فتى لم يتم عامه التاسع عشر، يفر بجسده النحيل أمام أفراد الشرطة، وملامحه تنقبض في تركيز يشوبه الذعر؛ خشية مصير قد يقع لو خانته قدماه، فيلحق بمئات في مثل عمره أو أصغر غيبهم ظلام السجون. الكاميرا كانت حاضرة لتسجل تلك اللحظة القصيرة وتصنع منها أيقونة للمواجهة بين الدولة وأجهزتها الأمنية من جانب، والطلاب الرافضين للبقاء بلا حق في تقرير المصير، على الجانب الآخر.
انتشرت الصورة سريعًا على الشبكات الاجتماعية وتحول الفتى ذى الملامح القلقة إلى بطل في أعين البعض، ورمز للمستقبل المُطارد في أعين البعض الآخر، بعدما ساقت الصُدفة إلى طريقه كاميرا سجلت وقائع مواجهته وعناصر "الداخلية"، خلال الاحتجاجات الطلابية التي نُظِمَت الأربعاء الماضي ضد إعادة الامتحانات المُسرّبة، وأداء وزارة التربية والتعليم بصورة عامة.
قبل دقائق من انتشار الصورة كان سيف ناصر، واحد من آلاف الطلاب المسجلين بالشعبة الأدبية للثانوية العامة، يحاول مساعدة زميلاته المحتجزات خلف كردون أمني. لكن أمر مفاجئ من قيادات الأمن المركزي بملاحقته قاد لتلك الصورة التي صارت "أيقونة" للحراك الطلابي الذي شارك فيه متظاهرًا، ضمن المئات في القاهرة والمحافظات الأخرى في ذلك اليوم، استجابة للمطالب التي تعلنها العديد من صفحات فيسبوك المنادية بإصلاح التعليم في مصر، ومنها صفحة "مبادرة تصحيح مسار التعليم المصري" التي يشارك سيف نفسه في إدارتها.
يجمع سيف بين الدراسة في مدرسة الشروق الثانوية القريبة من مسكنه في حي الورّاق، وبين العمل لإعالة نفسه حتى في أوقات الامتحانات. ربما يكون الاستقلال المادي والاعتماد على النفس عاملان متدخلان في تشكيل شخصية سيف، ودفعه لوضع معايير مختلفة لما يمكن أن يراه بطولة. فصورته التي قابلها أنصار "الداخلية" بالتشكيك وقابلها آخرون بالسخرية من التمجيد "المبالغ فيه"، لم ير فيها سيف أي من ملامح البطولة. تمامًا كما لم ير في دفاعه عن زميلاته، ومحاولاته للتفاوض مع قوات الشرطة لفك الحصار عنهن قبل ثوان من مطاردته أية بطولة. بل اعتبرها تصرفًا طبيعيًا، يأتي في إطار مسؤولية يستشعرها تجاه زملائه الذين يعرفونه من فعاليات سابقة: "الطلبة عارفين سيف شكلاً، إن ده بينزل ومعروف".
أخذ سيف على عاتقه مسؤولية المساعدة في تنظيم صفوف الطلاب خلال الاحتجاجات السلمية الأخيرة، بناءً على "خبرة ميدانية" قليلة، تكونت لديه بعد انخراطه في مبادرة "علمونا صح"، التي تكونت من مجموعة من طلاب المرحلة الثانوية والإعدادية عقب الثورة، وكانت تطالب بإصلاح منظومة التعليم ودعمه من الدولة كي يعتمد على المشاهدة والتجربة عوضًا عن الحفظ والتلقين.
"ببقى شايف حاجات هما مش شايفينها"، يتحدث سيف عن زملائه الذين يشاركون في التظاهرات والوقفات الاحتجاجية للمرة الأولى، معتمدًا على خبرة قصيرة بدأت في الطفولة جمعته بأبيه الذي توفي قبل عامين: "بابا وداني الميدان مرتين في ثورة 25 يناير.. بابا كان بيفرّجني ويفهمني مطالب الثورة". ومن تلك المشاركة انتقل الفتى عام 2014 إلى مشاركات أخرى في فعاليات مبادرة "علمونا صح".
أدخلت يد النظام سيف في التجربة، وكان ممن طالهم الحبس في فترة تلت الثورة وقبل مشاركته في مظاهرات "علمونا صح". وذلك في واقعة طواها النسيان في خضم تلاحق المواجهات الميدانية التي ازدحمت بالإصابات والقتل وصدور أحكام بالسجن ضد المحتجين.
قليلون سيذكرون قضية "معتقلي حديقة الحرية"، التي تعود وقائعها إلى مطلع عام 2014. وحتى هؤلاء لن يلتفتوا إلى أن اسم أحد المُتهمين القُصّر كان "سيف ناصر محمود"، وأنه نفسه الطالب الذي تلاحقه "العساكر" الآن لكونه واحد من طلاب الثانوية العامة الرافضين لتحمل فشل الدولة في تأمين الامتحانات.
حتى الفتى نفسه يمر بذكرى حبسه كما يمر الكرام، دون صخب أو كلمات كثيرة. لا يذكر منها إلا أن وقوعه في الفئة العمرية للأطفال، نجّته من أحكام صدرت ضد زملائه الشباب، وقصرت حبسه على حوالي 45 يومًا.
على الرغم من هذه التجربة، كان حديث الفتى عن المظاهرة الطلابية بصوت وإن كان مُرهقًا، إلا أنه خالٍ من الخوف من السجن حال تكرار القبض عليه، فقبل أن يُطمئن سيف والدته التي جزعت بمجرد رؤية ابنها الصغير مع الشرطة في صورة واحدة؛ طمأن نفسه أولاً بأن قانون التظاهر أداة لمواجهة الاحتجاجات السياسية وليست الطلابية. فهو وزملاؤه "لم يفكروا أبدًا في خوض مواجهات مع الداخلية" ولا يرغبون سوى في "تطوير منظومة التعليم".
تلك المنظومة التي يرى فيها الفتى "عيوبًا" تظهر آثارها في التظلمات على نتائج الامتحانات، ما دفعه للتعامل مع العملية التعليمية بمنطق "مراجعة المادة قبل الامتحان فقط"، بل والمطالبة بـ"تفكيك" الثانوية العامة من قالبها ونظامها الحالي، وتحويلها إلى سنوات تمهيدية يدرس فيها الطالب موادًا ذات علاقة بالكلية التي سيختار الالتحاق بها، بداية من انتظامه في الصف الأول الثانوي.
يحظى سيف إلى الآن بشعبية وتعاطف، اكتسبهما برؤية البعض لصورته كموقف يذكر بأيام الثورة المبتعدة، في وقت يسوده"كبت" مفعم بالضغوط والإحباط السياسي. وهو ما جعل من احتفاء جمهور فيسبوك وتويتر بصورة الفتى؛ أمرًا مفهومًا. وجعل سيف أسعد حظًا -ولو إلى حين- من شباب آخر، منهم ياسين ابن جيله الذي لم يتردد في هجاء تقلّب المزاج السياسي للمصريين.
ففي وقت يتزامن مع انتشار صورة سيف، كان ياسين يُحيي على حسابه بـ"فيسبوك" ذكرى 30 يونيو بطريقته الخاصة، عبر تدوينة بصورتين وحكاية تعود لعام 2013، حينما صعّد المصريون بياسين لمراتب البطولة بعد تداول صورته يقف أعزلاً أمام أنصار الإخوان الغاضبين، لتنتهي الحكاية بعد 30 يونيو- ولمجرد تغير في الهوى العام- إلى سجن ياسين 6 مرّات في احتجاجات سياسية متفرقة، آخرها تظاهرت "مصر مش للبيع" بوم 25 إبريل/ نيسان المنقضي. وتحول من كانوا يرونه بطلاً قبل زوال الإخوان، لينظروا إليه باعتباره مخرّبًا، فقط لأنه عبر عن رأي يخالف ما يرونه.
لايزال سيف حتى اللحظة"بطلاً" في نظر جمهور متعاطف مع قضية طلاب الثانوية العامة. لكن تقلُّب الهوى السياسي في مصر ومعه المزاج العام؛ لا يضمنا أن تستمر هذه النظرة طويلاً.