غوايات نجيب محفوظ

منشور السبت 14 يناير 2017

"سُئِل الشيخ عبد ربه التائه: هل تحزن الحياة على أحد؟ فأجاب: نعم.. إذا كان من عشاقها المخلصين".

يعرف الجميع "نجيب محفوظ" كأديب وكاتب، ويعرفونه أيضًا كموظف حكومي، استمر في أداء وظيفته حتى المعاش، هو الذي يرتدي بدلته الصيفي والذي يسير على نظام صارم حتى أنه يشرب سجائره في مواعيد محددة. وكثيرًا ما تخفي هذه الصورة وراءها شخصية محفوظ الساخر والمحب والمستمتع بمباهج الحياة ومتعدد الهوايات، إذ حملت حياة محفوظ الطويلة تفاصيل ممتئلة بالطرافة والجمال.

سينما وكرة قدم 

يدين محفوظ إلى والدته التي ساعدته على تنمية حياته وسعة أفقه، إذ كانت تصحبه إلى مواقع الآثار الفرعونية والقبطية، وبالطبع المساجد الإسلامية خاصة "مسجد الحسين" الذي كانت تزوره يوميًا تقريبًا، ولكن مع ذلك يحكي محفوظ أن والدته لم تكن تحب السينما أو التلفزيون الذي ظهر فيما بعد ولم تدخله بيتها، ويروي أن الفيلم الوحيد الذي دخلته في السينما كان فيلم "فجر الإسلام" لأنها سمعت أن من يشاهد الفيلم كأنه أدى فريضة الحج. 

يروي محفوظ أنه نتيجة لحبه وتأثره بالسينما قرر إعادة أحد مشاهد الأفلام في المنزل، فنادي علي الخادمة وأخذها الي المطبخ لتلعب دور المريضة ويمثل أخوه دور ولدها وبعد أن كشف عليها قال لها: "يلزمك عملية جراحية"، وأمرها بالاستلقاء علي "ترابيزة المطبخ"، وأمسك بالسكين وشَرَّط بها جسد الفتاة، ليصرخ أخوه و تصرخ الخادمة مع ظهور الدماء و تثور والدته ثورة كبيرة. وتصبح هذه الحادثة شاهدًا علي مدى تأثير السينما القوي على محفوظ.

مع مرور الزمن تحول حب نجيب للسينما إلى احتراف لها، وذلك بعد لقائه بالمخرج صلاح أبو سيف الذي توسم في محفوظ القدرة على كتابة السيناريو، وساعده وعلّمه حتى دخل محفوظ عالم السينما الذي استفاد منه ماديًا بشكل ساعده على الاستمرار في الكتابة الأدبية دون الوقوع تحت ضغوط مالية. 

 

في شبابه كان محفوظ حريصًا أيضًا على حضور العروض المسرحية، وحضر عروض نجيب الريحاني وعلي الكسار، وإن أبدى إعجابه الأكبر بالريحاني. وعبّر محفوظ عن تحفظه على دراسة ليحيى حقي فضّل فيها الكسار على الريحاني، باعتبار الكسار أكثر بساطة ومحلية وقربًا من الشخصية المصرية، في حين كان محفوظ يرى الريحاني ممثلًا على مستوى عالمي، وقادرًا على التعبير بوجهه فقط، وليس بالصوت والحركة، وهذا ما ميّز الريحاني في السينما. 

هوايات محفوظ في طفولته لم تقتصر على الهوايات الفنية، إذ كان لكرة القدم نصيب أيضًا، عشق محفوظ اللعب عندما شاهد فريقًا مصريًا يهزم فريقًا إنجليزيًا، وفرح بالقدرة على هزيمة الإنجليز حتى لو لم يكن الملعب سياسيًا أو عسكريًا. لعب محفوظ لفريق المدرسة و تألق و تنبأ له البعض بالنبوغ في اللعبة واللعب للأندية الكبيرة و الذهاب إلى "الأوليمبياد"، إلا أنه لم ينضم إلى فريق الكرة بالجامعة، واستمر في مشاهدتها بعض الوقت لإعجابه بحسين حجازي وعبد الكريم صقر، ثم أصبح يشاهدها بالمصادفة في "التلفزيون"، ويسترجع حبه و انجذابه القديم لها.

شارع كلوت بك

مع دخول محفوظ لفترة المراهقة يروي أن هناك مشكلتان كادتا أن تحطما حياته، الأولى هي إدمانه التردد على بيوت البغاء في "كلوت بك". يقول محفوظ: "حتى أنني خشيت على نفسي من الإصابة بأحد الأمراض التناسلية، ولم ينقذني إلا كتاب لسلامة موسى في كيفية الوقاية من هذه الأمراض". أما المشكلة الأخرى فهي إدمانه للعب القمار بالكوتشينة في إجازة الصيف، ولكنه هذه المرة لم ينقذه سوى قوة الإرادة وحب القراءة والاطلاع.

 

محفوظ يقول إنه لم يجرب المخدرات كالهيروين والكوكايين بسبب زيارته في مراهقته لمتحف فؤاد الصحي والذي شاهد فيه صورًا لضحايا المخدرات. وعلى الرغم من عدم تصريح محفوظ بتناوله للحشيش في حواراته إلا أنه دافع عن تناوله في حواره مع رجاء النقاش، وقال: "كان الحشيش للشعب المصري نعم الصديق، لأنه خفف عن الناس المرارة التي يعيشونها في نهارهم، وكان بمثابة المسكن للأوجاع في الليل. وساعد على انتشار الحشيش بين جماهير الشعب خاصة الطبقات الفقيرة، أنهم لا ينظرون إليه نظرة التحريم الديني التي يرونها في الخمر. فالإنسان المصري لديه استعداد لأن يدخن الحشيش ولكن لا يتناول البيرة مثلًا، رغم أنها أخف أنواع الخمور، وذلك لاعتقاده أنه لا يوجد نص ديني قاطع يحرّم الحشيش بالتحديد".

كان نجيب محفوظ محبًا للغناء و الموسيقى، وتتناثر مقاطع من الأغاني والأدوار القديمة في أعماله، ظل طوال حياته عاشقًا للغناء، بداية من عبده حلمي والمنيلاوي وسيد درويش وصولًا لعبد الوهاب وأم كلثوم وأحمد عدوية الذي كان يحب صوته وأغانيه على عكس تيار "المثقفين" الرافضين له في السبعينيات والثمانينيات. 

أحب محفوظ الموسيقى حتى أنه التحق بمعهد الموسيقى العربية لدراسة آلة القانون في شبابه، ويقول محفوظ إن العازف الكبير "محمد العقاد" أثنى على عزفه وتنبأ له بمستقبل كبير إذا استكمل الدراسة. ولكن محفوظ لم يكن يطمح إلى أن يكون عازفًا، وإنما اتجه إلى دراسة الموسيقى منه أنه سيتعلم منها فلسفة الجمال، ولكنه يقول: "بعد حوالي عام من الدراسة اكتشفت أني لم أصل إلى أي شيء مما تصورته، وأنه لا صلة مطلقًا بين تعلم العزف على القانون وبين فلسفة الجمال". 

اهتم محفوظ أيضًا بالفنون التشكيلية، وكان السبب في ذلك مقال للعقاد، واهتم بلوحات "محمود سعيد" بشكل خاص. وتأثر به على المستوى الشخصي عندما علم أنه ترك القضاء ليصبح فنانًا تشكيليًا، وهو ما أثر في قرار محفوظ بترك الفلسفة التي درسها و تفرغ للأدب.

بنورة مسحورة

يذكر محفوظ أن عندما كان موظفًا في إدارة الجامعة سمع عن شخص يُدعى "فردي" يستخدم "البنورة المسحورة" ليكشف الأشياء للناس مقابل عشرين قرشًا. قال "فردي" لمحفوظ: "حياتك ورق ورق ورق، وسطور، ولكن الرزق ليس بالوفير". بالطبع كان هذا ينطبق على محفوظ، ولكن الأديب يشير إلا أنها اكتشف أن "فردي" لا يملك سوى فَرَاسة شديدة، خاصة أن أي موظف مصري ينطبق عليه هذا الكلام. 

التوازي بين الكتابة الأدبية والوظيفة تسبب لمشكلات كثيرة لمحفوظ خاصة في بداية حياته، على سبيل المثال تسبب نشر رواية محفوظ "القاهرة الجديدة" في انزعاج كبير في وزارة الأوقاف التي كان يعمل بها محفوظ سكرتيرًا للوزير، ووصل الأمر إلى تحويله للتحقيق، وحقق معه الشيخ أحمد حسين شقيق الأديب طه حسين، ولكي يشرح له محفوظ الموقف قال له: "هذه رواية مثل التي علمها لنا أخوك طه حسين"، ليقول الشيخ: "كويس، أنا تفهمت الوضع وسأشرحه لهم"، ثم قال: "لماذا تكتب عن فضائح الباشوات وتعرض نفسك للمشاكل؟ اكتب عن الحب أفضل وأكثر أمنًا". 

وتشير المواقف المشابهة إلى عدم فهم المجتمع لطبيعة عمل الروائي، يقول محفوظ إن الناس في هذا العصر كانوا يحبون الأدب ولكنهم لا يحترمونه كثيرًا، ويضيف أن حتى نجوم الأدب في ذلك الوقت مثل طه حسين أو العقاد كانوا مفكرين وتأتي القصص والروايات على هامش أعمالهم. 

نجيب الرقيب

التعارض بين محفوظ الموظف ومحفوظ الأديب تجلى بشكل أكبر عندما عمل محفوظ مديرًا للرقابة ورئيسًا لمؤسسة دعم السينما، هنا أصبح الكاتب الذي يدعو لحرية التعبير أمام تحدٍ كبير، فالطبع هناك تعارض بين وجهة نظره وبين ما تمليه عليه الوظيفة. ولكن محفوظ يروي واقعة طريفة عندما رفض زميل له في عام 1959 طبع أغنية "يا مصطفى يا مصطفى"، على الرغم من الأغنية كانت ناجحة وتذاع في الإذاعة المصرية.

"قال لي: هذه الأغنية تسيء إلى ثورة يوليو. 

- كيف؟

- انهم يقصدون مصطفي باشا النحاس و يقولون سبع سنين في العطارين، ولا تنس أن الثورة قامت منذ سبع سنين".

فاقترح محفوظ ساخرًا أن يسمحوا بالأغنية في العام القادم عندما تكون الثورة قد أتمت عامها الثامن، والغريب أن الزميل اقتنع بهذا الحل و لم يفطن إلى ما فيه من سخرية.

السادات و"صاحبك العبيط"

عرف محفوظ السادات شخصيًا قبل رئاسة الأخير لمصر، وذلك من خلال مكتب إحسان عبد القدوس في "روز اليوسف" في الستينيات، وفي ثاني اللقاءات بينهما سلم عليه السادات وقال له: "أنا زعلان منك".

فقال نجيب: "ليه لا سمح الله؟".

فرد السادات معاتبًا: "كيف تجعل الضابط في (بداية ونهاية) ينتحر؟ أنت لا تعرف أن الضابط هو نحن؟ وأنه كان يجب يعمل ثورة مش ينتحر؟ ناس من الشعب و عملوا ثورة. كيف ينتحر؟".

تعجب محفوظ من لوم السادات على تفكير شخصية في رواية، وكان يريد أن يقول له إن الضابط لم ينتحر وإنما استولى على الحكم. وأضاف محفوظ في حوار له في مجلة نصف الدنيا: "والله لو ترجع لقراءة (بداية ونهاية) تلاقي عُقَد الضباط الذين حكمونا في تلك الفترة". 

كما يروي محفوظ موقفًا آخر مع السادات عندما كان محفوظ عضوًا في لجنة شُكِلَت قبل المؤتمر الوطني الذي أقر الميثاق حيث كتب يومها اقتراحًا في ورقة وأرسلها الي السادات رئيس الاجتماع، طالب الاقتراح بالإفراج عن المعتقلين خاصة الشيوعيين منهم، وتساءل عن موقف الأقباط. ولكن الجلسة رُفعت دون تلاوة الورقة، وأثار ذلك استغراب محفوظ، الذي اُستدعي إلى مكتب السادات بعد الاجتماع، يقول محفوظ: "ذهبت إلى مكتب السادات وكان يجلس مع إحسان عبد القدوس. وهنا أخرج الورقة وقال لإحسان: شوف صاحبك العبيط كاتب إيه؟ أنا لو قلت ما في هذه الورقة كان خرج من الاجتماع على سيوة ولم يكن أحد سيعرف له طريق جرة". 

نظرة محفوظ لفترة حكم السادات كانت إيجابية في مجملها، وعبّر محفوظ عن ذلك في كتابه "أمام العرش"، رغم أنه يشير في حواراته إلى أنه لم يكن يدرك قدرات السادات في بداية توليه للرئاسة، خاصة أنه في الستينيات لم يكن يشغل مناصب ذات تأثير كبير.

ولكن فترة حكم السادات لم تخل أيضًا من خلافات بينه وبين محفوظ، ومنها خلاف طريف، إذ سخر محفوظ في مقال له بالأهرام من فكرة منح درجة الدكتوراة الفخرية للفنانين "فعبد الوهاب ليس في حاجة إلى دكتوراه، وموسيقاه لن تزيد قيمتها برتبة لواء". فغضب السادات وقال لمن حوله بطريقته العفوية: "طيب هو مش هياخدها". 

ومحفوظ اعتذر بالفعل عن قبول أكثر من ترشيح للحصول على دكتوراه فخرية من جامعات مصرية لاقتناعه بضرورة عدم التلاعب بهذه الدرجة العلمية. 

"نوبل" بالبيجامة

جاءت جائزة"نوبل" مفاجأة غير متوقعة لمحفوظ الذي لم يصدق زوجته عندما أيقظته من النوم وذكرت له الخبر، وعندما اتصل به مدير تحرير "الأهرام" مؤكدًا ظل بين مصدق و مكذب، وعندها دق جرس الباب ليدخل عليه خواجة ضخم وزوجته قال له إنه سفير السويد وجاء ليقدم له هدية عبارة قدح بللوري سويدي فاخر . يقول محفوظ إنه قابل السفير السويدي "بالبيجامة وواكل بصل، لأنك يا توفيق فهمتني إنه بينزل السكر"، وتوفيق هو المخرج الكبير توفيق صالح، وهو شلة الحرافيش و الذي كان نصح محفوظ بأكل البصل لأنه مفيد لمرضي السكر.

بالإضافة إلى الجهد و الاستمرارية والنظام و الموهبة، كان نجيب محفوظ محبًا للحياة بما فيها من موسيقي ورياضة و سينما، كان محبًا للغناء والمقاهي والصحبة والضحك والقفشات والفن التشكيلي، كان يحب النساء والتدخين، كان واحدًا من عشاق الحياة المخلصين. 


مراجع المقال:

- إبراهيم عبد العزيز، أنا نجيب محفوظ، سيرة حياة كاملة

- رجاء النقاش، نجيب محفوظ: صفحات من مذاكراته وأضواء جديدة علي أدبه وحياته

- جمال الغيطاني، نجيب محفوظ يتذكر