مُتَرْجَم| ثورة مصر الفاشلة

منشور السبت 7 يناير 2017

 

نشر تحقيق بيتر هسلر مراسل نيويوركر في مصر، في عدد المجلة الصادر في الثاني من يناير/ كانون ثان الجاري

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي جاء إلى السلطة بعد انقلاب، نُفِّذت في أعقابه مذبحة قُتل فيها أكثر من ألف من أنصار سلفه [محمد مرسي]، يتمتع بسمعة الحديث بهدوء شديد. هذه الميزة في أغلب الأحيان تجرِّد الأجانب من سلاحهم. أخبرني دبلوماسي أوروبي مؤخرا: "عندما تتحدث إليه، يستمع إليك،على عكس معظم الجنرالات. هو ليس بطنان". وقالت مسؤولة أمريكية إن السيسي يذكرها بطراز أمريكي بدائي. وقالت "هناك سياسيون يحرصون على أن يكونوا هم الأعلى صوتًا في الغرفة. ثم هناك هؤلاء الذين صنعهم الالتزام بالنظام.. هم ليسوا أقل قدرة من غيرهم على رفع لكنهم ليسوا بالضرورة الأكثر ضجيجا". وقالت عن السيسي "أعتقد أيضا أن مظهره الهادئ الذي يحرص على الحفاظ عليه، يدفع الناس إلى التفكُّر فيما يقول. والتساؤل بشأن الإشارة التي يحاول إيصالها، وهل هناك معنى أعمق لما يقوله؟"

                                         

يبدأ الثورات من يتمتعون بالجرأة، ثم ينقلب عليها من يتمتعون بالهدوء والحرص. 

عادة ما يبدأ الثورات من يتمتعون بالجرأة والقدرة على التعبير عن أرائهم، ثم ينقلب عليها هؤلاء الذين يتمتعون بالهدوء والحرص. هناك ثمن يُدفع مقابل الشهرة المبكرة؛ في كثير من الحالات، الفائزون هم من ينتظرون. في فبراير/ شباط 2011، عندما أجبرت حركة ميدان التحرير الرئيس حسني مبارك على الاستقالة، كان السيسي مديرا للمخابرات العسكرية، وهو منصب لم يكن معروفا لدى العامة.

قبل خمس سنوات من ذلك التاريخ، كان قد أكمل دورة تدريبية في كلية الحرب التابعة للجيش الأمريكي في كارلايل بولاية بنسلفانيا. لكن يبدو أنه مر بالكاد من على رادار المسؤولين الأمريكيين. أخبرني ليون بانيتا، وزير الدفاع خلال عام (احتجاجات) ميدان التحرير، والمدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، "لا أستطيع أن أخبرك أني اتذكر أي نوع من الاهتمام الخاص في تقارير الاستخبارات عن السيسي".

في 2013، خلف تشاك هاجل بانيتا في البنتاجون. قال هاجل عن السيسي "أفراد جيشنا لم يعرفوه جيدا". مسؤولة أمريكية أخرى أبلغتني أن معلومات السيرة الذاتية عن السيسي كانت ضعيفة على نحو خاص "لم نعرف شيئًا عن زوجته أو أبنائه". وأضافت: "لا أعتقد أن ذلك كان صدفة. أعتقد أن تلك كانت هالة متعمدة رسمها حول نفسه".

قبض مبارك على السلطة لثلاثين عامًا دون أن يسمي خليفة له، وأطاحت به الثورة افتقرت إلى القيادة أو وجود بناء تنظيمي. بعد ذلك، حكم مصر مجلس من ضباط الجيش (المجلس العسكري) كان يفترض أن يشرفوا على انتقال السلطة إلى حكومة مدنية. كان السيسي أصغر أعضاء هذا المجلس، وأفيد بأنه تولى قيادة المحادثات السرية بين المجلس وجماعة جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت محظورة في مصر حتى الثورة.

 

محل ثقة الإخوان

 

https://www.youtube.com/embed/BWOuu6q5odY

كان للإخوان على الدوام علاقات متوترة مع الجيش، لكن خلال الفترة التي تلت حركة ميدان التحرير ومع ارتفاع أسهم الجماعة لتولي السلطة عبر سلسلة من الانتخابات العامة، بدا ان هناك ترتيبًا ما يجري إعداده. مسؤول بارز في الخارجية [الأمريكية]، كان على تواصل مع الجيش والإسلاميين خلال تلك الفترة، صرح لي مؤخرا: "كان السيسي هو الشخص الذي يتفاوض مع الإخوان. أعتقد أن وجهة نظره كانت أن يظل في موضع التأثير والسيطرة وتذليل العملية السياسية". ووصف دبلوماسي أوروبي الترتيب بأنه "تعايش". وقال "طالما كان الإخوان لا يتدخلون كثيرا في الشؤون العسكرية، فسيسمح لهم الجيش بالاستمرار في إدارة الحكومة المدنية".

وثق قادة الإخوان في السيسي، جزء من تلك الثقة يعود إلى كونه مسلم متديِّن. وفي بادئ الأمر على الأقل، بدا أن قادة الجيش يعرقلون الوفاء بالجزء الخاص بهم من الصفقة [مع الجماعة]. في يونيو/ حزيران 2012، عندما فاز القيادي الإخواني محمد مرسي بأول انتخابات رئاسية ديمقراطية، لم يتدخل الجيش. وبعد توليه منصبه بوقت قصير، أجبر مرسي وزير الدفاع (المشير طنطاوي) على التقاعد ومعه قادة القوات البحرية والدفاع الجوي والقوات الجوية.

تلك الخطوة نالت استحسان الثوريين المصريين الشبان، الذين رأوا فيها إشارة على أن مرسي مُصر على الحد من تأثير الجيش. وحظي اختيار السيسي وزيرًا للدفاع بدعم من كثيرين. فالسيسي الذي كان في السابعة والخمسين من عمره، حل محل جنرال كان في السادسة والسبعين، وبدا أن اختياره يعكس انتقال القيادة إلى ضباط أصغر سنًا وأكثر تنويرًا.

لم يمر وقت طويل قبل اتخاذ مرسي خطوة أخرى جريئة. ففي نوفمبر/ تشرين ثان، أصدر قرارًا رئاسيًا منح لنفسه بموجبه سلطات مؤقتة أعلى من سلطة أي محكمة، وذلك استباقا لأي معارضة منتظرة لدستور جديد موالي للإسلاميين. كانت هذه الخطوة نقطة التحول في الأقدار السياسية للإخوان. خسرت الجماعة دعم معظم الثوريين، وتزايدت المعارضة بشكل ثابت خلال الأشهر الستة التالية، حتى أن الكثير من مؤسسات الدولة، بما فيها الشرطة، رفضت على نحو كبير العمل لصالح حكومة مرسي.

في تلك الفترة أدلى السيسي بتصريحات علنية شحيحة، لكنه فتح حوارًا مع تشاك هاجل، نظيره في البنتاجون. في مارس/ آذار 2013، فيما كانت الأزمة تتبلور: زار هاجل القاهرة؛ حيث التقى السيسي لأول مرة. قال هاجل، وهو من المحاربين القدامى الذين خاضوا حرب فيتنام وحصل على وسام: "الكيمياء بيننا كانت جيدة للغاية. أعتقد أنه نظر إلي كشخص يفهم في العسكرية، يفهم التهديدات والحروب”.

 مع تفاقم الأزمة، بات هاجل هو الشخص الوحيد في الحكومة الأمريكية الذي يتواصل معه السيسي. قدر هاجل أنهما أجريا نحو 50 محادثة هاتفية. وقال: "حرفيا، كنا نتحدث مرة واحدة أسبوعيًا. كانت مدة هذه المحادثات ساعة واحدة للمحادثة وأحيانا أكثر". كثير من الناس يعتقدون أن الجيش خطط على الدوام للإطاحة بمرسي، لكن هاجل مقتنع بأن السيسي في بادئ الأمر لم يكن ينوي الاستيلاء على السلطة. دبلوماسيون آخرون يتفقون مع ذلك.

قال لي دبلوماسي أوروبي التقى بالسيسي عشرات المرات، "هو ليس الشخص الذي قضى حياته يتوق إلى السلطة، ويتطلع لأن يصبح رئيسًا". وأكد عديد من المراقبين أن هذه الدوافع تميل لأن تكون مائعة خلال فترات الاضطرابات السياسية. أبلغني مسؤول بارز سابق في إدارة أوباما: "لم أكن أبدًا في موضع فيه ملايين الناس يقولون أني أستطيع تغيير البلد إذا اتخذت خطوة ما. لا أدرك ما الذي يمكن أن يفعله ذلك في نفسيتي".

   

مظاهرات 30 يونيو

  في آخر يوم من يونيو/ حزيران 2013، نزل ما يقدر بأربعة عشر مليون شخص إلى الشوارع احتجاجًا ضد الحكومة. سألت هاجل ما الذي قاله السيسي خلال ذلك الوقت. يتذكر هاجل [أن السيسي قال] "ما الذي يمكن أن أفعله؟ أدرك أني لا أستطيع الهرب. لا أستطيع أن أخذل بلادي. عليّ أن أقود؛ لدي الدعم. أنا الشخص الوحيد في مصر اليوم الذي يمكنه الحفاظ على هذه البلاد".

حتى النهاية، بدا أن قادة الإخوان يعتقدون أن السيسي يقف إلى جانبهم. أخبرني مسؤول بارز سابق في الخارجية الأمريكية، "أعتقد أن مرسي أُخذ على حين غرة عندما انقلب السيسي ضده". في الثالث من يوليو/ تموز، احتجز الجنود مرسي، وظهر السيسي على التلفزيون ليعلن أن حكومة مؤقتة سوف تحكم مصر حتى يمكن إجراء انتخابات والموافقة على دستور جديد.

خلال الأشهر التالية، تمتع السيسي بشعبية هائلة، لكن بدا أنه يعتزم أن يُبقى على غموضه. فهو نادرا ما كان يظهر في العلن، ولم ينضم أبدًا إلى حزب سياسي. وعندما ترشح للرئاسة، في ربيع 2014، لم يكن لديه برنامجًا حقيقيًا. لم يحضر أي تجمع لحملته الانتخابية. لم يكلف نفسه عناء توضيح بعض التفاصيل الأساسية عن حياته؛ القناة الرسمية لحملته على يوتيوب حددت مكانين متناقضين لميلاده. لديه أربعة أبناء، لكن نادرًا ما يشير إليهم في العلن، وكانت زوجته محتجبة طوال الوقت.

لكن منذ أن أصبح رئيسًا كشف دون قصد عن نفسه، وعن الهيكل السياسي لمصر أكثر مما يتصور أحد. أظهرت سلسلة من المقاطع المصورة والصوتية السرية، التي تعرف باسم "سيسي- ليكس" أو تسريبات السيسي، الرئيس يتحدث بشكل علني عن مواضيع حساسة، تتراوح من التلاعب بوسائل الإعلام إلى انتزاع أموال من دول الخليج. انتهاكات حقوق الإنسان تفاقمت إلى حد فاق ما كان الأمر تحت حكم مبارك، والاقتصاد أصابه الوهن إلى حد خطر. وخلال العام ونصف العام الماضيين، أظهر تحطم طائرة في سيناء ومقتل طالب دراسات عليا أجنبي في القاهرة، واحتجاجات شعبية بسبب السيادة على جزيرتين في البحر الأحمر، مأساة الحركة السياسية الفاشلة. كل شيء استعان به رجل مثل السيسي ليصعد في مصر الثورية - السرية والصمت والالتزام بالنظام - جعل من المستحيل عليه أن يحدث تغييرًا حقيقيًا.

في أكتوبر/ تشرين أول 2013، في أحد أقدم المقاطع المصورة، تحدث السيسي في اجتماع مغلق لضباط الجيش؛ وقال: "الدولة اتفككت وبيعاد تركيبها من جديد يا عُمَر". تنهد السيسي بعمق - في المقطع المصور، كانت عيون السيسي متنبهة ولطيفة بشكل غير متوقع. هو صغير السن لديه صلعة صغيرة وبلا رقبة، ويرتدي زيا مموها على كتفيه نجوم وسيفين متقاطعين. يجلس وأمامه صندوق مناديل ورقية، ومجموعة زهور ملونة، وليس أقل من ثلاثة علب من المناديل المبللة.

تلك اللوحة الغربية تخلق تأثير (فيلم) "ساحر أوز" - لا يبدي أحد اهتمامًا بالساحر القابع خلف الستار "دي مرحلة زمنية بتمر بينا، ودي إفرازاتها.. أعراضها. إحنا بنحاول نستوعب بقدر الإمكان. لكن مش هتقدر تعمل استيعاب كامل وترجع للي انت كنت فيه قبل كده. اللي هو محدش يجيب اسمك ولا سيرتك".

كيف تدار الصحافة

 

في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، بدأ السيسي زيارة رسمية إلى بريطانيا للقاء ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء في ذلك الوقت. دعا السيسي عددًا من الوجوه المصرية البارزة لينضموا إليه في لندن، من بينهم سامح سيف اليزل، وهو لواء متقاعد عمل في المخابرات العسكرية، وقاد [قبل وفاته] ائتلافًا من المرشحين المؤيدين للسيسي في البرلمان المصري الجديد. على رحلة مصر للطيران، أبلغني اليزل أن الأهداف الرئيسية للرحلة اقتصادية. وقال: "المملكة المتحدة أكبر مستثمر غير عربي في مصر. أعلم أن هناك الكثير من المصالح، خاصة في قطاع النفط. وسوف نتحدث أيضا عن قضايا الاستيراد والتصدير".

 

السيسي وديفيد كاميرون

قبل أربعة أيام من الزيارة، تحطمت طائرة ركاب تابعة لشركة متروجيت تحمل سائحين روس، بعد إقلاعها من منتجع شرم الشيخ الساحلي، في شبه جزيرة سيناء. ما أسفر عن مقتل جميع من كانوا على متنها وعددهم 224 شخصا. في 2014، أعلنت جماعة إسلامية مقرها سيناء ولاءها لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لكن التقارير الأولية عن التحطم شككت في أن الحادث من المرجح أن يكون ناجما عن عطل فني، أكثر من إرهاب. هذه التفصيلة منحت المصريين أملا بأن التحطم لن يفاقم من الأضرار التي ضربت قطاع السياحة، الذي انسحق منذ بداية الربيع العربي. قال اليزل إن جدول أعمال الرحلة تأثر بتلك الأنباء.

كان السفير البريطاني لدى مصر، جون كاسن، على متن الرحلة نفسها. عندما وقفت بجوار مقعده، لم يبد أنه يفكر في الأهداف الاقتصادية لزيارة السيسي. كان كاسن يقرأ بتمعُّن تلخيصًا أصدرته وقفية كارنيجي بعنوان: "تصاعد التمرد الإسلامي في مصر"، وأشار إلى عدد من الجنود الذين قُتلوا في سيناء خلال العامين الماضيين. قال "إنهم أكثر من 700، هذا أكثر مما فقدناه [كبريطانيين] في أفغانستان". (نحو 450 جنديا بريطانيًا قتلوا في الحرب الأفغانية).

في الليلة السابقة، علم كاسن أن محللين بريطانيين يعتقدون أن الطائرة من المحتمل أن تكون أُسقطت جراء قنبلة زرعها عملاء لتنظيم الدولة الإسلامية على متنها. بقت المعلومات سرية، رغم أن كاميرون اتصل بالسيسي وأبلغه.   

جون كاسن

بعد أشهر، أبلغني كاسن أن الأزمة تكشفت "في الوقت السليم". بينما كنا نحلق متجهين إلى لندن، كانت طائرة عليها خبراء بريطانيين تنطلق في الاتجاه المعاكس، لعمل تقييم طارئ للإجراءات الأمنية في مطار شرم الشيخ.

بعد وقت قصير من هبوطنا في لندن، أوقفت جميع الرحلات الجوية بين شرم الشيخ وبريطانيا. لم يتضح متى وكيف سيتم إعادة نحو 17 ألف سائح بريطاني عالقين في جنوب سيناء. وبالنسبة للزيارة الرسمية، لا يمكن أن يكون التوقيت أسوأ من ذلك؛ في أول صباح لزيارة السيسي، كان العنوان الرئيسي لصحيفة إندبندنت: "سيدمر هذا ثقة السياح". كان السيسي يقيم في فندق ماندارين أورينتال بالقرب من هايد بارك، وعندما توقف في الثامنة من مساء يوم وصوله، طوقت الشرطة المدخل الأمامي للفندق بسبب وقوف عدة عشرات من المحتجين المصريين أمامه يرددون هتافات ميدان التحرير: "يسقط يسقط حكم العسكر".

اقرأ أيضًا: السياحة في 2016.. عام التعثٌر في حطام "الطائرة الروسية"

في الداخل، استولى وفد السيسي على صالة روزبيري الأنيقة. وتمركز مسؤولو الأمن إلى جانب نوافذ الجزء الرئيسي من المبنى، وجلس رجال الأعمال على الطاولات يتحدثون بالعربية. كان أعضاء الوفد الصحفي المصري الذي يغطي مؤسسة الرئاسة جالسين في انتظار البيان الصحفي المسائي. جلست مع فتحية الدخاخني، صحفية بجريدة المصري اليوم الخاصة. شكَّكت فتحية في أن تكون هناك فرصة لأعضاء الوفد الصحفي لطرح أسئلة عن تحطم طائرة سيناء. وقالت: "نحن هنا مجرد ديكور، ليس إلا".

الدخاخني، امرأة ذات شعر أسود، مفعمة بالطاقة، وفي أواخر الثلاثينات من عمرها. عملت في تغطية أخبار الرئاسة معظم الفترة التي أعقبت انتفاضة ميدان التحرير. قالت: في أيام مرسي كان أمرًا عاديًا أن نتفاعل مع المتحدث الرئاسي. لكن منذ تولي السيسي منصبه عقد مؤتمرًا صحفيًا واحد في مصر، وكانت الأسئلة مكتوبة. وقالت: "اختاروا ثلاثة صحفيين مصريين وأخبروهم أن هذه هي الأسئلة التي سوف يطرحوها". أكد لها الصحفيون الثلاثة أن الأسئلة كانت موضوعة. "كتبت تقريرًا عن ذلك" ثم ضحكت. تابعت "لم يسمحوا لي بدخول القصر الرئاسي لثلاثة أشهر!"

بعد الانقلاب، اعتمد السيسي على دعم وسائل الإعلام المصرية. معظم الصحفيين فقدوا الثقة وخافوا من الإخوان. شعروا بالارتياح عندما تمت الإطاحة بمرسي. في مقطع مصور مسرب من تلك الفترة يستمع السيسي فيما ضابط يرتدي الملابس الرسمية يُسدي النصح حول العلاقة مع الصحافة. "أنا شايف يافندم ان الإعلام في مصر كله يسيطر عليه 20، 25 واحد. الناس دي ممكن يكون فيه أي نوع من الحوار أو التواصل معاهم بشكل غير معلن أو بشكل منفرد".

في الحقيقة، الاجتماعات مع الصحافة لم تكن هادئة. خلال أول عامين بعد الانقلاب، كانت تسجيلات متلفزة لطاولات مستديرة مع كبار الصحفيين ومذيعي البرامج الحوارية (التوك شو) تبث على يوتيوب. في أحد الاجتماعات، طلب السيسي من مجموعة من الصحفيين تمرير المعلومات الحساسة إلى السلطات بدلا من نشرها. "إذا كانت لديك أي معلومات عن أي موضوع، لماذا لا تعطيها للسلطات بدلا من كشفها”.

في مصر، دائما ما اعتمدت سيطرة الرئيس على الإعلام على مفاوضات فردية. ليست هناك وزارة إعلام أو جهاز رقابة رسمي والانترنت بلا قيود. تحت نظام مبارك، لم يتم وضع حدود بشكل رسمي، وكانت الصحافة تدار عبر مجموعة من التهديدات والمكافآت الخفية (العصا والجزرة). بعد الثورة انهار هذا النظام، وكانت هناك حرية كاملة للصحافة خلال عامين ونصف، وقت زيارو لندن بدأت وسائل الإعلام في إظهار بوادر معارضة. وقتها، تحدثت وسائل الإعلام عن فيضانات اجتاحت الإسكندرية وعن سوء الخدمات العامة في المحافظة.

في صالة روزبيري، ظهر أخيرًا المتحدث باسم السيسي وعقد اجتماعًا مغلقًا مع الدخاخني وصحفيين مصريين آخرين لمدة 20 دقيقية. بعد ذلك، أبلغتني الدخاخني أنها كانت الوحيدة التي سألت عن تحطم الطائرة. وقالت: "المتحدث لم يكن يريد الإجابة. وقال ‘لا نريد التركيز على هذه القضية. نريد التركيز على الزيارة. ما يمكنني قوله هو، أننا في مصر، لا نريد أن نتخذ قرارات حتى ينتهي التحقيق".

أخبرتني الدخاخني أن من الممكن دفع بعض الحواجز تحت حكم السيسي. وقالت "مثل ما حدث الآن، الصحفيون الآخرون لم يطرحوا أسئلة، لكنهم سجلوا ما قيل. وربما بعد فترة، يبدأوا في طرح هذه الأسئلة". بعد الاجتماع، تجادل الصحفيون من مؤسسات مملوكة للدولة بشأن ما إذا كانوا سينشرون نفي المتحدث. قالت الدخاخني إنها سوف تنشره، ومن ثم قرروا نشره أيضا.

سألتها عما إذا كانت ستكتب عن الاحتجاجات عند الفندق، ضحكت ودفنت وجهها في راحتيها، كما لو كانت عاجزة. قالت لي إن مديري تحرير الصحيفة قرروا إن نشر تغطية حول تلك المظاهرات تنطوي على مخاطرة. لاحقًا نشرت الصحيفة تقريرًا تحت عنوان ثانوي يشدد على وجود مظاهرات مؤيدة للسيسي في لندن، وادعىتقرير في الصحيفة نفسها أن كافة المعارضين للسيسي في لندن هم من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين. قالت لي الدخاخني إن مثل هذه الحسابات شائعة. وأوضحت "أحيانا ننشر شيئا ما، ونتلقى اتصالا من مكتب الرئيس: شيلوا القصة!"

خلال باقي الزيارة، تمسكت الحكومة المصرية بروايتها. في سيناء، أفاد المحققون الروس بوجود دليل انفجار على الطائرة، وأعلن فرع الدولة الإسلامية في سيناء مسؤوليته، وأنه خطط الهجوم ردا على الغارات الجوية الروسية في سوريا. لكن السيسي وإدارته رفضوا القبول بهذه الاحتمالية. بعد يوم توقفت الرحلات الجوية، وأصدرت وزارة الخارجية المصرية بيانا متضررا تزعم فيه أن البريطانيين اتخذوا قرارهم "بشكل منفرد دون التشاور مع مصر"، رغم الاتصالات المباشرة رفيعة المستوى القائمة.

في اليوم الذي غادر فيه السيسي لندن، رأيت سيف اليزل مرة أخرى، وقال إن أعضاء الوفد كانوا غاضبين من القرار البريطاني بوقف الرحلات الجوية. وقال "كان يجب عليهم أن ينتظروا حتى تكتمل الزيارة”. بدا رده غير منطقي - كضابط مخابرات سابق، كان عليه أن يعي أن أية حكومة غربية لابد أن تتحرك على الفور عند ورود معلومات تفيد بأن مواطنيها قد يكونوا في خطر من الإرهاب. عندما تحدثت مع أحد الصحفيين المصريين من المؤسسات الرسمية من يغطون الزيارة، أبلغني أن البريطانيين والأمريكيين يتآمرون بهدف إحراج مصر وتدمير اقتصاد السياحة. وقال "هذه إهانة. لماذا تريد أن تحرج الرئيس؟"

الفخر الفارغ 

 

 

الطائرة الروسية - سيناء

أحيانا؛ يقود فخر المصريين سياستهم، ويتمتع المسؤولون بطبع حامي. قال مسؤول أمريكي "كثير من المصريين في الحكومة كانوا بدون شك يصرخون فيّ ويواجهونني بقوة" مضيفا: "لكن السيسي.. لم أره يوما يفقد أعصابه". في لندن، عندما ظهر السيسي مع كاميرون أمام الصحافة، كان كريما تجاه مضيفه. أخبرني كاسن أنه خلال الاجتماعات المغلقة، لم يُظهر السيسي أي علامة على الغضب أو الاستياء. قال كاسن: "في الاجتماع مع رئيس الوزراء، كان رجل دولة، صريح جدا".

عندما يحلل الغربيون تصرفات شخصية سلطوية، يميلون إلى التركيز على وضعية عقله ومراقبة السلوك - الفظ في كثير من الأحيان - لرجل بسلطات غير محدودة. لكن غالبا المؤسسة ذات أهمية أكثر من الفرد، ويمرر الزعيم الوضعية النفسية للدولة وضعفها. بالنسبة للسيسي، الذي بزغ كصنيعة للنظام، كان الرد على أزمة متروجيت بشكل أساسي أن يتراجع خطوة إلى الوراء، ويسمح للحكومة بمتابعة مسارها الغريزي في الدفاع والإنكار والعناد.

لم يكن في ذلك أي وعي استراتيجي: فمنذ توليه السلطة، يسعى السيسي لتبرير قمعه للحريات المدنية عبر الإعلان أن مصر في معركة وجودية ضد الإسلاميين المتطرفين. دعم تفجير طائرة متروجيت ذلك النهج، لكنه أضر كذلك بالكرامة المصرية، التي كانت تستغل الإرهاب كورقة رابحة. لم يغير السيسي من نهجه حتى مرت ثلاثة أشهر على الحادثة، عندما أشار سريعًا في لقاء تلفزيوني إلى حقيقة أن إرهابيين أسقطوا الطائرة. بعد ذلك، لم يشر أبدا إلى الحادثة علنا.

بعد زيارة لندن بوقت قصير، تركت الدخاخني العمل في تغطية الرئاسة. قالت عندما رأيتها مرة أخرى "هذه ليست وظيفة. أنت مجرد ساعي بريد. فقط تتلقى البيان الصحفي [من الرئاسة] وتوصله إلى الصحيفة". هي الآن مديرة تحرير موقع المصري اليوم. سألتها عن استنتاجاتها بعد نحو عامين من تغطية أخبار السيسي، قالت "لا يختار الأشخاص الجيدين للعمل معه، مستشاروه ووزرائه. إذا عملت وحدك سوف تخسر. أعتقد أنه لا يثق في أحد سوى في الجيش". وتابعت "يحتاج إلى حزب سياسي".

زعيم بلا سياسة

 

                          

من بين العسكريين الأربعة الذين حكموا مصر تميز السيسي بكونه لم يهتم أبدًا بالسياسة المؤسسية

من العسكريين الأربعة الذين حكموا مصر خلال الستين عامًا الماضية، يتميز السيسي بكونه لم يهتم أبدًا بالسياسة المؤسسية. جمال عبد الناصر وأنور السادات كانا ناشطين في شبابهما، وغازلا تنظيم الإخوان المسلمين قبل أن يلفظا الإسلام السياسي. وكرئيسين عمل كل منهما على بناء تنظيم سياسي، عرف تحت حكم السادات باسم الحزب الوطني الديمقراطي. استخدم مبارك، الذي اختاره السادات خليفة له، نفس الحزب الوطني ليحكم ما كانت بالفعل دولة حزب واحد.

في بعض النواحي، يعتبر السيسي سياسيًا بالفطرة، وخطبه التي يلقيها بالعامية العربية، غالبًا ما تثير إعجاب رجال الشارع المصريين، كونها تظهره مُخلصًا وعطوفًا. لكن نوازعه السياسية فردية وليست مؤسسية، ويبدو أن موضوع السياسة لم يثر اهتمامه خلال فترة النمو والتكوين.

تتكون عائلة السيسي من 13 أخًا شقيقا، وإخوة غير أشقاء. كان والده مزواجًا، رغم أن هناك معلومات شحيحة عن المرأة التي تشير إليها الصحافة المصرية ببساطة على أنها "الزوجة الثانية"، فأمه هي الوحيدة في العائلة التي يتحدث عنها باستمرار. رحلت الأم خلال العام الثاني في توليه الرئاسة، ووصفها السيسي بأنها "سيدة مصرية أصيلة، بكل معنى الكلمة". في 2013، سأل صحفي مصري السيسي ماذا فعل بعد إعلان الإطاحة بمرسي على التلفزيون. رد "قرأت البيان، ثم ذهبت إلى أمي.ورد فعلها كان: (الله يحميك من كل شر)".

بدأ جد السيسي عمله في صناعة الأرابيسك والقطع الخشبية، وهي نمط معقد من صناعة الأخشاب المرصعة بالأصداف. هيمنت عائلته على تجارة الأربيسك في خان الخليلي، سوق السياحة الرئيسي في القاهرة، ولا تزال العائلة تمتلك نحو عشرة محلات هناك. في ظهيرة أحد أيام  الصيف الماضي، توقفت عند متجر يرعاه مسعد علي حمامة، أحد أبناء عمومة السيسي وعمره 32 سنة. الجدار الخلفي للمتجر مُزين بصورة لجد السيسي الأكبر، في الصورة -وهي بالأبيض والأسود- يجلس بطريقة متعجرفة مرتديا جلابية، ممسكًا بعصا في يده، ويضع طربوشا على رأسه.

قال حمامة إن كل رجال العائلة يتدربون خلال العطلة الصيفية في مراهقتهم على بعض الأعمال المتعلقة بالتجارة. تدرب السيسي كصدفجي - كان يستعمل سكينا بيد طويلة لانتقاء قطع صغيرة من عرق اللؤلؤ. قال حمامة "ليس لدينا وضع نقول فيه: ‘هذا ابن صاحب العمل، وهذا ابن الرئيس’ الطريقة الوحيدة هي تفاعل الكبار والصغار. إذا تحدثنا عن ابن عم والدي، فأنا أطيعه لأنه أكبر مني سنًا، عندما ياتي الأكبر سنًا من العائلة إلى المحل، فسوف يجلس هنا [على مكتب صاحب المحل] حتى إذا كان لا يعمل في هذه المهنة من الأصل. عائلتنا ليست من الصعيد، لكن يمكنك القول أننا نتبع في هذا عادات الصعايدة".

يُعرف صعيد مصر بالمحافظة، وسألت حمامة ما إذا كانت هذه العادة تزعجه. رد "لا، بالعكس. لأنه، كما أحترم الأكبر سنًا، سيأتي اليوم الذي يحترمني فيه من أهم أصغر مني".

 عندما كان السيسي في منتصف مرحلة المراهقة، التحق بالثانوية العسكرية. الخليط المكون من الانضباط العسكري والبنية الأسرية الصارمة والعقيدة الدينية الصادقة، خلقت منه شخصًا تقليديًا بكل المقاييس. تزوج من ابنة عمه، وهو أمر شائع لدى المصريين المحافظين، وزوجته وابنته من ربات البيوت. لم أستطع أن أجد دليلاً في الصحافة المصرية على أن زوجة السيسي أو ابنته لديهما سيرة مهنية. فتحي السيسي، أحد أبناء عمومة السيسي، قال لصحيفة الوطن إن السيسي رفض مرتين العمل ممثلاً عسكريًا في الولايات المتحدة، لأن السلطات المصرية طلبت من زوجته خلع حجابها أثناء وجودها في الغرب.

                                            

عائلة الرئيس عبد الفتاح السيسي

 بالنسبة للسيسي، فإن نظام مبارك عظة مروية. فمبارك أعد ابنه بشكل علني للسلطة السياسية، واستفادت أسرته الواسعة من الفساد على نطاق هائل. كانت زوجة مبارك، سوزان، منخرطة بشدة في السياسة خاصة فيما يخص شؤون المرأة، وكثيرًا ما تسبب دورها في استياء الإسلاميين والمحافظين الاخرين.

بعد الثورة، سجن مبارك وابنيه، ومصيرهم، بلا شك، هو أحد أسباب إبقاء السيسي أسرته بعيدة عن أعين الجمهور. أبلغتني الدخاخني أن الصحافة البحرينية أفادت ذات مرة بأن زوجة السيسي تصاحبه في زيارة رسمية، ومن ثم ذكرت المصري اليوم ذلك في قصة، فما كان من المكتب الصحفي للرئيس إلا أن اتصل بالصحيفة وطلب رفع الموضوع من على الموقع.

ويبدو أن السيسي تعلم الدرس من الحزب الوطني الديمقراطي، الذي أصبح بمرور الوقت تحت هيمنة رجال أعمال فاسدين. أخبرني عدد من المسؤولين الأمريكيين أن السيسي وبعض قادة الجيش كانوا، خلال الانتخابات الرئاسية الأولى بعد انتفاضة التحرير يشعرون بقلق من أحمد شفيق، منافس مرسي، وهو فريق متقاعد في القوات الجوية، كان آخر رئيس وزراء في عهد مبارك.

بالنسبة للسيسي ورجال الجيش، يحتمل أن يكون شفيق أكثر تهديدا من مرسي. وبدا أنهم يعتقدون أن الإخوان المسلمين يمكن السيطرة عليهم بسهولة، فيما قد يبعث شفيق الروح في حزب تكون له قوة حقيقية. حتى بعد الهزيمة أمام الإخوان، تأكدت الحكومة من إبقاء شفيق في المنفى - وهو يعيش الآن في الخليج (دولة الإمارات) حيث هناك عوائق قانونية تمنعه من العودة إلى مصر.

قال دبلوماسي أوروبي "السؤال الأكبر عن السيسي هو ما إذا كان يستطيع أن يتحول من قائد أعلى إلى سياسي. هو [السيسي] يعطي الانطباع بأنه يرى السياسة كنشاط، كشيء يتآكل". وقال مسؤول بارز في الخارجية الأمريكية إن السيسي يرى في وجود حزب مخاطر فقط، ولا يرى أية فوائد من ذلك. وقال "في الواقع يحتاج السياسيون إلى أحزاب لأكثر من سبب غير انتخابهم. تحتاج إلى أن تستمع إلى شعبك في أنحاء البلاد".

وصفت دبلوماسية أوروبية أخرى زيارة قامت بها للمقر الرئيسي لحملة السيسي خلال الانتخابات الرئاسية في 2014، التي فاز فيها السيسي بعد حصوله على 96% من الأصوات، وبعد القبض على عدد من أنصار منافسه. كان المقر في ضاحية نائية من القاهرة (التجمع الخامس)، عندما زارته الدبلوماسية الأوروبية خضعت لإجراءات أمن مشددة ووجدت المكان خاليًا إلا من مسؤولين حكوميين اثنين متقاعدين. وقالت "إذا زرت مقر حملة في نهاية انتخابات، تكون صاخبة بالشباب. لقد اختار الا يقوم بحملة انتخابية. لكن كانت لديه فرصة بناء تواصل مع الشباب".

الطريق المسدود

 

                                

مظاهرات 15 إبريل - جمعة الأرض

دون أحزاب حقيقية ومؤسسات سياسية حقيقية وسياسيين محترفين حقيقيين، هناك سبل قليلة أمام الشباب المصري للانخراط في السياسة، أكثر من الاحتجاج في الشوارع. فالأحزاب القائمة ضعيفة جدا وغير منظمة بالشكل الذي يجعلها تضم مساعدين أو متطوعين على أساس منتظم، والقوانين التي تهدف إلى الحد من التأثير الأجنبي فككت المنظمات غير الحكومية.

لا تزال نسبة قبول السيسي مرتفعة بشكل عام، لأن المواطنين يعتقدون أنه جلب الأمن إلى البلاد، لكن استطلاعات الرأي تظهر أن الشباب أكثر تشككا من المصريين الكبار. وهناك نحو 60 في المئة من سكان مصر تحت سن الثلاثين، وكان الشباب هم الذين هيمنوا على الاحتجاجات الأصلية في ميدان التحرير. ولهم وجود معتبر في الصحافة. والأمر الأكثر أهمية هو أن الشباب يمثلون القطاع الأكثر تأثرا بنقطة ضعف السيسي الكبرى: سياساته الاقتصادية.

واحدة من زيارات السيسي الخارجية الأولى كرئيس للبلاد، كانت إلى الصين في 2014، وعاد في العام التالي. في الصحافة كان هناك حديثٌ عن اتباع النموذج الصيني. وكان التصور أن مصر يمكنها استخدام السلطوية لتأسيس سياسة اقتصادية قوية، لكن قليلا ممن هم داخل الدولة أخذوا الأمر على محمل الجد، كما فعل الصينيون.

دبلوماسي صيني في القاهرة أبلغني صراحة أن مصر تمضي في الاتجاه المعاكس للصين. وقال "إنها صورة معكوسة". وقال أشرف الشريف، وهو عالم سياسة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، "أستطيع أن أفهم العقد الاجتماع الذي يقضي بالسلطوية مقابل التنمية. لكن في مصر لديك سلطوية في مقابل عدم تنمية".

في يناير/ كانون ثان ألقى الرئيس شي جين بينغ كلمة في مقر جامعة الدول العربية بالقاهرة قال فيها "الاضطرابات في الشرق الأوسط تنبع من انعدام التنمية". أشار شي إلى "مقايضة العملة" و"الهندسة الوراثية" و"التعاونيات الإنتاجية"، واستخدم كلمة "تنمية" 23 مرة. وقال "التدين" مرتين. لم يذكر "الإسلام" أو "المسلمين" أو "الدولة الإسلامية" إطلاقا. بالنسبة للصينيين، تقوى المصريين والتزامهم بالأسرة التقليدية وأدوار النوع راسخة بقوة، بحيث أن التعليق عليها في العلن سيكون من العبث كمن يشتكي من الطقس. لكن الاختلافات الثقافية بين البلدين والطرق التي من خلالها يؤثرون على النتائج الاقتصادية والاجتماعية، هائلة. (من المستحيل، على سبيل المثال، تخيل صينيا طموحا يرفض عرضا خارجيا يمكن لزوجته أن ترتدي ملابس أكثر محافظة.)

في الصين تشكل الصناعة في المتوسط أكثر من ثلاثين في المئة من الناتج الإجمالي المحلي خلال العقود الثلاثة الماضية. في مصر - وهي بلد شاب من حيث السكان وتتمتع بعمالة رخيصة ووصول لخطوط الملاحة - تمثل الصناعة 16 في المئة فقط من الناتج الإجمالي المحلي الضعيف. لا يركز السيسي في معظم خطاباته على الصناعة، ولم تفعل سياساته شيئا لدعمها.

يعتمد القطاع الصناعي في مصر بشكل كبير على استخراج وإنتاج الطاقة، وهي قطاعات يعمل بها عدد قليل من الناس وتتذبذب مع أسعار النفط. السياحة كانت تساهم بأكثر من عُشر الاقتصاد، لكن مع الاضطرابات في الشرق الأوسط، ليس هناك أمل في تعافيها في المدى المنظور. وفي معدل مشاركة المرأة الاقتصادية وإتاحة الفرص للنساء الذي يصدر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، تحتل مصر المرتبة 132 من 144 دولة، خلف الكويت والإمارات وقطر. وهذا الترتيب أسوأ مما كانت عليه مصر قبل الثورة، ويعود في جزء منه إلى سبب المناخ الأمني الذي أجبر العائلات على الحد بشكل أكبر من نشاط الزوجات والبنات. واحدة من نتائج هذا الوضع هو ارتفاع معدل الحمل: ففي 2012 سجلت مصر معدل مواليد قياسي خلال عقدين.

                             

تحتل مصر المرتبة 132 من 144 دولة في تمكين النساء

يعد قطاع الخدمة المدنية المتضخم أحد القطاعات القليلة التي يعمل بها الكثير من المصريين. بدون حساب الشرطة والجيش، يعمل في القطاع الحكومي نحو 6 ملايين عامل، أكثر من ضعفي العدد في الولايات المتحدة وبريطانيا متحدتين. أكثر من ربع الموازنة المصرية ينفق على الرواتب الحكومية. ربع آخر ينفق على خدمة الديون. 30 في المئة أخرى تنفق على الدعم، وأكثره موجه للطاقة.

إذا بدا ذلك مثل لعبة، فذلك لأنه هكذا بالفعل. على مدى عقود تدعم المساعدات الخارجية مصر؛ فمنذ الانقلاب قدمت الدول الخليجية، التي تعتمد على مصر السنية لتحقيق التوازن مع إيران الشيعية، أكثر من 30 مليون دولار. وكانت تسريبات السيسي الإجابة على سؤال ما إذا كانت هذه الأموال جلبت احترام وامتنان المصريين. ففي سلسلة من تسريبات السيسي التي أذاعتها محطة تلفزيونية تركية بداية من 2014، يناقش السيسي ورفاقه الأموال الخليجية بأصرح الالفاظ التي يمكن تصورها. في إحدى المحادثات، يتحدث السيسي ومدير مكتبه عباس كامل، عن تقديم طلب آخر للقادة الخليجيين:

السيسي: اسمع، أصل إحنا محتاجين عشرة [مليارات] تتحط (توضع) في حساب الجيش. العشرة دول ساعة ساعة ما ربنا يوفق وننجح هيشغلوا للإيه؟ للدولة. وعايزين من الإمارات 10 زيهم، وعايزين من الكويت 10 زيهم، ده بالإضافة إلى قرشين يتحطوا في البنك المركزي، ويكمل حساب السنة بتاعة 2014.

كامل (ضاحكا)

السيسي: بتضحك ليه؟

كامل: ويغمى عليه.. ويغمى عليه

السيسي: ياعم الفلوس عندهم زي الرز ياعم

يجري السيسي وكامل حسابات عادية مع كل رقم يمثل مليار دولار. ومضى الحديث مثل سيناريو عن الزعماء العرب.

السيسي: الأمارات حطت أربعة

كامل: أدي تسعة

السيسي: والسعوديين حطوا أربعة

كامل: أدي 13

السيسي: وعليهم 3

كامل: أدي 16

السيسي: وأربعة من الكويت

كامل: أدي 20

السيسي: وبعدين

(صوت غير واضح): 20 ضيف عليهم 3.6 من.. من. من يناير، أيوه. و1.5 من الإمارات.

كامل: أدي 25. زي ما بقول لسيادتك والبترول.

السيسي: أنا حطيت البترول

كامل: حطيته سيادتك..

لا يبدو ان أحدًا في القاهرة يعلم من يدير السياسة الاقتصادية. بعد تولي السيسي لمنصبه، أقدم على رفع بعض الدعم عن الوقود والكهرباء، وهو ما أثنى عليه اقتصاديون كخطوة أولى نحو نظام أكثر استدامة. لكن اتخذت إجراءات حمائية قليلة. عوضا عن ذلك، ركز السيسي على مشروعات عملاقة ذات تكلفة عالية، مثل مشروع توسعة وازدواج للمجرى الملاحي لقناة السويس، الذي تكلف أكثر من ثمانية مليار دولار. وفي رأي معظم الاقتصاديين، من المستبعد أن تكون له عوائد تذكر في المستقبل القريب. وهناك محاولة ضعيفة نسبيا لإصلاح الخدمة المدنية (قانون الخدمة المدنية) مررها البرلمان أخيرا في أكتوبر/ تشرين أول.

قال لي روبرت سبرينجبورج، الخبير في الشؤون العسكرية ويعمل الآن باحثًا زائرًا في جامعة هارفارد: "السيسي يعتقد مثل كل رجال الجيش، أن الاقتصاد مجموعة من المشروعات التي يديرها الجيش. ليست لديه أدنى فكرة [عن الاقتصاد]. كما أن تركيبة عقلية الجيش شديدة الدفاعية. على عكس الصينيين، الذين أبقوا عملتهم لفترة طويلة منخفضة القيمة، كطريقة لجذب الاستثمارات والتصنيع. المصريون أنفقوا كمية كبيرة من موارد البلاد المالية على دعم الجنيه.

في العام الماضي، ازداد معدل ارتفاع سعر الدولار الأمريكي في السوق السوداء بشكل ثابت، وردت الحكومة بعمل كل الخطوات التي جعلت من المستحيل أن يلجأ أحدهم لاستبداله بالسعر الرسمي. وأوقفت مصانع مثل "جنرال موتورز" و "إل جي" إنتاجها بشكل مؤقت، لأنها لم تتمكن من تحويل الدخل المحلي إلى دولار لدفع مقابل الأجزاء التي يتم استيرادها.

في أغسطس/ آب، وافقت حكومة السيسي أخيرًا على قرض من صندوق النقد الدولي. وكانت مصر درست هذه الخطوة في 2011 و2012، لكن دعم دول الخليج والولايات المتحدة ودول أخرى سمح للحكومة إرجاء قرارات اقتصادية صعبة. وثبت أن التأجيل مكلف. في الوقت الذي وافقت فيه حكومة السيسي على دعم صندوق النقد الدولي، بات القرض مربوطًا بشروط أكثر صرامة من ذي قبل. فقد جمد قانون جديد بشكل فعال الرواتب الحكومية، وأصر صندوق النقد الدولي على أن تخفض مصر قيمة الجنيه، وتخفض دعم الطاقة وتفرض ضريبة القيمة المضافة - وتلك كان مجموعة مؤلمة بشدة بالنسبة إلى اقتصاد وصل معدل التضخم فيه لأكثر من 15%.

 

     في بداية نوفمبر/ تشرين ثان، سمحت الحكومة بتعويم الجنيه، وفقدت العملة أكثر من نصف قيمتها. وخلال الأشهر التالية، باتت الحياة أصعب على المواطن المصري. ويعيش أكثر من ربع المصريين تحت خط الفقر، ورغم هذا عاشت البلاد في وهم اقتصادي: قال رجل أعمال أجنبي في القاهرة "مقارنة ببلدان أخرى في أفريقيا، مصر لديها مستوى معيشة مرتفع حتى رغم الاقتصاد المختل". وواصل "هل يعيشون بشكل يفوق مواردهم؟ عندما يكون لديك الكثير من الاستيراد، وقوة عاملة ضخمة، وأجور منخفضة جدا ما، ومع ذلك لا تصدر—فهذه ليست تركيبة تؤدي للنجاح".

نادرا ما يبدو أن المسؤولين الحكوميين يفهمون الوضع؛ جزء من ذلك يرجع إلى أنهم محكومون بالتفكير عبر خبرتهم تحت مظلة تاريخ طويل من الدعم. منذ 1979، حين عندما وافقت مصر على معاهدة سلام مع إسرائيل، تلقت البلاد نحو 50 مليار دولار من المساعدات، قدمتها الولايات المتحدة.

المعدل الحالي لتلك المساعدات 1.5 مليار دولار في العام، معظمها عسكرية، من بينها أسلحة ومعدات أخرى. بشكل طبيعي يميل المستفيدون إلى التركيز على هذه الحلول بدلا من التفكير القضايا الاقتصادية الكبرى.

 بعد الإطاحة بمرسي، قررت إدارة أوباما ألا تعتبر ما جرى انقلابا، وهو ما كان سيؤدي بشكل آلي إلى إلغاء المساعدات. وكنصف إجراء، حجبت الولايات المتحدة بشكل مؤقت بعض المعدات العسكرية الرئيسية. لكن هذه السياسة، بدلا من أن تنعكس بشكل أعمق وطموح على الديمقراطية وحقوق الإنسان، أدت إلى الهوس بالتفكير في القطع المعدنية اللامعة (الأسلحة الجديدة). قال مسؤول أمريكي يسافر باستمرار إلى مصر "حقيقة أنك يمكن أن تقابل مصريا في الشارع يعلم أن هناك أمرا تنفيذيا وضع على طائرات الاباتشي المروحية.. هذا أمر جنوني". قال لي دانا روراباتشر، وهو عضو الكونغرس من أورانج كانتري بولاية كاليفورنيا، وهو مؤيد قوي للسيسي، إن الرئيس خلال المقابلات في العامين الماضيين ظل يتحدث عن الحاجة لقطع غيار دبابات.

قال دبلوماسي أوروبي "اعتدنا دائما أن نقول، ‘الأمريكيون المساكين يمنحون [مصر] مليار ونصف المليار سنويا ولا يحصلون على شيء في المقابل.. حسنا الإماراتيون والسعوديون أعطوا 30 مليار دولار في عاملين ولم يحصلوا على شيء في المقابل". لكن كل هذه البلدان حصلت بالضبط على ما دفعوا من أجله. كانوا دائما مدفوعين بالتعريفات الضيقة للاستقرار: الولايات المتحدة تريد السلام بين مصر وإسرائيل، والخليج يريد السلام بين الدول السنية والشيعية. وكلهم يريدون حكومة مصرية تحارب التطرف الإسلامي. إذا كانوا حقا يريدون تغييرًا اجتماعيًا وسياسيًا لما كانوا وجهوا أغلب أموالهم إلى الجيش المصري والمؤسسات المحافظة التي ليست لديها أي خبرة في الاقتصاد والتعليم أو السياسات الاجتماعية والسياسة.

لا مفجأة هناك في أن رجلاً عسكريًا مثل السيسي يرى العالم من وجهة نظر دفاعية. لكن الاستقرار السياسي طويل الأمد، يتطلب تغييرًا اقتصاديًا واجتماعيًا فوريًا. قال رجل الأعمال الأجنبي "إذا كنت بلدًا أجنبيًا يعتمد على السيسي في توفير يوفر الاستقرار. وهو يفشل باستمرار في خلق وظائف مستدامة للشباب المصري، إذن ما هو نوع الاستقرار الذي يقدمه؟"

في الثالث من فبراير/ شباط 2016، عُثر على جثة جوليو ريجيني، طالب الدراسات العليا في جامعة كامبريدج، 22 سنة، على جانب طريق القاهرة-الإسكندرية الصحراوي. كان ريجيني يجري أبحاثا حول النشاط العمالي المصري لرسالة الدكتوراة، وشاهده أصدقائه اخر مرة في 25 يناير/ كانون ثان، في الذكرى الخامسة للثورة. وكما ظهرت القصة، تغيرت التفاصيل بشكل مستمر.

                        

جماهير نادى إمبولي الإيطالى تقول: إمبولى مع العمال المصريين، وجوليو ريجينى وقف فى المعركة.

في بادئ الأمر، زعمت الشرطة أن ريجيني قُتل في حادث سيارة، لكن مكتب النائب العام كشف أنه يعاني من كسور وحروق وأن وجهه وجسمه مغطيان بحروق سجائر وجروح ناجمة عن طعنات. قدر مسؤول في الطب الشرعي المصري أنه عانى من تعذيب على مدى سبعة أيام.

في أواخر مارس/ آذار، زعمت وزارة الداخلية أن أربعة أشخاص قُتلوا في تبادل لإطلاق النار مع الشرطة كانوا جزءً من عصابة إجرامية خطفت ريجيني. وعرض مسؤولو الوزارة جواز سفر ريجيني وبطاقات هوية أخرى، زاعمين أنه عُثر عليها مع أعضاء العصابة. لكن القصة سرعان ما انهارت تحت وطأة تحقيقات أجراها صحفيون مصريون وأجانب، دفعت المسؤولين المصريين للإقرار علنًا بعدم وجود رابط -على ما يبدو- بين قتل ريجيني والقتلى الذين أعلنتهم السلطات تشكيلاً عصابيًا. علامات التعذيب، إلى جانب أن وثائق ريجيني يبدو أنها زرعت لدى العصابة، تشير إلى أن قوات الأمن مسؤولة بشكل كبير عن مقتله؛ فبحث ريجيني أقل ما يقال عنه أنه حساس، ويبدو أن هناك سببًا معقولا لتعذيبه. واستدعت إيطاليا سفيرها لدى مصر احتجاجا.   

ضحايا الميكروباص

 

فيما كانت الأزمة تطور، ألقى السيسي كلمة متلفزة زعم فيها أن مصر ضحية مؤامرات وقال "لو سمحتم متسمعوش كلام حد غيري".  وانتقد هؤلاء الذين احتجوا ضد الحكومة وألقى باللائمة على المصريين لعدم مساهمتهم في صندوق تأسس للمساعدة في التخفيف من الأزمة المالية (صندوق تحيا مصر). وفي عرض عسكري، أعلن "لو كل يوم عشرة مليون من التسعين مليون تليفون موبايل اللي موجود مع الناس صبح على مصر بجنيه من الموبايل بتاعه بعشرة مليون جنيه".

خلال تلك الفترة، انتقد عدد من مقدمي البرامج الحوارية (التوك شو) المؤثرين، الذين كانوا قبل عام من المؤيدين المخلصين للرئيس، بشكل علني. وقال يوسف الحسيني، مقدم برامج على قناة أون تي في الخاصة، "أظن أن فيه حائط جبار يحول ما بين الناس وبين الرئيس. أظن ان الرئيس لم يعد يتواصل مع الشعب ولا يصل له على الإطلاق". في السابق كان الحسيني شديد الولاء، حتى أن السيسي عرض عليه ذات مرة منصبا، لكنه الآن تحول أمام الكاميرا وقال للسيسي: "يافندم، هو حضرتك منزعج من الهتافات، ومش منزعج من القتل والتعذيب؟" (لاحقا، بعد أن اشتد انتقاد الحسيني، توقف برنامجه بشكل مؤقت).

في الربيع، تحدثت عن قضية ريجيني مع أنور السادات، ابن شقيق الرئيس السابق الذين كان قد اختير رئيسا للجنة حقوق الإنسان في البرلمان. في ذلك الوقت، اعتبر اختياره إشارة إيجابية، لأن السادات يحظى باحترام لدى المجتمع الدولي. تحدث عن مئات من حالات الاختفاء التي جرت منذ تولي السيسي السلطة. وقال السادات "كل يوم، ليس ريجيني فقط. كل يوم [الاختفاء القسري] مع المصريين".

السيسي والداخلية

 

في العام الماضي ارتفعت حالات الاختفاء والتعذيب، وفي مصر في الوقت الراهن هناك أكثر من 40 ألف سجين سياسي. قال السادات إنه في ظل حكم الأنظمة السابقة لم يكن يتخيل أن يتم إخفاء أجنبي وتعذيبه حتى الموت، ويعتقد أن ذلك يعكس انهيارا في القيادة. وقال "قد يكون ذلك حدث بسبب الضباط الشباب غير المحترفين. خطأ. لم يكن شيئا متعمدا".

في أغسطس/ آب، استقال السادات من لجنة حقوق الإنسان، مشيرا إلى انعدام التعاون من جانب الحكومة. عندما التقيته قال إن علاقة السيسي بالشرطة معقدة. وقال "لا يثق فيها، لكنه يستخدمها".

                             

انتهاكات الداخلية

في مصر، هناك تاريخ من التوتر بين الجيش والشرطة، مع تغيير في ميزان القوة. مبارك لم يثق أبدا في الجيش - لسبب واحد أن ضباطا إسلاميين اغتالوا سلفه (السادات) – وزاد من دعمه لوزارة الداخلية حتى تكون حصنًا داعمًا له. وباتت سمعة شرطته سيئة بسبب وحشيتها وضعف انضباطها. كان سلوك الشرطة أحد أسباب الثورة، لكن لم تكن أي حكومة -من تلك اللاتي تعاقبن التي على مصر بعدها- قوية بما فيه الكفاية لإجبارها (الشرطة) على تطبيق إصلاحات. وقال مسؤول بارز في وزارة الخارجية الأمريكية "ذات مرة، سألت السيسي، ‘لماذا لا تفعل شيئا حيال الشرطة؟’ قال لأنه لا يستطيع. قال إنها مافيا من مليون رجل".

خلال صيف 2013، بعد الانقلاب نظم آلاف من أنصار مرسي اعتصامين في القاهرة. قال تشاك هاجل إنه حذر السيسي مرارا من اتخاذ إجراء عنيف، لكن السيسي شدد على وجود اختلافات بين الشرطة والجيش. قال هاجل "كان يقول إنهم يعملون مع الشرطة لكنهم يحاولون عرقلة الشرطة عن ممارسة وحشيتها الشديدة. قلت ‘عليك أن تجد طريقة لمعالجة ذلك.‘ فكان رد السيسي أنه لا يسيطر على الشرطة ".

حتى تحت حكم مبارك، كانت كل مؤسسة تسعى لتأسيس مجال لنفوذها الخاص، وهي دينامية باتت أكثر وضوحا منذ الثورة. باتت وحشية الشرطة التقليدية أكثر رسوخًا حتى انه صار ينظر إليها باعتبارها مجرد خلل في التطبيق. ويعلم السيسي، مثل كل الزعماء المصريين قبله، أن الشرطة يمكنها القيام بأشياء لن يتحمل هو مسؤوليتها بشكل مباشر.

في صباح 14 أغسطس/ آب 2013، فضت قوات الأمن اعتصامات أنصار مرسي بوحشية صادمة. لم يكن المحتجون سلميين بشكل كامل- بعضهم كان لديه أسلحة؛ فقط قتل ثمانية ضباط شرطة. لكن الأغلبية العظمي من المتظاهرين كانوا عُزل، ولم تقدم قوات الشرطة التحذيرات المناسبة أو مخارج آمنة للناس حتى يغادروا. وقدرت منظمة هيومان رايتس ووتش القتلى في ذلك اليوم بأكثر من ألف شخص.

بعد المجزرة، تحدث هاجل والسيسي هاتفيا. يتذكر هاجل: "قال إنه يأسف، يأسف بشدة. قال إنه كان يأمل ألا يحدث هذا. لم يكن هذا ما يريده أبدا، أو تريده بلاده". وواصل: "تحدث عن عائلته، وتحدث عن زوجته".

سألته ما الذي قاله السيسي عن عائلته.

قال هاجل: "كانوا مصدومين وحزانى. قال إن زوجته كان حزينة جدا وعائلته، لم يستوعبوا إراقة كل هذه الدماء. لم أقل إنهم لاموه على ذلك، لكنهم بالفعل كانوا متأثرين. قال إنهم كانوا يدعون من أجل الجميع".

 

قوات من الداخلية موقع اعتصام رابعة 

فعليا؛ أنهت المذبحة مرحلة الثورة. شهدت مصر، بكلمات أحمد الدبلوماسيين الأوروبيين "نورالجيا". بعد أكثر من عامين من الاحتجاجات والعنف السياسي، بدا أن الجميع مصدوم ومتعب. قرب نهاية 2013، سنت الحكومة قانونا يحظر فعليا أي مظاهرة دون موافقة رسمية، بعقوبة قصوى تصل إلى سنة في السجن.

في هذه الأيام تبدو حالة النوراجليا (مرض يصيب الأعصاب) واضحة في الحياة العامة المصرية. المواطنون ينخرطون في السياسة بطرق غير متوقعة وغير منطقية، كما لو كانوا يتشنجون بفعل نوبات مفاجئة من الألم. في أبريل/ نيسان، أعلنت حكومة السيسي إعادة جزيرتين غير مأهولتين في البحر الأحمر (تيران وصنافير)، كانت السعودية قد وضعتهما تحت السيادة المصرية في خمسينات القرن الماضي. بعد مفاوضات خاصة، وافق السيسي على ما قد يصفه البعض بأنه عمل يستحق الثناء: انتقال سلمي للأرض في الشرق الأوسط.

لكن لم تكن هناك مناقشات عامة أو حوار في البرلمان، وبدا الإعلان وكأنه انتظر ذلك التوقيت كي يتزامن مع حزمة مساعدات سعودية جديدة. عندما ظهر السيسي على التلفزيون، كان في موقف دفاعي، وأتى استدعاؤه* لموروث أمه هذه المرة بلا أثر على السامعين: "أمي علمتني ما أخدش حق حد"، ونظم ناشطون وصحفيون احتجاجًا أمام نقابة الصحفيين وسط القاهرة، شارك فيها بضع مئات، وكانت أكبر مظاهرة منذ تولي السيسي منصبه.

تيران وصنافير

 

 

مظاهرات الاحتجاج على التنازل عن تيران وصنافير

نقابة الصحفيين مؤسسة تمولها الدولة، وبشكل عام ظلت السلطات قادرة على اختراق المؤسسة، عبر تعيين موالين لها في مجلس النقابة. تحت حكم السيسي، سُجن عشرات الصحفيين والمدونين، لكن معظمهم كانوا شبابًا لا يتمتعون بعضوية النقابة ويفتقرون إلى دعم الصحف المطبوعة الحائزة على تراخيص رسمية. وخلال الجدل بشأن الجزيرتين، اتسعت حملة القمع.

عند نقطة معينة، تحرشت السلطات ببعض الصحفيين الذين سعوا للجوء إلى مبنى النقابة، واتهم السلطات ثلاثة من أعضاء مجلس النقابة  بإيواء مطلوبين قضائيا. عندما التقيت مع خالد البلشي، أحد أعضاء المجلس المتهمين، أخبرني بأنه كان ليبراليا لكنه لم يعتبر نفسه معارضا. قال "إذا كانت لدي فرصة عدم الذهاب إلى السجن، سوف انتهزها. دائما ما أقول ما أريد قوله، لكن أقوله بتأنٍ. لكن الآن أنت تتعامل مع نظام مجنون". تأخر البلشي عن موعدنا لأنه كان عليه أن يوقع على توكيل عام لمحام في قضية ما. بعد عدة أشهر من لقائنا، حكم على البلشي واثنين آخرين من أعضاء مجلس النقابة (النقيب يحيى قلاش وسكرتير عام النقابة جمال عبد الرحيم) بالسجن لمدة عامين، وهو قرار استأنفوا ضده.

كانت هناك محاولة لتنظيم احتجاج ثان بشأن الجزيرتين في 25 أبريل/ نيسان، بعد ظهر ذلك اليوم، شققت طريقي نحو النقابة. كانت الشرطة في كل مكان؛ أحد رجال الشرطة في ملابس مدنية كان يتسكع فيما تتدلى مجموعة من القيود البلاستيكية من جيبه الخلفي، مثل أدوات عامل اليومية. على بعد مبنى من النقابة، كان هناك عشرة أو نحو ذلك من الرجال يتسكعون في الشارع، وتوقفت لتبادل الحديث مع حسام خليل، وهو صحفي عمره 27 سنة يكتب في موقع "الحياة نيوز" الإلكتروني. أخبرني أنه هنا ليحتج لا ليؤدي عمله الصحفي.

وقال عن الجزيرتين المتنازع عليهما، "يجب أن يحظى الناس بفرصة لإبداء رأيهم". كان مقررا أن تبدأ المظاهرة بعد أقل من نصف ساعة، لكن الشرطة طوقت الشارع أمام النقابة. كان بصحبة حسام، المحاسب أحمد بكار الذي أخبرني أنه في الوقع لم يهتم كثيرا بمسألة الجزيرتين. وقال "أنا هنا لدعم حسام، لأنه صديقي". فيما كنا نتحدث، دخل أكثر من 20 شرطيًا بملابس مدنية فجأة. فحصوا بطاقات الهوية ودفعوا الشباب باتجاه صف من سيارات الشرطة. عندما رأى أحد الضباط جواز سفري الأجنبي، طالبني بالمغادرة. بعد 10 دقائق، اتصلت بهاتف حسام، لكنه كان مغلقا - افترضت أنه تم التحفظ عليه.

بعث أحد الصحفيين المصريين برسالة نصية إلى هاتفي ليقول إن المظاهرة انتقلت إلى ميدان المساحة (في حي الدقي)، وهو مكان مبهم على الجانب الآخر من النيل في الجيزة. وصلت فيما كانت سيارات محملة بالشباب تنزلهم على أطراف الميدان. بعد قليل، تكتل 300 شخصا وبدأوا يرددون هتافات: "يسقط يسقط حكم العسكر!"

استغرق الأمر سبع دقائق حتى ترد الشرطة، أطلقت قنابل الغاز المسيل للدموع وزخات من طلقات الخرطوش. وبعد قليل فر المحتجون في كل الاتجاهات. هرولت مع مجموعة شرقا إلى شارع سكني حيث أوقفنا مشهد مرعب: شرطي في ملابس مدنية، وجهه غاضب يصرخ ويركض نحونا وهو يستل مسدسه. ماذا كان يصرخ؟ إلى من كان يصوب سلاحه؟ لماذا ركض عكس الجمع المتفرق؟ لكن هذه أسئلة تضاف إلى الغموض الأبدي للشرطة المصرية. أي كان من يطارده، لم يكن نحن؛ التصقت إلى جانب نصف دزينة أخرى، بجدار حتى مر ذلك المهووس.

على بعد شارعين سكنيين من قلب الميدان، كام كل شيء هادئا. اقتربت من أربعة شباب افترضت أنهم جزء من الاحتجاج. لكن أسئلتي أربكتهم - في المدينة الكبيرة فوضوية التخطيط، كانت المظاهرة صغيرة جدا بشكل جعل هؤلاء الشباب لا يلحظونها، لكنهم ابتهجوا عندما علموا أني أجنبي. أحدهم سأل "هل يمكنك ترجمة ذلك؟" وكان يناولني ردا مطبوعا على طلب تأشيرة مقدمة إلى قطاع خدمات الهجرة والتجنس الهولندية. إحدى الجمل كانت تقول بالإنجليزية:

ليس لدينا يقين باحتمالية أنك ستعود إلى موطنك الأصلي دون إبطاء، جزء من ذلك بسبب الوضع المحلي أو العام في بلدك الأصلي/ إقامتك المعتادة و/أو علاقاتك الاجتماعية الضعيفة هناك.

فعلت كل ما بوسعي في الترجمة وواصلت السير نحو نهر النيل. ما الذي تفعله إذا كنت شابا مصريا؟ اتصل بي حسام هاتفيا في وقت لاحق هذا المساء، ليطمئن أني بخير. احتجزته الشرطة لأكثر من ست ساعات ثم أطلقت سراحه؛ وكان بكار لا يزال قيد الاحتجاز، إلى جانب نحو 300 آخرين. بعد ثلاثة أيام، ظهر بكار في المحكمة. حكم على المحاسب الشاب، الذي ألقي القبض عليه قبل أن يصل إلى الاحتجاج، بالسجن عامين.

في الحجز، وجد بكار أنه من الصعب الخضوع للاستجواب كسجين سياسي، حيث أنه "لم يرتكب" أي عمل احتجاجي، ولم ينضم إلى أي منظمة سياسية، وفي الوقع ليست لديه أراء سياسية قوية. كانت غريزته تتجه نحو خلق أعذار: أخبر ضابط التحقيق أنه كان يستعيد حاسب آلي يتم إصلاحه بالقرب من النقابة. بعد يومين، في استجواب آخر، زعم أنه كان يتسلم بذلة من خياط، لحضور زفاف ابن عمه. لا حقا لم يستطع شرح لماذا قدم هذه الرواية الجديدة، غير أن المحققين بدا أنهم غير راضين عن الأمر.

كما أنهم لم تعجبهم ردود بكار على أسئلة عن تاريخه الانتخابي. فبعد الثورة، ذهب إلى صناديق الاقتراع ثلاث مرات، وفي كل مرة أبطل صوته عمدا. في 2011 و2012، كان ذلك عملا معتادا من قبل الشباب الذين لم يحبذوا الاختيارات الانتخابية. لكن تلك الممارسة أربكت المحققين. يتذكر بكار "قالوا ‘أنت غريب الأطوار، أنت غريب. كيف تكون مليئا بكل هذه التناقضات؟‘" سألوه إذا كان ينتمي إلى الإخوان المسلمين، أو إذا كان لديه أي أقارب في الجماعة، وبدا انكاره محبطا لهم بشكل كبير. في النهاية، سألوه إذا كان مسلما. عندما قال لهم إنه مسلم، اشرقت وجوههم: "اذًا لماذا لم تصوت لمرسي؟ ألا تريد الشريعة؟"

نجح السيسي في رسم صورة لنفسه كمحارب للإسلام المتطرف، فيما يزعم الناشطون أن حملته القمعية تودي فقط إلى خلق مسلحين جدد. لكن هاتين الروايتين قد تكونا خاطئتين. لا دليل على أن هناك حركة مقاومة إسلامية واسعة على غرار تلك التي ظهرت في ثمانينيات وتسعينات القرن الماضي، عندما انخرط الإسلاميون في هجمات عنيفة في أنحاء مصر. قالت نانسي عقيل، التي تدير معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط الذي يحلل تقارير الإرهاب، إن الجيل السابق من المطرفين الإسلاميين دائما ما يصورون صراعهم بمصطلحات دينية رفيعة. وقالت "يهتمون بالتعرض للقضايا الثقافية التقليدية. على سبيل المثال، كانوا يلقون بسائل حمضي (حارق) على غير المحجبات". في هذه الأيام، هاجم الإسلاميون أيضا الفنادق والنوادي الليلية التي تقدم الكحول وكان الأجانب هدفا رئيسيًا لهم.

ونادرا ما تستهدف الحركة [المتطرفة] الراهنة الأجانب أو السياح، باستثناء تفجير طائرة متروجيت، التي اعتبرت ردا على السياسة الروسية في سوريا. كانت هناك هجمات متفرقة على الكنائس القبطية، من بينها هجوم أخير قتل فيه أكثر من 20 مصلٍ في الكاتدرائية الرئيسية في القاهرة. لكن أغلب الإرهاب يركز على الشرطة والجيش المصريين أو ممثلي الدولة. قالت عقيل أنه فيما المقاومة الراهنة تستخدم نموذج الإسلام المتطرف، تميل أهدافها لأن تكون سياسية أكثر منها دينية أو ثقافية. الأمر نفسه ينطبق على "بيانات الإرهابيين"، التي غالبا ما تركز على قضايا ليس لها صلة بالإسلام مثل جزيرتي البحر الأحمر (تيران وصنافير). قالت عقيل "الرسائل الآن، تقريبا، سياسية وكأنها صادرة عن جماعة سياسية".

في الأغلب لم تكن هناك أعمال عنف في صعيد مصر، الذي كان حاضنة للتطرف الإسلامي قبل 30 سنة. هذه الأيام، معظم الهجمات تقع في سيناء، وتقول عقيل إن العدد الإجمالي للمقاتلين [في شبه الجزيرة] بين 500 وألف. وقال حسن حسن، وهو زميل في معهد التحرير ومتخصص في دراسة "داعش": إن نحو 600 مصري ذهبوا للقتال في سوريا والعراق. وهذا أقل من عدد المواطنين الألمان الذين يُعتقد أنهم انضموا إلى داعش، وأقل قليلا من عدد التونسيين. احتمال أن ينضم بلجيكي إلى تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا أو العراق يزيد عن احتمال انضمام المصري بست مرات.

 قال حسن "في مصر، الناس لا تلتفت إلى هذه المنظمات لأنهم يعرفونها جيدا". وأوضح أن مُجَنَدي داعش من الدول الأجنبية يميلون لأن يكونوا متعلمين ورفيعي الثقافة، لكن لديهم سوء فهم للإسلام، الأمر الذي يجعلهم سريعي التأثر.

في المقابل، حصّنت التجربة المصرية التقليدية مع التطرف الإسلامي وتجربتها الأخيرة مع الإخوان المسلمين، معظم المواطنين ضد هذه الأفكار. بالنسبة للمصريين، الذين دعم أغلبهم الانقلاب، كان فشل الإخوان أيضا فشلاً للإسلام السياسي. قال دبلوماسي أوروبي "أعتقد أن الإسلاميين، ، أكثر مما كنا ندرك في ذلك الوقت، عانوا من هزيمة سياسية. نميل لآن نراهم وكأنهم هزموا على أيدي قوات الأمن، لكن الهزيمة السياسية التي تلقوها لا تقل فداحة".

 في مصر، الناس الذين قد يكونوا من مُجَنَدي الدولة الإسلامية في أماكن أخرى - المتعلمون ورفيعو الثقافة - يميلون إلى الاعتقاد بأن "داعش" صنيعة أمريكية كسبيل لزعزعة استقرار المنطقة. ولهذا كانت مقاطع الفيديو غير فعالة: ففي أعين الكثير من المصريين، يمثل التنظيم أمريكا، وليس الإسلام. والمساجد المصرية، الذي حظت بأهمية سياسية في السنوات الأولى من الثورة، تبدو الآن هامشية.

                

المفتي يلقي خطبة الجمعة الموحدة 

تحت حكم السيسي، وضعت قواعد مشددة جديدة قيودا على من يُسمح له بإلقاء خطبة الجمعة، الأمر الذي أطاح فعليًا بالسلفيين وبقية المتطرفين من على المنابر. أصدرت الحكومة خطبًا أسبوعيةً موحدةً، ومن بين موضوعات هذا العام "الإسلام دين بناء وتعمير" و"المنتجات الوطنية وأولويتها في البيع والشراء". كانت هناك خطب حول ترشيد استهلاك المياه والكهرباء والحفاظ عليها.

قال لي سيد الكومي، وهو إمام مسجد المدينة الجامعية في جامعة عين شمس في القاهرة، إنه خلال خطبة ترشيد الكهرباء أعلن أن المسجد سوف يستخدم 15 فقط من 30 مروحة لديه. بدا أنه من الصعب الاعتقاد أن هذه رسالة في جامعة، كانت حتى قبل سنوات قليلة، يخرج منها آلاف الطلاب المتظاهرين بنية تغيير البلاد.

في 2013، بعد المذبحة، أجريت مقابلات مع أئمة ومتدينين في أكثر من 24 مسجدا حول القاهرة. في نفس الوقت، كانت أقلية من الشيوخ مناوئين عنيدين للانقلاب. هذا الربيع، زرتهم مرة أخرى ووجدت أن آرائهم تغيرت، لكنهم لا يرون جدوى من الانخراط في السياسة. وهذا يتناقض مع الناشطين المؤيدين للديمقراطية، الذين كانوا أكثر احتمالا لتصور أزمة وجودية في المناخ الراهن.

لكن الإسلام لديه العديد من السبل الأخرى التي يمكن الخوض فيها دون السياسة. والأئمة الآن يبدو أنهم يركزون على مجتمعاتهم المحلية. قال الشيخ أحمد السيد، إمام مسجد العزيز بالله، الذي يجتمع فيه جماعة من المصلين كثير منهم سلفيون، "وسط الاكتئاب والفقر، كثير من الناس يحاولون العيش فقط". في 2013، بدا الشيخ أحمد وكأنه تحت ضغط، وسمعت منه أنه ألقى خطبة برسالة مقاومة واضحة. لكن هذا العام يبدو أنه أكثر ارتياحًا وميلاً للفلسفةً. خلال إحدى خطب الجمعة، قال للمصلين "إذا كانت السعادة تأتي من السلطة، لكان الوزراء سعداء".

أطيح باثنين من أكثر الأئمة المعارضين للسيسي الذين التقيتهم في 2013 من مناصبهم. في السنوات التي تلت، تلقى كل منهما إعادة تكليف جديدة بعد دفع رشاوى صغيرة للسلطات. فاجأني ذلك الأمر - في هذه الأيام، لا يمكن لناشط حقوقي أن يحل مشكلة سياسية بسهولة. الإمامان قالالي أنه لا يوجد أحد من معارفهما أو أصدقائهما في السجن، أما الناشطون، فلديهم كلهم قائمة طويلة من الرفاق المسجونين. لكن يبدو أن النأي بالنفس أسهل عند الأئمة. أحدهم قال "الموجة القادمة من التغيير سوف تحدث بسبب الاقتصاد. الناس ليس لديها طعام، وسوف يخرجون إلى الشوارع". سألته إذا كان هذا يعني أن الأئمة المناوئين للسيسي من غير المرجح أن يقودوا أي مقاومة مستقبلية. أومأ قائلا: "لن يبدأوها. لكن إذا حدثت، فسوف يشاركون".

هذا العام، انخرط السيسي في بعض لحظات الصدق العلني غير العادية. وقال في كلمة تلفزيونية في مايو/ أيار: "طلوا على بلدكم صحيح. دي أشباه دولة. مش (ليست) دولة حقيقية".

بعد خمس سنوات من ميدان التحرير، كان أحد انجازات الثورة الرئيسية هي الكشف، وليس الإصلاح. ومع كل تعرية جديدة، ينكشف أن مصر دولة دون مؤسسات حقيقية، يقودها رجل ليس بسياسي حقيقي.

ورغم كل مشكلات البلاد، تظل احتمالية الانهيار التام أمرًا مستبعدًا. وعلى عكس الدول التي شكّلها الاستعمار مثل سوريا والعراق، تملك مصر حسّا قويا بالوحدة، إنها في النهاية أقدم دولة على وجه الأرض. وحقيقة أن الإسلام المتطرف لا يحظى بجاذبية كبيرة لدى المصريين اليوم، رغم كل ما شهدوه من معاناة، عامل إيجابي آخر.

يشير بعض المحللين إلى أن مبارك تضاءل تفكيره بطريقة عسكرية مع مرور الوقت، وربما يتطور السيسي بطريقة إيجابية، فهو يبدو قويًا في مواجهة الفساد. وحتى أعنف منتقديه يخشون بدائل رحيله، يقول النائب أنور السادات: "أعتقد أنه سواء  كان السيسي هو الخيار الأمثل أم لا، ليس امامنا خيار سوى أن ينجح". وأضاف: "مصر لا تستطيع تحمل ثورة ثالثة".

كما قال دبلوماسي أوروبي؛ إن السيسي يمكنه التصدي بسهولة لأي تحرك ضده، مثلما فعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ردا على محاولة الانقلاب الأخيرة في تركيا (في 15 يوليو/ تموز 2016). وأضاف: "يمكنه أن يوجه نداءً إلى الشعب ويقول: أنا أمثل النظام، وسيدعمونه جيدًا”. وأضاف: "ربما يناشد أيضًا مسؤولين أمريكيين، خاصة أن السيسي، بعد فوز الرئيس المنتخب دونالد ترامب، كان أول زعيم أجنبي يهاتفه ليهنئه بالفوز".

 قال حسام خليل "إذا رحل السيسي الآن؛ شخص ما من المؤسسة العسكرية سوف يدير البلاد". وتوقع أن يقضي السيسي فترتين مدة كل منهما أربع سنوات، يمكن بعدهما انتخاب مدني لإدارة البلاد. وهو هدف شديد التواضع بالنسبة لشاب خاطر بقضاء فترة في السجن، فقط لخروجه إلى الشارع.

لكن الخط بين توقعات اليوم ومطالب الغد ليس مستقيما على الدوام أو يمكن التنبؤ به. في مصر، من المستحيل تخيل كيف سيتم تسوية التجربة الثورية في أذهان أكثر من 50 مليون شخص لم يبلغوا بعد الثلاثين من أعمارهم.

في مايو/ آيار، توقف حسام عن العمل، لأنه شعر بالاكتئاب والذنب من اصطحابه لبكار إلى المشاركة في الاحتجاج. تابع حسام جلسات محاكمة بكار، وحاول مواساة والدته الأرملة. بعد ذلك في مطلع يونيو/ حزيران قبل شهر رمضان بقليل، تمت تبرئة بكار و32 متهما آخرين بشكل غير متوقع.

في الليلة التالية للإفراج عن بكار، التقيت معه في مقهى بوسط البلد. بدا متعبًا ونحيفًا، لكنه قال إنه كان محظوظا في السجن. "آخرون عُذِبوا"، لكنه لم يكن بينهم. قال إن بعض الحراس كانوا من المجندين الشباب، وبكوا عندما رأوا نظرائهم يجرون كسجناء.

في لا دولة يقودها غير سياسي، بدا بكار من غير الناشطين. هو لم ينضم أبدًا إلى تنظيم سياسي ولم يصدر بيانات؛ في الحقيقة لم ينطق بكلمة واحدة في يوم القبض عليه. كان استجوابه مسرحية هزلية من الاشتباه والخوف والارتباك. كل مرة دخل فيها مركز اقتراع في ديمقراطية مصر الوليدة، كان يبطل صوته. ومع ذلك قضى ستة أسابيع كسجين سياسي، وهي تجربة بدت بلا معنى. لكن عندما سألته عما تعلمه، كان رده متماسكا على نحو مفاجئ.

قال "تعلمت أنه حتى لو أن لي حقًا، وهو من حقوقي الأساسية، فهناك ثمن، وعليّ دفعه، تمامًا مثلما دفعه أناس آخرون". أخذ نفسا عميقا من سيجارة كاريليا وابتسم - ليس هناك من مدخن أسعد من شاب خرج لتوه من السجن، وفي أول ليلة من ليالي رمضان بعد الإفطار. قال "تعلمت أيضا أن من يمارس القمع يحيا في الخوف".


ورد خطأ لغوي في نسخة مبكرة من هذه الترجمة بنصب الفاعل سهوًا.