مشهد من ميكنج الفيلم- الصورة: IMDB

Don't Look Up: لا تنظر لأحد واسخر من الجميع

منشور الأربعاء 5 يناير 2022

يقرر بعض المبتدئين في السينما أثناء صناعتهم لأفلامهم القصيرة الأولي، وبالذات إن جاءت كختام لدارستهم السينمائية، أن ينهوا أفلامهم بمشهد مرح، يكون ملخصه أن تراهم مع فريقهم.

ينتهي الفيلم الروائي أو التسجيلي الذي لا علاقة لموضوعه بمن صنعه، ثم تظهر العناوين الأخيرة، ويطل في أثنائها أو بعدها فريق الفيلم أثناء العمل عليه، أو ممارسًا لأي فعل مرح.

نستطيع أن نري هذه التحية النهائية طفولية أو مراهقة، وكانت تثير قديمًا، حين كان يتم التصوير بفيلم سينما خام، بعض الضيق لدي أفراد من ذلك الفريق نفسه، فمدارس ومعاهد السينما كانت تمنح طلابها علبًا محدودةً من الخام السينمائي لتصوير مشاريعهم، فيضطر فريق الفيلم لعمل الكثير من البروفات والتحضيرات قبل تصوير كل لقطة، لتوفير المادة الخام لتصوير اللقطة المحتمل أن تكون الصحيحة، ويتم اختيار الشخص الأسرع كي يقوم بعمل الكلاكيت أمام الكاميرا، تجنبًا لإهدار أمتار من الخام في تصوير الكلاكيت الذي نحتاجه لاحقًا في عمليتي مونتاج الصورة والصوت. كان منبع الضيق أن تكتشف بعد أيام من الإرهاق أن المخرج وفر عدة أمتار لتصوير نفسه وفريقه على شريط السينما، بدلًا من إعادة تصوير لقطة كانت تستحق الإعادة.

يعبر هذا الفعل عن شعور مركب بتقديس المادة الخام للفيلم السينمائي، والرغبة في الخلود عبر تسجيل صورتك عليه، وإحساس بتاريخية الإنجاز الذي تحقق بمجرد إنهاء فيلم سينمائي، أيا كان مستواه، وبالتالي فأنت تستحق أن تظهر في ختامه. وسنعود لهذه النقطة لاحقًا.

أن تنظر وأن ترى

يبدو الإعجاب الواسع بفيلم لا تنظر لأعلى Don't Look Up (2021)، إخراج آدم مكاي، كدلالة عما هو أبعد من مجرد "المتعة" التي يحققها، ومن التقييمات النسبية بطبيعتها لنوعية الكوميديا المقدمة، أو ما يمكن عدّه تسلسلًا لـ"إفيهات" تطول لأكثر من ساعتين، بداية ممن يرونها كوميديا عظيمة، وصولًا لمن يرونها عديمة المعنى ومكررة وممطوطة. فهناك وعد أساسي ومركب يمنحه صناع الفيلم لمشاهديه منذ البداية، وعد بالضحك والتسلية، ووعد بأن يروا عالمهم البائس بعد إضافة المبالغات عليه.

لكن السؤال الذي سيظل هائمًا لدى بعض المتفرجين، ولن يلتفتوا إليه خلال الفرجة، بالرغم من تضمينه عنوان الفيلم، هو "هل سأنظر أم سأرى؟".

 

الإعلان التشويقي للفيلم


الرؤية المقصودة هنا هي التأمل، أو مشاهدة العالم برؤية نقدية، أو أن أرى هذا العالم كي اكتشفه من جديد وكأنني أراه للمرة الأولى، أم نكتفي بأن يقدم لنا الفيلم ما يناسب الحالة المزاجية العدمية السائدة عالميًا، التي تقترب من الإحساس باللا جدوى واليأس تجاه البشر وتجاه عالمنا؟ وهي الأسئلة التي تحضر بوضوح مع نهاية الفيلم.

يقترب لا تنظر لأعلى من عدد من الحالات/ الحقائق التي نعرفها عن عالمنا، من بينها فساد وأنانية رجال الأعمال الكبار، وذاتيتهم المريضة المتضخمة، وتصورهم أنهم منقذون للبشرية، بينما هم غير قادرين على النظر في عيني أي شخص أخر ولو كان مجرد طفلة تشهر حبها لهم، فلا يهمهم سوى إنقاذ ذواتهم ومجدهم المالي.

هناك أيضًا السياسيون الفاسدون والمصابون بحالة من الجهل والتفاهة والاستخفاف بالبشر، وستجد العلماء غير القادرين على مخاطبة الناس ببساطة، فيرتبكون، أو يكتفون بالصراخ. وهناك، وكمحور للفيلم، وسائل الإعلام الكبيرة التي تعتمد على التسطيح والتفاهة والنكات السريعة كسلعة أساسية لبيعها، دون أن يستمع أحد للآخر بشكل حقيقي، ودون إعلام الناس بشيء جديد يخص حياتهم، فيصبح الاعتماد الأساسي على نسب المشاهدة وردود الأفعال التالية على ظهورك الإعلامي، عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

مجرد أن تشكل هذه الحالات/ الحقائق وغيرها مادة الفيلم الأساسية فيما يشبه الكولاج، يضيف جانبًا آخر للوعد الذي نتلقاه كمتفرجين من صناع الفيلم، وهو أننا سنرى نقدًا لكل هذه الحالات وتفكيكًا لها، لفهم من أين أتت وكيف سيطرت على حياتنا.

يبدو صناع الفيلم وكأنهم ينتقدون بالفعل كل هذه الحالات، فيقومون بتصوير تفاهة الشخصيات المعبرة عنها، وجهلهم، واستخفافهم بكارثة ستحل على البشرية وتقضي عليها. لكنهم لا يتجاوزون هذه الشعرة الرقيقة التي تحول السخرية، أو هذا النوع من الهجاء الساخر، إلى نقد حقيقي؛ إلى رؤية. فنقف معهم عند القشور، عند مستوى "التسخيف"، أن نرى الشخصيات كنماذج مصمتة، على درجة من التسطيح تفقدها أي أبعاد أو تناقضات، وربما تضحك مما يفعلونه دون أن تستطيع أن ترى درجة قبحه الحقيقية. وهو الفرق المحتمل بين أن تنظر وأن ترى.

القفز من مركب العالم القبيح

اعتدنا عند المآسي أن نقرأ ونسمع تعليقات عدمية تعبر عن رؤية شديدة السوداوية تجاه العالم، من نوعية أن الصادقين لا يحتملون عالمنا فيقررون مغادرته، أو أن الأكثر نقاء رحلوا، أو أن العالم يستحق الفناء... إلخ. وهي تعليقات إن صدقت مضامينها فعلًا فلن تملك سوى أن تقفز من مركب العالم القبيح، الذي يسير باتجاه نهايته المأساوية الحتمية، كي تلحق بمن رحلوا وكانوا الأكثر نقاء وصدقًا، وهي الحالة نفسها التي يكرسها فيلم لا تنظر لأعلى، فمن هذا الأعلى ستأتي نهايتك، ولا تنظر إلى أحد، لا تنظر إلى من يقف بجوارك، فالجميع على نفس درجة قبحك أو غفلتك، والعالم سينتهي، وليس هناك مهرب لعالم أفضل.

لا ينحصر هذا الهجاء الساخر، وهذه العملية من التسفيه، في هذه القوى الثلاثة التي تملك السلطة في الفيلم: السياسيون، والإعلام، ورجال الأعمال، بل تمتد إلينا جميعًا، إلى البشر ككتلة، فنبدو نحن، من لا نملك سلطة، كمجرد قطيع غوغائي، قليل الحيلة، ليس لديه ما يفعله لإنقاذ الحياة على الكوكب سوي التصفيق والهتاف لطرف ما، ثم التحول للطرف النقيض. وعند الإحساس بالخطر، لا نتحدث معًا، لا نبحث عن مخارج، لا نطيح بالأنظمة ونغيرها، بل نصدق أية أكذوبة تقال لنا أيا كانت درجة سذاجتها، ونتحول فجأة إلى العنف والنهب وإشعال الحرائق والتخريب، أو نتوغل أكثر في الغياب عبر الكحول أو المخدرات أو الجنس، ونغفل عن مهمة إنقاذ هذا الجمال المطلق الذي يتكرر ظهوره في الفيلم عدة مرات، ممثلًا في حشرات وحيوانات وطيور، ستكون ضحية هذا الخراب الكوني.

 

أغنية الفيلم


لكن.. أين البشر؟ ألا يستحقون النجاة؟ لن تجد في الفيلم هذا التعاطف مع البشر بأجناسهم المختلفة، لن تراهم على مستوى جمال الحيوانات والحشرات والطيور، ستراهم مجسدين في ثلاثة نماذج: الفاسدون مالكو السلطة، أو أفراد أجهزة القمع، أو غوغاء مخربون، وأحيانًا أشخاص في حالة غياب ولا مبالاة. لكن هناك ما يمكن تسميتهم بالفئة الناجية، أو الفئة التي تحاول إنقاذ البشرية، مُشكلة تحديدًا من ثلاثة علماء: المرأة التي اكتشفت المذنب وسمي باسمها، ورئيسها الأكاديمي الذي يتحول لأشهر عالم في أمريكا، ولضرورات الصوابية السياسية تتم إضافة رجل أسود يعمل في وكالة ناسا. يضاف إلى تلك الفئة الناجية عائلة الأكاديمي، وشاب متشرد ومتدين وسكير يرتبط بالعالمة الشابة.

يتم اختصار كل الخيرين والجادين في كوكبنا في هؤلاء تحديدًا، في سبعة أشخاص يجتمعون معًا للعشاء في نهاية الفيلم ليمنحوا بعضهم البعض الدفء والسلام في لحظة دمار العالم. لكن هذه الفئة الناجية تبدأ الفيلم وتنهيه دون أي تطور في تركيباتها، دون أن تؤثر الرحلة الدرامية المستمرة زمنيًا لستة أشهر في ملامحها، وبالذات الأبرز من بينهم، الرجل والمرأة اللذان أطلقا صرخة التحذير الأولى، فكلاهما يعاني طيلة الوقت مما يشبه الهيستيريا، ويتحايلان عليها بالمهدئات أو بالمخدرات.

الشخصية الوحيدة التي نظن مؤقتًا أنها تحولت هي شخصية العالم الرجل (ليوناردو دي كابريو)، فهو يذهب ويعود؛ يذهب ليرتبط مؤقتًا بالسياسيين ورجال الأعمال الفاسدين، وجنسيًا بالمرأة اللعوب النجمة التلفزيونية الشهيرة، ثم يعود لاحقًا إلى أسرته وفريقه الناجي دون أي مبرر درامي للذهاب أو للعودة، يقرر فجأة الانتماء لفريق السلطة والمال وأن يغرق في ملذات جنسية، ثم يعود  فجأة عنها، وفي الحالتين لن تعرف لماذا ذهب ولماذا عاد.

انتصار الله والوطن والعائلة

نجد في أغلب الأفلام الأمريكية التقليدية عددًا من المعادلات التي تتكرر وتشكل الثوابت الأيديولوجية للمجتمع الأمريكي؛ أن الشر، مثلًا، وبالذات الجنسي، يتمثل في المرأة، وبمنطق ديني فهي حواء اللعوب الشرهة جنسيًا، التي تغوي الرجل وتفسده وتخرجه من جنة العائلة، تبعده عن منطقة الأمان والنقاء المطلق، وتقربه من الهلاك، لكن التطورات الدرامية تندفع نحو طريق النهاية السعيدة والانتصار الأخير للقيم الأساسية لذلك المجتمع الأمريكي، الممثلة في ثالوث: الله، الوطن، العائلة. فتلقى المرأة اللعوب المنحلة جزاءها، وعادة ما يكون عقابًا إلهيًا يقع بالصدفة، وفي المقابل لن يعاقب الرجل، بل يعود إلى رشده، يعود إلى عائلته المجسدة لفكرة التقديس الإنجيلي للرباط الأسري المقدس، وعلى الأسرة أن تسامحه، فيتطهر من جديد ويستدفئ بها.

هذه المعادلة هي ما تتكرر حرفيا في فيلم لا تنظر لأعلى؛ هناك ثلاث نماذج نسائية أساسية في الفيلم؛ اثنان لا يخرجان عن نموذج المرأة اللعوب الفاسدة التقليدي: النجمة التلفزيونية التي تتفاخر بانتصاراتها الأهم لمضاجعتها لرئيسين سابقين للولايات المتحدة، وهمّها الأساسي هو الكحول والشعور بالإثارة الجنسية، ورئيسة الدولة التي لا تختلف عن ذلك النموذج، فتبدو متورطة جنسيًا مع عدد من الرجال، ويصل فسادها لدرجة أن تنسى ابنها في لحظة الهروب الحاسمة.

والمرأتان ستنالا عقابهما؛ المذيعة التلفزيونية بالموت وحيدة ومرعوبة ويائسة، والرئيسة بأن تكون أول ضحايا هذا الحيوان الغريب الأشبه بالديناصور الذي سيلتهم وجهها. أما الرجل الجاد والنقي الذي ضل الطريق مؤقتًا، فسيعود إلى فريقه وأسرته؛ ستسامحه الزوجة على الخيانة لتنتهي الحياة والفيلم في مشهد محبة وسلام ودفء عائلي، مع بعض العدالة العنصرية حيث يخصص رأس مائدة العشاء الأخير للرجل الأسود. ولأن الصوابية السياسية تظل عند القشور، لا يسمح لها أن تمس ثوابت الأيديولوجيا، فهي تضيف نموذج الرجل الأسود بين الخيّرين، لكنها لا تغير جوهر صورة المرأة.

أما المتشرد السكير المتدين، الذي وجد الحب والأمان العائلي بدوره، فإنه يظهر في الفيلم لتحقيق ركن أساسي من المعادلة الأمريكية، فإن كان الوطن سيختفي من ضمن الكرة الأرضية التي ستدمر، ولا يمكن أن ينتصر، لكن الله سيحضر عبر تلاوة هذا المتشرد للصلاة الأخيرة كي تنتهي حياتهم في سلام إيماني وعائلي، فتكون النهاية بعد كل الفساد والضجيج والانفلات الجنسي ملائمة للأساس الأيديولوجي اللازم للسينما الهوليودية التقليدية.

ما بعد عناوين النهاية

ينتهي الفيلم بالدمار الذي يلحق بالكرة الأرضية بعد اصطدامها بالمذنب، وننتقل عبر عدد من اللقطات لأماكن متعددة، ولأشخاص مختلفين كي نشاهد نهاية العالم، ثم تبدأ في الظهور العناوين الأخيرة للفيلم. لكن هناك المزيد كي نشاهده، تنقطع العناوين ويظهر مشهد لوصول النخبة السياسية والاقتصادية للعالم إلى الكوكب الجديد، بعد سنوات طويلة، يخرجون من حالة التجميد ليواجهوا الديناصورات الصغيرة، وتعود العناوين الطويلة مرة أخرى. وهنا يطفئ المتفرج تلفزيونه. لكن هناك لقطة أخيرة لن يراها أغلب المشاهدين، تأتي بعد نهاية هذه العناوين، لقطة للشخص الوحيد الناجي من الموت، يخرج من بين الأنقاض والحرائق، وهو الشخص الأغبى من بين كل شخصيات الفيلم التي تمت السخرية منها طيلة أكثر من ساعتين، فذلك الناجي الوحيد الذي يبدو كأبله، هو استمراريتنا كبشر، كتكريس ختامي للمزاج السوداوي السائد عالميًا.

لا ينسى صناع الفيلم أن يسخروا من السينما الهوليودية خلال النصف الثاني من عملهم، فيظهرونها تتعامل باستخفاف مع خطر نهاية العالم، وتحاول الاستفادة منه تجاريًا عبر إنتاج فيلم عن تلك النهاية، لكن صناع لا تنظر لأعلى يستغلون تجاريًا بدورهم كارثة الوباء التي يعيشها العالم، وإحساس الكثيرين ببؤس البشرية وبأن انقراضها ربما يكون قريبًا، وحالة الخوف من الموت القريب جدًا والمستمرة خلال عامين، لصناعة فيلم أصبح مادة لحديث العالم كله خلال أيام قليلة.

 

مشهد النهاية


بدأت المقال بالإشارة للعبة الطفولية في إظهار فريق الفيلم في نهايته، وهو تحديدًا ما انتظرته مع نهاية لا تنظر لأعلى، بما أنهم يستخدمون هذه العودة لمشاهد ما بعد العناوين الختامية، فمثلما سخر صناعه من الجميع، وقاموا بتشكيل ذلك الكولاج من الهجاء الساخر للبشرية، فلماذا لا يسخرون من أنفسهم ومن استغلالهم لكارثة الوباء لتقديم فيلمهم؟ كان لهذه الإضافة أن تمنحهم بعض المصداقية في تعميم هذه السخرية، وتمنحنا كمشاهدين مفتاحًا لتأمل خيارهم الفني والأخلاقي، لكنهم بغيابهم عن الفيلم أصبحوا بدورهم الناجين الوحيدين من الكارثة الكونية، بصحبة ابن رئيسة الولايات المتحدة الأمريكية الغبي.