تصميم، أحمد بلال، المنصة
صارت مصر مزروعة بعشرات الألغام ذاتية التكاثر، وكلما تكاثرت أصبح الشللُ حكمةً، وانتظارُ الهلاك بالموت البطىء خيرًا من جسارة السير فوق أحدها.

تحرير الضوء: عندما سقطت أوطان الصورة

منشور الأربعاء 3 نوفمبر 2021

في التاسع من أبريل/ نيسان 2003 ظهر صدام حسين في حي الأعظمية ببغداد بشعر أسود كالليل، وفي  13 من ديسمبر/ كانون الأول ظهر في أيدي الجنود الأمريكيين، عقب إلقاء القبض عليه في قرية قرب مسقط رأسه تكريت، وكان شعره على سواده، لكن لحيته كانت بيضاء شعثاء.

وزير إعلامه محمد سعيد الصحَّاف كان أسرع في الوصول إلى المشيب؛ إذ ظهر في مؤتمر صحفي عشية سقوط بغداد بكامل صبغة شعره، يعلن انتحار الجنود الأمريكيين بالآلاف فوق أسوار بغداد، ولم يلبث أن سلَّم نفسه للغزاة المهزومين في خطابه، وظهر في الشهر ذاته بشعر أبيض كالثلج النقي في تليفزيون العربية.

صبْغ الشعر بالأسود سمة لا تخص صدام ورجاله فحسب، كل السلطة المطلقة تتشبث بمظهر الشباب الأبدي، وهذا هو المظهر الشخصي والبسيط لأيديولوجيا الزيف التي تفرضها مثل هذه السلطة على البلاد، يخلقون من خلالها أوطانًا خيالية من الصور البراقة تخفي الأوطان الواقعية تحتها.

كان عراق الصور الذي صنعه صدَّام يشبه كوكب الأمير الصغير؛ يتسع له بالكاد لا تبتعد الكاميرا عن قصوره إلا لتصاحبه في جولاته المُخططة جيدًا بمساراتها والبشر الذين سيلتقيهم فيها، لذلك كان ظهور الفقر بعد انهيار نظامه مدهشًا، كدهشة ظهور الديكتاتور ذاته في أيدي الجنود بجرح صغير فوق حاجبه.

وبعد عقدين من الزمان لم يزل مدهشًا وجود بيوت بائسة أقرب إلى أكواخ بحوائط من مكعبات الإسمنت وأبواب من الصفيح وأسقف من الزنك، في بلد يتهادى على سطحه نهران وفي باطنه بحر  من النفط. 

لم يسفر الغزو عن تحرير العراق كما وعد بوش الابن، بل عن تدمير الكثير من منشآت العراق الواقعي، والتبدد الكامل لوطن الصورة الذي صنعه صدَّام.

ورغم الفارق الكبير في السياق بين سقوط صدام وتصدع عروش الطواويس الأخرى في الربيع العربي، إلا أن النتيجة واحدة: لم تتحرر الأوطان الواقعية، لكن أوطان الصورة كانت سريعة الزوال؛ تبددت بمجرد استعادة كاميرات المصورين حريتها وأظهرت ما كان مخفيًا.

كان هناك تفاوت بين الأنظمة في قمعها للصور قبل 2011. احتل القذافي الصدارة، حيث لا صورة تخرج من ليبيا إلا صوره، في أزيائه الطاووسية ألوانًا وفخرًا، بين حارساته المفتولات لابسات الكاكي. 

عندما أراد العقيد أن يمد ثورته إلى الأبد عمد إلى تأنيثها من خلال الحرس الأنثوي الذي لم يدخل في تجربة دفاع حقيقية عنه، لكن إحاطة نفسه بمئتين وثلاثمائة امرأة قوية في الثياب العسكرية كان من شأنه أن يخلق فانتازيا القوة الإيروتيكية، في استدعاء لخيالات المحاربات الأمازونيات التي أبدعت السينما الهوليوودية في تقديمها. 

كان الحرس النسائي مركزًا للاستيهام الخيالي بالنسبة للجمهور، ومصدرًا لحسد شهريار الجديد. كان لا بد من التحلي بكم لا محدود من حسن النية كي يتجنب أي رجل تصور شكل العلاقة بين الزعيم والحارسات. وما أُعلن بعد سقوطه من فظاعاته الجنسية ودور الحرس النسائي فيها كان أكبر من من كل خيال. 

هل كانت المتعة دافعه الوحيد من تشكيل الحرس النسائي؟ هل كان هجائية للرجال؟ هل أراده مجازًا لالتفاف الليبيين حول ثورته الدائمة نساءً ورجالًا؟

التحقق من مرامي العقيد لم يعد مهمًا الآن، لكن المهم والمدهش أن أمازونيات القذافي تبخرن مع بداية الاحتجاجات ضده، كما لو أن كل ما فات كان فقرة في سيرك. وكان اكتشافنا تواضع شكل المدن وتواضع الخدمات في ليبيًا دهشة أخرى، لكن ما أدهشني شخصيًا كان ظهور أطفال في الصور التي باتت تخرج بحرية من ليبيا.

 كانت ليبيا الواقعية اختفت تمامًا خلف خيمة العقيد وسياج الأنوثة الفتَّاك حولها. 


اقرأ أيضًا: لعبة الطغيان: رحلة القذافي من "جهنم" إلى ماسورة المجاري


المرأة رمز فاتن لكل الطغاة بوصفه مظهرًا غير مكلف لمدنية وإنسانية الحكم، كلهم يرسمون حدود أوطانهم الخيالية من صور النساء، لا يقتصر هذا التدبير على ذلك الجيل المغدور ولا على الديكتاتوريات العربية وحدها؛ فالسلطة التي لا تؤنث لا يمكن تسويقها كسلطة خيِّرة على أي نحو. 

المستبدون الأكثر فطنة من القذافي لا يلجأون إلى مبالغة الحرس النسائي، إنما يوظفوهن وزيرات، لا تهم الكفاءة بل الصورة؛ طلة المرأة العصرية.

وزيرة السعادة الإماراتية عهود خلفان الرومي أثناء قسم يمين الوزارة. الصورة: تويتر 2016

لم نر صور الفلاحة والبدوية وصور العوز في الشمال والجنوب السوري إلا بعد انفلات الأمن. ولأنه لم يسقط تمامًا ظل النظام السوري محافظًا على تأنيث صورته للتنويه بعلمانيته في مواجهة المقاتلين المتشددين.

ظلت الأنثى تتصدر الحديث باسم النظام، خصوصًا للإعلام الأجنبي، وبخلاف بثينة شعبان، كانت هناك متحدثات أخريات مثل سميرة مسالمة رئيسة تحرير جريدة تشرين التي أبعدوها عن منصبها بعد أن ظهرت مرتين أو ثلاثًا على الشاشة. في آخر ظهور لها دافعت عن النظام كما ينبغي، لكن دمعة خانتها ولمعت في عينها حزنًا على قتلى عائلتها وشباب محافظتها في درعا، فلم يُغفر لها ذلك.

وكشفت الأحداث عن زيف تمدُّن النظام باستباحته أجساد الثائرات قتلًا واعتقالًا واغتصابًا وتصفية معنوية باتهامات أخلاقية.

كل الأنظمة في "دول الربيع" فعلت الشيء ذاته بهذه الدرجة من الوحشية أو تلك. وفي محاولتها للتشبث بالسلطة حاولت بكل ما تبقى لها من قوة أن ترسم للمرأة صورتين متناقضتين. حاولت أن تبيع للغرب صورة شعوبها الخطرة عبر التركيز على صور المنقبات في ميادين التحرير، بينما تُروَّج في خطابها المحلي الصورة الضد؛ صورة المرأة المتهتكة في الميادين ذاتها، لعزل الثوار عن مجتمعاتهم المحافظة.

لم يكن في حسبانهم طبيعة عصر التكنولوجيا التي وضعت الكاميرات في أيدي الثوار أنفسهم، وطبيعة اللحظة السائلة التي مكَّنت المراسلين الأجانب من مخالفة الحدود التي كانت مرسومة لوجودهم في تلك الدول من قبل.

صورة فتاة سمراء ذات رداء أحمر محمولة على أعناق رفاقها الشباب تهتف للحرية أسقطت ادعاءات زين العابدين بن علي ضد ثورة تونس، وكان انهياره السريع وخروجه هو الأقل خسة من باقي الساقطين حتى اليوم، ذلك لأن زين العابدين، وإن تطابق نظامه مع كل الأنظمة الأخرى في الكثير من السمات، كان مخلصًا لعلمانيته الاجتماعية ولم يلجأ إلى التشويه الأخلاقي للمرأة كما فعلت بقية الأنظمة.

في أيام مقاومته المعدودة تفوق القذافي بشكل منقطع النظير، وفي مصر تلازمت محاولات بث الرعب من الغول الإسلامي مع التشويه الأخلاقي للثوار. كانت كاميرات القنوات الحكومية والقنوات العربية المساندة لمبارك توزع وقتها بين الزوايا الخالية وتجمعات المحجبات والمنقبات. وفي الوقت نفسه تستضيف تلك القنوات فنانين ونجوم كرة قدم مقربين من النظام يتحدثون عن حفلات جنس وتحشيش جماعية تجري ليلاً في خيام ميدان التحرير. ذلك الزعم، وإن استهدف ذكور وإناث الثورة إلا أنه لا يصيب إلا النساء خاصة؛ فالعبث الجنسي في المجتمعات العربية سبب لفخر الرجل لا إدانته. وهكذا تضافرت محاولة الضغط على الأسر المصرية لحبس بناتها وإفقاد الثورة نصفها الحلو.

كانت المحجبات المسيسات وغير المسيسات جزءًا عزيزًا من مكونات الثورة المصرية، لكن الزوايا الأخرى من الصورة كانت تعج بحضور السافرات من الكاتبات والفنانات وأعداد كبيرة من الشابات، وكان من الصعب إخفاء كل هذا التنوع.

وبينما انتهى ربيع اليمن إلى المصير الأسوأ، لم تتعرض المرأة اليمنية لذلك الحجم من التشويه الذي نال شقيقاتها في بلاد الربيع الأخرى، ربما لأن علي عبدالله صالح لم يكن يمتلك آلة دعائية كالتي امتلكها مبارك أو الأسد. ومن البداية أدرك العالم أن النقاب اليمني اجتماعي أكثر منه ديني. كانت مبرقعات الحرية أشبه بمبرقعات مصر  في ثورة 1919، صورة تؤكد أن الرأس المغطى ليس أقل ذكاءًا أو تطلعًا إلى الحرية من الرأس السافر.

المستبد يقلد ولا يبتكر. وهذا الاستخدام السياسي لصورة المرأة بين التديين والتعهير، استند إلى تراث الغرب في تزييف صورة المرأة العربية وإضفاء الغرائبية عليها.

في لوحات ونصوص المستشرقين كان الجسد الأنثوي العربي يتأرجح بين حدين متناقضين: العري الكامل في الحمامات العامة والحانات وأسواق الرقيق، والتغليف الكامل بألف طبقة من الملابس وألف رتاج على باب الحرملك المفعم بالأسرار. وبين حدي الكشف والإخفاء كان هذا الجسد الأنثوي المؤدلج أحد أهم المعابر التي مرت من فوقها جيوش الغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لاحتلال الشرق بمزاعم الإحسان إليه بتنويره.

 لكن الزمن اختلف، ولم يتمكن النسخ البليد لخطاب الاستشراق من الصمود في الربيع العربي، وتحررت الصور. لكنها الشيء الوحيد الذي تحرر، للأسف.


نص جديد، يصدر في الطبعة المزيدة من كتاب الأيك بداية العام 2022.