يُصدَّق في ديسمبر، قلتُ على الأقل ستُقرأ روايته الأخيرة القطيفة الحمراء، كما كان يُحب أن تُقرأ، وسيُكتب عنها. لكن لم يحدث سوى الصمت، مع استثناءات بسيطة على كل حال. في يونيو/ حزيران الماضي، أُعلن اسمه ضمن الفائزين بجوائز الدولة، حصل على جائزة الدولة للتفوق فرع الآداب، جائزة مُستحَقة ومتأخرة. تجدد انتظاري، الآن سيهتمون بروايته الأخيرة، سيُعيدون قراءة مشروعه الأدبي كما كان يتمنى، سينشرون عنه القراءات، سيلفتون الاهتمام إليه، وستطلب كُتبه المكتبات، لكن هذا أيضًا لم يحدث، حتى الآن، ومازلتُ أنتظر أن يحدث.

 

غلاف رواية قطيفة حمراء

في مايو/ أيار من العام 2019، أرسل لي عبد المجيد قطيفته الحمراء، طالبًا مني أن أقول له رأيي بصراحة. تأخرتُ حتى قرأتُ، لم يغضب مني، بعذوبة كان يُذكرني بالفصول التي تتعاقب وأوراق الشجر التي تسقط وتتجدد، بينما أنا لا أقرأ. في النهاية بدأتُ أقرأ، التقينا عدة مرات، في  كوستا شريف، تكلمنا، أخبرني أن القطيفة الحمراء هي الجزء الأول من ثلاثية روائية، يحلم بها. اقترحتُ عليه أن يحتفظ بإحدى الشخصيات إلى الجزء الثاني، كي يحافظ على ما اعتقدتُ حينها، أنه تماسك النص. هل كنتُ سأبقى على رأيي إذا علمتُ أنها روايته الأخيرة؟ وكيف كان ينبغي لي أصلًا أن أعلم؟ قال لي إنه سيُفكر في كلامي، ظننتُ أنه يُريد أن يكون لطيفًا معي، فقد كان يُحب هذه الشخصية كثيرًا. قلتُ إنها تستحق رواية بحالها، ألا تكون على الهامش، لكن الأمر كله لك.

في أواخر 2019، صدرت القطيفة الحمراء عن منشورات إيبيدي، قلتُ له ينبغي أن نحتفل، وعدني أن يوقع لي نسخة، لكن كورونا سبقتنا، حتى هذه اللحظة لم أكن قرأتُ الرواية بصورتها النهائية. في الأثناء رحل أخوه الأكبر، حزن ذلك الحُزن الذي يُقرِّب من الموت، قلتُ له كلامًا فارغًا عن ضرورة التماسك من أجل أفراد أسرته. الفكرة الوحيدة التي وجدتها تُخفف عنه، كانت أن يُكمل كتابة تاريخه العائلي، في الجزأين التاليين على القطيفة الحمراء، هنا فقط استعاد صوته بعض حيويته. في حواره مع المصري اليوم المنشور في 20 مارس/ آذار 2020، يصف بهاء عبد المجيد القطيفة الحمراء بـ"الرواية السِيْرية"، لأنها تحمل جزءًا من تاريخه الشخصي والعائلي، لكنه يرفض اعتبارها أيضًا سيرة ذاتية بالكامل، تاركًا لنفسه هذا الهامش الحُر.

بعد إعلان حصوله على الجائزة، درتُ على مكتبات وسط البلد، بحثًا عن القطيفة، زعلتُ لأنها لم تكن في كل مكان، كما توقعتُ أو كما تمنيتُ، في النهاية وجدتها عند مكتبة الشروق فرع وسط البلد. أعدتُ قراءتها، وكأنها المرة الأولى، ثم سمحتُ لنفسي بكتابة هذه المراجعة السريعة.

ثمة ما نقوله

يستهلّ بهاء عبد المجيد روايته بعبارة لديستويفسكي من الجريمة والعقاب "متى تدخلت العناية الإلهية في الأمر، لم يبق ما نقوله". وهي عبارة تُقرأ اليوم، على غير ما كان يرمي إليه الكاتب بالطبع، إذّ تتحول من عَتَبَة نعبر من خلالها إلى عالم شخصياته المُعذَّبة، أبطال الرواية، إلى رثاء أيضًا لحال الكاتب الموهوب، الذي ينقطع صوته بغتة دون أن يتمكن من إنهاء أغنيته.

أما مُفتتح الرواية ففيه يقول"ولدتُ في عام الهزيمة، والتحقتُ بالمدرسة عام الانتصار، وبلغتُ الحلم يوم اغتيال الزعيم، وأكتب تاريخي في وقت مشاهدة الكرة الأرضية تدور في فلك الكوكبية"، عبارة تُحدد، ليس فقط معالم الطريق الذي سيَتكبّد بهاء عبد المجيد عناء حفره، طوال الرواية، لكن أيضًا الهَمّ الرئيسي للذات الروائية في بحثها المُستمر عن موقعها من العالم، من التاريخ الكبير للبلد، أو التاريخ العام، ثم التاريخ الأصغر، وهو تاريخ العائلة، وصولًا إلى تاريخ هذه الذات نفسها، وهو تاريخ غير واضح، تختلط أحداثه باستمرار، أو على الأقل تفقد وضوحها بالتدريج كلما ازدادت سنوات العُمر، تاركةً بذلك خوف مُقيم من الزوال والضياع.

تنطلق حكاية هذه الذات من عهد الطفولة. صغير وسط صغار آخرين، تمتد أيديهم إلى طبق للفول، لا يُسمن ولا يُغني من جوع، يصف المشهد "... على طبلية غير منتظمة الأقدام"، و"أمتطي الطاولة كأنها أرجوحة"، هذه الحركة الأخيرة، هي الدالّة الوحيدة على البراءة، في مشهد عوز مؤلم يُلقى بثقله على الرواية من جهة، وعلى بدايات تَشكُّل حساسية شديدة للذات تجاه عالم غير آمن، ربما منذ الوصول المُبكر إليه.


اقرأ أيضًا: حسن رياض: "عُمر عدَّى" في أثر "بكرة الأخضر"

 


يتحدث بهاء عن الأب، العامل في مصنع، المؤمن إيمانًا مُطلقًا بجمال عبد الناصر، ويستشهد الكاتب في مقطع من السرد، بخطبة كاملة للزعيم الراحل، تدليلًا على ذلك الانتماء الروحي لرئيس مصر، لكنه أيضًا، الأب الذي لا يستطيع أن يُعيل أسرته، إلا بالكاد، العنيف الذي قد يعتدي على الأم، في ثورته العصبية أمام الأبناء، ويتحدث عن هذه الأم، الرقيقة التي تُحب مُشاهدة الباليه، ولا تندم على شيء سوى أنها لم تُتم تعليمها لتصبح راقصة باليه. يقول "لم تجلب لي أمي هدايا، ولكن أحضرت لي جهاز كاسيت أسمع من خلاله الموسيقى، وتقول (الموسيقى هتخليك مبسوط)".

هذه السعادة عزيزة، فالزمن الكبير هو زمن اعتداء القوات الإسرائيلية على مدرسة بحر البقر وبعض المواقع الاستراتيجية في أبو سلطان، والزمن الشخصي يشهد غياب الأم شهرًا، قبل فَقْد الأخ الصغير حسن، ولم يتجاوز العام، بسبب الإهمال، "ثم تمتم الطبيب كأنه يهذي: (النكسة سببها الإهمال)".

إلى إدراك الجسد

يتعرف السارد الطفل حسام في تلك الفترة على غيابات الأم المُتكررة، وقلق النساء الأخريات، اللواتي يُعانين بدورهن من غياب رجال آخرين، ويؤدي هذا الاحتياج إلى الحنان سواء من جانب السارد أو من جانب النساء الأخريات، إلى إدراك الجسد، كطريق لامتلاء عابر، يستحيل هو الآخر مع الوقت، نوعًا من العذاب. يصف السارد الجمال في صِيغتيه، النسائية والرجولية، ويُعوّض بالخيال الحكايات التي لم يكن يجاهر بها الناس، لكنها منذ الآن تمثل عالمه، يقول "ملأه الاشتياق ورغب في الارتشاف من شفاه وجسد (هنية) الذي تسكنه نار الرغبة الآتية من منطقة بعيدة من جهنم".

هناك أيضًا الشقيقة جميلة، التي عانت من مرض لِين العظام في صغرها، علامة أخرى على الفقر الشديد "ولكنها مع ذلك كبرت واشتهاها البشر في الحارات والطرقات"، وهناك خليل الشقيق الشقي، الذي يتشاجر في الحارة، ويرفع صوته ويعتبره السارد، نقيضه. خليل قوي وحُسام هزيل بريء، يرتبط بالحيوانات الصغيرة، لأنه يرى فيها نفسه "أحببتُ الطيور، وخاصة الكتكوت؛ ربما لأنه طائر بريء مثلي تمامًا في طفولتي، ولكني لم أكن أستطيع أن أمسكه بيدي، نبضه وجسده الساخن يُصيباني بالرعشة والرهبة"، هذه الهشاشة الجسدية، والروحية، إذا جاز التعبير، هي أيضًا من الصفات التي ستُلازم السارد، وسيتعرف من خلالها على العالم، يقول"لا أعلم لماذا يستضعفني الناس؟! ولماذا يدافع عني الناس أيضًا ويدرءون عني الظلم؟".

تتحرك الرواية في زمن دائري، يترك كل الخطوط مفتوحة باستمرار، مُستدعيًا الأحداث من الذاكرة دون أي ترتيب، وفقًا لأسلوب تيار الوعي، تأثرًا بكتابات جيمس جويس وفرجينيا وولف التي كان بهاء عبد المجيد مفتونًا بها، ويُدرّسها في كل مكان، الجامعة وورش كتابة الرواية.

يكتشف حُسام الأدب، ليصبح جزءًا من عالمه، وحدها الكلمات تُناسب هذا التردد المُستمر إزاء العالم، يقول "دخلتُ كلية الآداب، لأدرس الأدب الإنجليزي، ولم أتخيل نفسي يومًا مُعلمًا، كنتُ أحلم بالفن والموسيقى أو الطب... ومع ذلك اكتشفتُ أن الأدب أصبح يُناسبني تمامًا".

عبر الخطيئة

تنهض فلسفة الرواية في قسم كبير منها على رؤية العالم، من خلال فكرة "الخطيئة"، وترتبط هذه الخطيئة، منذ بداياتها الأولى بفكرة الاعتداء، التي تجعل صورة الجنس سلبية عند البطل " رأيته ذات مرة يضاجع فتاة صغيرة تقترض منه بعض أكواز الذرة؛ لتصنع منه طحينًا لإخوتها الصغار الذين تعولهم بعد ما مات أبواها. دُهْشت بمشهد الجماع وأصابني الهلع. وتزامنت دهشتي مع دمعتين نزلتا على خديّ الفتاة الفقيرة. كلما رأيتُ خُصًّا تذكرتُ هذه الحادثة".

لكن هذا الاعتداء لا يُمثل الصورة الوحيدة التي تتكون لدى البطل عن الجسد، فهناك حكاية كيدة، التي تشهد على تمازج مفاهيم مثل "الشرف" و"تلطيخ الشرف" و"الغواية"، في الرؤيا العامة التي تحكم الرواية، ويميل عبد المجيد أحيانًا إلى جهة الموروث الشعبي الذي يُدين المرأة أكثر من الرجل في الممارسة الجنسية، يقول مثلًا "فالمرأة التي عرفتها لم تكن غير معاناة في حياتي من أختي، حتى كيدة وعلياء كلتاهما خلق لي خوفًا من الارتباط".

لكن حتى هذه الصورة السلبية المُتشككة في المرأة، الخائفة منها، تتراجع أحيانًا إلى نوعٍ من التعاطف الصامت غير المشروط، أو قد ترتد إلى استمتاع لزمن قصير جدًا، دون إدانة للذات أو للمرأة، وهي الفكرة التي يبني عليها عبد المجيد اختياره لعنوان الرواية، يقول مثلًا "ثم في ركن مُعتم ونسمة باريسية تهبّ علينا امتزجت أحاسيسنا، وقُبلة طويلة دامت دهورًا، انتهت عندما نادتني أشعة الشمس من فوق فراشها المُغطى بمفرش من القطيفة الحمراء"، أي أن القطيفة الحمراء، هي الود الصافي الخالص من الإثم ومن كراهية الذات.

يناير: أول السنة/ أول الأمل

قرب النهاية، يتحوّل قلق السارد من العالم إلى الرواية نفسها "سأكتب، ولن أمل الكتابة، أنا لا أتذكر ما أكتب، ولا ما كتبتُ، ولا أعرف ما مصير هذه الكتابة"، تكاد ثورة يناير تكون هي النقطة المُضيئة الوحيدة التي تحمل السارد مجددًا إلى كهف نفسه، وتُجدد شعلة شغفه تجاه الحياة التي تضيع بين الالتزامات اليومية والصراعات عديمة الجدوى.

كان ثمة وعود، بجزء تالٍ، ربما تتجرأ فيه الذات لتحكي عن نفسها، من خلال نفسها، وليس عن طريق حكايات الآخرين. في القطيفة الحمراء يُحوِّل بهاء عبد المجيد الوجود الشخصي إلى مَلحَمة، ليس لها من خلاص سوى الأمل "وأنا كما أنا أسعى إلى الكمال وأسقط في النقصان دومًا، ولكن هناك حياة قادمة ستكون فيها روحي أسعد بالتأكيد".

ربما لا يعوضني شيء عن فراق بهاء عبد المجيد، ويحزنني تجاهل القطيفة الحمراء حتى الآن، لكنني أثق في رجاءه "حياة قادمة ستكون فيها روحي أسعد"، فلعل روحه تنعم بالسعادة والسلام في الحياة القادمة، ولعل كتبه تحظى بقراءة تستحقها هذه الحياة.