فيلسوف مصر القَلِق | عبد الرحمن بدوي.. من النقد إلى الدفاع عن الإسلام

منشور السبت 18 فبراير 2017

هل كان انتقال بدوي وغيره من المفكرين من النقد إلى الدفاع تحولًا أم امتدادًا طبيعيًا؟ هل هو تحول إلى النقيض أم تطور؟ هل هي ظاهرة عامة أم فردية؟ هل هي مرتبطة بطبيعة تكوين المفكر العربي المعاصر أم بظروف الارتداد السياسي-الاجتماعي إلى الأصولية بعد نكسة 67؟

يمكن القول بتواضع واختصار شديدين أنّ عبد الرحمن بدوي (1917-2002) علامة فارقة في تاريخ الأكاديميات العربية عمومًا، والجامعة المصرية بوجه خاص، فيما يتعلق بمجال الدراسات الفلسفية بشقيها الكبيرين: الإسلامية والغربية. لقد أنتج بدوي كمًا عظيمًا من الأعمال الأصيلة والشارحة والملخِّصة والمترجَمة والموسوعية، دون أن يغرق في الكم بديلًا عن الدقة العلمية، وصار مرجعًا غير قابل للتجاوز في مختلف تخصصات الفلسفة بالنسبة للعرب. من الصعب أن تتعرض عربيًا لأفلاطون أو أرسطو أو أفلوطين أو كانط أو هيجل أو شوبنهور أو التصوف الإسلامي أو تأريخ الفلسفة (مثلًا) دون أن يقابلك مرجع مهم أو اثنان لبدوي في التخصص. هذا هو راهب العلم الحقيقي في ثقافتنا المعاصرة. وليست أهمية بدوي وشهرته مرهونتين فقط بدوره كـ(ناقل) للفكر الغربي، وإن كان هذا الدور في سياقه التاريخي المبكر من عمر الجامعة المصرية مُهمًّا بشكل جوهري في حد ذاته، ولكن كذلك بدوره كـ(مبشِّر) بالفلسفة الوجودية تحديدًا، وصاحب إبداع فيها، ربما نختلف على مدى أهمية إبداعه ذلك، ولكن لا يمكن لنا أن نقول بنقاء ضمير أنه كان مجرد ناقل للوجودية.

اقرأ أيضًا: مشروع الترجمة عند عبد الرحمن بدوي

وإن كان أغلب الباحثين العرب لا يتنازعون فيما بينهم على هذه الحقائق السابقة،[1] والمتعلقة بشكل أساسي بمرحلة بدوي قبل حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952 في مصر، وتحديدًا قبل دستور 1956 وإلغاء دستور 1954 الذي شارك في إعداده، ونزاعه مع حكومة الضباط الأحرار، فإنهم أيضًا لا يكادون أن يتفاوتوا فيما هم عليه من حال الدهشة أو التساؤل إزاء مؤلفات بدوي الأخيرة في المرحلة التالية، التي هاجر فيها بدوي من مصر ليعمل في الكويت وإيران وليبيا وليقيم في فرنسا ثم يعود في ختام حياته إلى مصر. هذه المرحلة الأخيرة هي التي أصدر فيها سلسلة الدفاع عن الإسلام الشهيرة بالفرنسية، وخاصةً: "دفاع عن القرآن ضد منتقديه"-1988 Défense du Coran Contre ses critiques (اختصارًا سنرمز إليه بـ: دفاع-ق) و"دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره"-1990 Défense de la vie du Prophète Muhammad contre ses Détracteurs (اختصارًا: دفاع-م)، اللذين وجدا لهما المتحمسين من التوجهات والمؤسسات الأصولية الإسلامية، كما وجدا ناقدينَ ومندهشينَ كما تقدم. مما أيّد على الفور أطروحة شبه-محايدة تفترض أن المفكر العربي المعاصر لا بد وأن ينتهي إلى الإسلام بشكل أو بآخَر، مهما غالى في نقده أو تجاهله، والقائمة طويلة تحت هذه الفرضية: زكي نجيب، سيد قطب، خالد محمد خالد، محمد عمارة، مصطفى محمود، محمد عابد الجابري (بعد تفسيره للقرآن) إلخ[2]، وهي قائمة إشكالية في كل اسم ممن احتوتْهم بطبيعة الحال؛ وأغلب التساؤلات التي تثيرها هذه القائمة هي: هل هو تحول أم امتداد طبيعي؟ هل هو تحول إلى النقيض أم تطور؟ هل هي ظاهرة عامة أم فردية؟ هل هي مرتبطة بطبيعة تكوين المفكر العربي المعاصر أم بظروف الارتداد السياسي-الاجتماعي إلى الأصولية بعد نكسة 67؟ وأغلب قوائم وحالات التحول الإقليمية والعالمية مثيرة للتساؤلين الأول والثاني بالذات، كما نجد في حالة هيدجر مثلًا فيما يعرَف بالألمانية بـ: Kehre.[3] وبالتالي اندرج (تحول) بدوي المزعوم في السياق نفسه من الإشكال. فبينما يرى حسن حنفي مثلاً أن بدوي لم (يتحول) أصلاً، وإنما مثلت كتاباته الإسلامية الأخيرة امتدادًا طبيعيًا لنزعته الموسوعية، وهو ما نختلف معه هنا، يرى آخرون أن بدوي قد مر بتحول حقيقي تقليدي بشكل ما إذا وُضِع في سياق قائمة التحولات سابقة الذكر.[4]

لكن اللافت هنا أن كتابات بدوي الأقدم في التراث الإسلامي، والتي صدر بعضها أيضًا بعد النكسة، لم تثر إشكال التحول سالف الذكر؛ فمثلًا أصدر بدوي "دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي" سنة 1979، كما أصدر كتابيه الشهيرين، اللذين حاول فيهما أن يؤصل للوجودية عميقًا في التراث الإسلامي، والصوفي بخاصة: "شهيدة العشق الإلهي"، و"الإنسانية والوجودية في الفكر العربي"، بالإضافة إلى "شطحات الصوفية"، و"روح الحضارة العربية"، و"الإنسان الكامل في الإسلام". علينا هنا أن نتساءل عن السبب في أن هذه المؤلفات لم تثر ما أثارته ثلاثية الدفاع عن الحضارة الإسلامية، والسبب هو: الدفاع. إن كل تلك المصنفات السابقة على مرحلة الدفاع يمكن باطمئنان علمي تصنيفها في فئتين: فئة العِلم للمذهب، أي البحث الموظَّف لخدمة توجه الباحث، وفيها كل من "شهيدة العشق الإلهي" و"الإنسانية والوجودية"، وفئة العِلم للعِلم، أي البحث المحايد الذي لا يستهدف مذهبًا، وفيها بقية المصنفات المذكورة وغيرها، والواضح في هذا التصنيف ومِن محتويات المصنفات أن أيًا من هذه المؤلفات لم يستهدف (الدفاع) عن الإسلام بشكل أو بآخَر، بل إما الوجودية وإما العِلم. ولكن على أي حال إن لم يكن ذلك الدفاع تحولًا، فإنه يمكن القول بأن مسار بدوي كان-على الأقل-معقدًا أو متعرّجًا، مما يستلزم أولًا وقفة لترتيب الأوراق بخصوص هذا المسار في بنيته وتطوره.

مِمَّ تكون مشروع بدوي الفلسفي؟ (البنية)[5]

إذا كان من الصعب كما يجمع الباحثون الإحاطة بمشروع بدوي، الذي لم يقهره في درجة جمعه بين التنوع والدقة مشروع فلسفي عربي معاصر حتى الآن، فمن الممكن أن يتفق الباحثون أيضًا على تقسيمه طبقًا للأغراض الخمسة التالية:

أ-تأسيس التراث الفلسفي المدرسي: فقد بدأ بدوي نشاطه العلمي في لحظة تاريخية اختلطت فيها الكتابة العلمية العربية بالصحفية بالأدبية، كما في مؤلفات العقاد ولويس عوض وتوفيق الحكيم مثلًا، فصار من أولوياته أن يساهم في صوغ سياق مرجعي أكاديمي يتمتع بصفتي التنوع والدقة، التنوع نظرًا للتنوع الأصلي للمجالات الفلسفية، التي لم تكن قد تأسست مدرسيًا بشكل علمي صارم بعدُ، والدقة من أجل تحقيق هذه الصرامة العلمية. وهو التوسع الأفقي لبدوي، الذي شمل كل تخصصات الفلسفة المعروفة في عهده تقريبًا، من تاريخ الفلسفة بعصوره المختلفة، إلى مناهج البحث، إلى الموسوعات، إلى الاستشراق، إلى الإسلاميات، وإشكالات الفلسفة المركزية: كالسياسة، القانون، الأخلاق، المنهج، المصطلح، المذهب.

ب-تقديم الوجودية عربيًا: وهو ذلك القسم الملحَق أيضًا بالتوسع الأفقي، لكنه يختلف عنه في أنه تأسيس للتراث العلمي للوجودية تحديدًا باعتبارها مذهب المؤلف. وهو يشمل كلًا من: "مشكلة الموت في الوجودية" (الماجستير)، "دراسات في الفلسفة الوجودية".

جـ-تأصيل الوجودية عربيًا: وهو قسم ملحق بدوره بالتوسع الأفقي، لكنه يسير في اتجاه مختلف، يهدف إلى بيان أن الوجودية ليست نزعة جديدة تمامًا، وأن لها سوابق أقرب إلى إرهاصات في التراث الإسلامي، وخاصة التراث الصوفي، لكنها لم ترقَ إلى تكوين مذهب في تلك العصور الغابرة.[6] وهذا القسم يضم كلًا من "شهيدة العشق الإلهي" و"الإنسانية والوجودية في الفكر العربي". وهو قسم لا ينفكّ عن دعاية مذهبية، ببيان أن الوجودية ليست ضد الدين وليست غريبة إلى هذا الحد عن الحضارة المَحَلية.

د-حصار اليسار: على حد قول بدوي نفسه في "سيرة حياتي"، سيرته الذاتية، فقد قدم المثالية الألمانية بالذات في أعماله، ككتاباته عن كانط وفشته وشلنج وشوبنهور وهيجل، محاولة منه لمجابهة المادية التاريخية.[7] فالمثالية الألمانية أعدل خصوم الماركسية. وهو غرض دعائي-مضاد.

هـ-الإبداع: وهو التوسع الرأسي لبدوي، الذي يضم بشكل أساسي كلاً من "الزمان الوجودي" (الدكتوراه)، و"هل يمكن قيام أخلاق وجودية؟".

هناك بالطبع أعمال جمعت بين أكثر من دور من هذه الأدوار الخمسة، وهناك بالطبع تداخل زمني بين هذه الأقسام، ولكنها قسمة يمكن الاسترشاد بها على الأقل في فهم تحولات بدوي الفلسفية. ولكن ما موضع كتاباته الدفاعية بين هذه الأقسام؟ هذا هو الأمر الثاني اللافت بصدد كتابات الدفاع عن الإسلام عند بدوي؛ فهي غير ممكنة التصنيف تحت أي قسم من هذه الأقسام الخمسة؛ هي ليست وجودية، وليست علمية بحتة (تقديمية-تأسيسية)، وليست على علاقة مباشرة مع غرض مواجهة اليسار، وإن كانت كُتبت وصَدرت فعلًا قبل تفكيك الاتحاد السوفييتي، كما أنها ليست إبداعية. هل تضيف مصنفات الدفاع لديه قسمًا سادسًا؟ وما ماهيته؟ بل ما ماهية هذه المصنفات الدفاعية؟

أول خصيصة ممكنة الرصد لهذه الكتابات الدفاعية هي صفة (الدفاعية) نفسها. والدفاع موقف فلسفي، معروف في أعمال المتكلمين وعلماء اللاهوت بالذات، ويقوم-كما يعرف متخصصو الفلسفة الإسلامية والمسيحية-على منهجية الجدل (وليس الديالكتيك) التي تهدف إلى إسكات الخصم، بصيغة القاضي عبد الجبار الشهيرة "لو قالوا.. قلنا..". وهي تركز بالتالي على تفنيد حجج الخصم، وقبل ذلك تقوم على افتراض (خصم)، وليس مجرد (صاحب وجهة نظر مختلفة). ولكن متى غابت الخصومة عن بدوي؟ وهو سؤال بلاغي وحقيقي في آنٍ. ويعرف كذلك المختصون كيف أن الدفاع يفترض تلقائيًا الهجوم، وكيف يقابل كل من الدفاع والهجوم موقفَ النقد؛ فالنقد لا يبحث عن خصم، ولا يقوم من منطلق الخصومة المذهبية؛ لأنه لو حدث ذلك فإنه ليس نقدًا؛ لأن النقد كي يكون نقدًا يجب أن ينصب على الأنا قبل الآخَر، وهو الفارق الأساسي بين الدفاع-الهجوم وبين النقد، وإذا كنتَ تنقد نفسكَ قبل الآخَر، فكيف تعتبره خصمًا؟ بكلمات أخرى يقوم الموقف النقدي أساسًا على الشكّ والتساؤل، وحتى حين يصل إلى نتائج محددة فإنه لا يعزلها عن النقد، وإلا عُدّ ذلك خللًا في المنهجية النقدية. وبالفعل فكتابات بدوي سوى الدفاع تقدم موقفًا لا ينحاز فيه الباحث بشكل مباشر لطرف ضد طرف، ولا يفترض خصومًا، على عكس كتابات الدفاع التي قامت أصلًا على الخصومة. مما يجعل من الضروري اكتشاف منطقٍ حكَم تحولات بدوي داخل وخارج هذه الأقسام الخمسة، بما يتضمن كذلك غرض الدفاع؛ فإن بحث هذه العلاقة هو الذي سيمكننا أو سيمنعنا من إضافة قسم سادس.

كيف تحول مشروع بدوي الفلسفي من النقد إلى الدفاع؟ (منطق التطور)

لا يمكن الحديث بدءًا عن (التحول) دون إضافة البعد التاريخي لأي ظاهرة. والظاهرة أمامنا هي تلك الأقسام الخمسة العامة لمشروعه. وقد بدأ بدوي فعلًا بالتمذهب الواضح في كتابه عن نيتشه (تقديم الوجودية)، ثم انتقل إلى الدرس العلمي الصارم بعد تمكنه من الأدوات البحثية (تأسيس التراث المدرسي)، صعودًا إلى اتساع اهتماماته البحثية، غربيًا وإسلاميًا، مع تأصيل الوجودية إسلاميًا (حضاريًا وليس دينيًا)، ومع التحولات السياسية المحلية والدولية تحولت كتاباته كذلك إلى مواجهة اليسار، مع قدر من الإبداع الفلسفي. وهو ما يشير إلى أن عوامل محددة، هي بشكل رئيسي التمذهب، والتمكن البحثي، والتوسع في الاهتمام البحثي، والظرف السياسي، قد تحكمت في تطور وتعقُّد مساره العلمي. والعامل المقترح في منطق التطور هذا لتفسير التحول إلى الدفاع هو التحولات السياسية؛ فالاهتمام بالإسلاميات لديه قديم كما قدمنا. فهل فرضت التحولات السياسية بدءًا من النكسة صعودًا إلى هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، أي ضعف الخصم الأيديولوجي السابق، خصمًا أيديولوجيًا جديدًا، وبالتالي جانبًا صديقًا جديدًا؛ لأن العدوّ يستلزم وجود الصديق كذلك؟ هل صار الخصم المستشرقين الذين هاجموا الإسلام، وصار الإسلام صديقًا، بعد أن كان مجرد مادة بحث وتأصيل؟ ولماذا؟ أم هل هناك عامل جديد في هذا التطور الجديد الدفاعي، هو عامل التدين ببساطة؟ (وهو العامل الذي يركز عليه الإسلاميون بطبيعة الحال). ولكن الإشكال هنا حتى إذا افترضنا عامل التدين: كيف انتقل المفكر من العقلية النقدية إلى عقلية التسليم والإيمان؟ ولكن قد يمكن رفع الإشكال إذا لم يكن هذا الدفاع المزعوم (دفاعًا) بالمعنى المعهود، أي إذا كان نفسه بحثًا نقديًا برغم دفاعيته بشكل ما.

هل كان دفاع بدوي نقديًا بمعنًى من المعاني؟

لا، لم يكن. كان دفاعًا هجوميًا بصريح اللفظ وفاحشه: "جرأة جهولة حمقاء" (دفاع-ق، ص 7)، "كلام شاذّ" (دفاع-ق، ص 24)، "عقيم عبثي" (دفاع-ق، ص 25)، "تهيؤات" (دفاع-ق، ص 25)، "هذه الكتب لا تستحق أن ندرسها" (دفاع-ق، ص 31) وغيرها الكثير جدًا مما يفوق أي معجم ألفاظ مقذِعة استعمله بدوي، ربما باستثناء "سيرة حياتي". إن استعمال كاتب ما لهذه الألفاظ السبابية الصريحة أو السخرية في أحيان أخرى يدخله جزئيًا على الأقل ضمن قائمة الدفاع-الهجوم، بقدر ما يخرجه جزئيًا من قائمة الموقف النقدي، لكنه لا يكفي لإدراجه الكلي في القائمة الأولى، ولهذا –كي يدرج بدوي نفسه أكثر ضمن هذه القائمة- فقد استكمل بعض الشروط الهامة الأخرى.

بصفة عامة تتنوع السمات الهجومية في كتابات بدوي الدفاعية إلى أربع:

  • السباب (سبق ذكره)
  • الاتهام واستقراء النوايا
  • تعميم الأحكام
  • تغيير الموقف تجاه الشخص الواحد من الدفاع إلى الهجوم

ويمكن استخلاص السمات الأربع السابقة بسهولة من كتاباته الدفاعية؛ فبدايةً يحدد بدوي أسبابًا خمسة لأخطاء المستشرقين في الحكم على الإسلام:

  • ضعف تعلمهم للغة العربية
  • فقر مصادرهم المعرفية بصدد الإسلام بالنسبة لفروضهم الكبرى
  • الضغينة والحقد ضد الإسلام
  • اعتبار أن التشابه بين القرآن وغيره من الكتب المقدسة انتحال
  • التبشير والتعصب (دفاع-ق، ص 7-8)

يظهر في السابق الاتهام واستقراء النوايا بصدد السبب الثالث. رغم أن هناك استثناءات هامة، فمثلاً يرى نولدكه في "تاريخ القرآن" أن محمدًا نبيّ بمعنى من المعاني.[8]

يقول بدوي: " لقد ذهب بعض من السطحيين [...] أن في القرآن انتحالاً وتقليدًا وسرقةً [...] وهذا ما قام به مستشرقون مثل جولدتسيهر-شفالي-مرجليوث، ونتحفظ نوعًا ما فيما يتعلق بنولدكه الذي يتبرأ نوعًا ما من مؤلفه (تاريخ القرآن) عندما رفض إعادة طبعه تاركًا المستشرق شفالي يقوم بهذه المهمة، فطبع الكتاب ثانية وأصبح يعرف بكتاب نولدكه–شفالي" (دفاع-ق، ص 7). في حدود علمي ومن واقع تخصصي في أصول الفقه والتفسير وعلوم القرآن (وهي تخصصات متشابكة) لا يمكن تعميم الحكم بالسطحية بهذه السهولة على مستشرقين من عينة جولدتسيهر مثلًا في مرجعه بالغ الأهمية في وقته "اتجاهات التفسير الإسلامي للقرآن"[9]، ولا شفالي، ولا على أهم مرجع غربي في علوم القرآن إلى الآن "تاريخ القرآن" لنولدكه. وبصدد تبرؤ نولدكه من كتابه فهذه فرضية تخالف واقع الأمر؛ فنولدكه نفسه أفاد في تقديم الطبعة الثانية أنه اعتمد بنفسه تحرير شفالي، وبالتالي لم يتبرأ من المصنَّف.[10] وبصدد جولدتسيهر ونولدكه كذلك تنكشف السمة الهجومية الأخيرة لبدوي: تغيير الموقف تجاه الشخص الواحد من الدفاع إلى الهجوم؛ يقول بدوي عن جولدتسيهر في موسوعة المستشرقين: "يشاء الله أن يهب الإسلام من الأوربيين من يؤرخون لـه كسياسة فيجيدون التأريخ، ومن يبحثون فيه كدين وحياة روحية فيتعمقون هذا البحث، ويبلغون الذروة فيه أو يكادون [...] وكان سيد الباحثين فيه من الناحية الدينية خاصة والروحية عامة اجتنس جولدتسيهر" (موسوعة المستشرقين، ص 197). ويقول عن نولدكه (في الموسوعة "نيلدكه"، لكن حرف ö أقرب إلى الواو من الياء): "يُعَد نيلدكه (1836 ـــ 1931) شيخ المستشرقين الألمان غير مدافع، وقد أتــاح له نشاطه الدائب وألمعية ذهنـه واطلاعه الواسع على الآداب اليونانية وإتقانه (التام) لثلاث من اللغات الســامية (العربية-السريانية-العبرية) مع استطالة عمره حتى جاوز الرابعة والتسعين أن يظفر بهــذا المكانة لـيس فقط بين المستشرقين الألمان، بل بين المستشرقين جميعًا" (موسوعة المستشرقين، ص 595). لم يكن دفاع بدوي إذن نقديًا، بل استغرق في السباب والاتهام واستقراء النوايا وتعميم الأحكام الجائر وأخيرًا تبديل المواقف دون تقديم تفسير، برغم وجاهة نقده لآراء المستشرقين في كتابي الدفاع في مواضع كثيرة. ولكن إذا كانت فرضية (الدفاع النقدي) قد فشلت في هذا الاختبار السريع، والذي أراه محكمًا كذلك، فهل يمكن لفرضية أكثر تطرفًا أن تفسر هذا التحول المتطرف بالقدر نفسه في الموقف الفلسفي لبدوي؟

هل كان موقف بدوي الفلسفي نقديًا في الأساس قبل مرحلة (الدفاع)؟

إذا كان حسن حنفي يرى أن بدوي هو الفيلسوف الشامل (بتعبيره) الموسوعي، الذي غلب عليه النقل والشرح والتقديم على حساب الإبداع، وبالتالي فلا يوجد ثمة تحول حقيقي؛ لأنه لا انحياز حقيقيًا لديه، فإن هذه الفرضية الجديدة تقترح العكس: أنّ بدوي كان طيلة الوقت مدافعًا-مهاجمًا، وإن اختلفت جبهات الدفاع والهجوم في كل مرة. وهذا التحول في الجبهات هو الذي يفسر تحولات بدوي السابقة. صحيح أن كتاباته المدرسية تمتعت بقدر عالٍ من الدقة والتنوع، لكنها كذلك أغفلت مدارس ومذاهب هامة، لا يمكن تجنبها أصلاً في الحديث عن سياق الفلسفة الألمانية بالذات: دافيد شتراوس، ماكس شترنر، برونو باور، إدجار باور، ألكسندر كوجيف، إنجلز، ماركس نفسه، وغيرهم من تيار اليسار الهيجلي. وبينما يعد ذلك التوجه عند الهيجليين أهم تطوير لهيجل كمًا وكيفًا، أو مهمًا على الأقل بشكل لا يمكن تفاديه عند التعرض لهيجل، فإن عناوين بدوي تكاد تخلو تمامًا من الإشارة إليهم أفرادًا أو اتجاهًا. أما بقية أقسام مؤلفاته: تقديم الوجودية، تأصيلها، حصار اليسار، فهي مؤلفات هجومية-دفاعية أساسًا، حتى لو لم تصرح بهذا؛ لأنها مذهبية إيجابًا (الوجودية) أو سلبًا (الماركسية). ولكن السؤالين اللازمين هنا هما: كيف تآلفت الدقة العلمية مع الموقف الدفاعي، والمفترض في الموقف الدفاعي أنه لا يقوم على الشك الضروري لتحقيق الدقة؟ ولماذا لم يضع بدوي كلمة (دفاع) في أي من العناوين السابقة لمؤلفات الدفاع عن الإسلام؟

إجابة السؤالين واحدة: لقد كان بدوي (يستعمل) الدقة العلمية في مواجهة خصومه، الذين احتفظ بهم في مواجهته على الدوام، حتى إذا تلاشى الخصم أو هُزم بحث عن خصم جديد، فلا معركة بلا خصومة، ولا خصومة بلا خصم، وربما لا بدوي بلا معركة. ولم يضع بدوي كلمة (دفاع) في أغلب مؤلفاته فعلًا؛ لأنها في سياق الجدل الفلسفي الوجودي-الماركسي دليل على ضعف الموقف النقدي، مما سيضعف الموقف العام؛ ولا خلاف أن في الوجودية نفسها موقفًا نقديًا قويًا واعيًا، مثلًا في "مهمة تفكيك تاريخ الأنطولوجيا" عند هيدجر[11]، أما الموقف النقدي للماركسية فليس في حاجة إلى بيان. باختصار رأى بدوي في الالتزام الشكلي بالحياد العلمي في مرحلة ما قبل الدفاع سلاحًا في معركة معينة، ثم حين تغيرت المعركة وصارت ضد المستشرقين كان (الدفاع) منطقًا مناسبًا لاكتساب تعاطف المعسكر الإسلامي المناوئ للمستشرقين، وهذا هو ما حدث فعلًا. ويبدو أن علاقة بدوي بالمستشرقين علاقة أعقد مما نعرف، أو مما كنا نتصور أننا نعرف.

ما موقف بدوي من الاستشراق؟ وهل نقدَ بدوي الاستشراقَ كمستشرق؟

يمكن التمييز بين نوعين من نقد الاستشراق: تجزيئي، يستعمل أسلوب الرد على كل من النقاط الجزئية التي يوردها المستشرق، وكلي يعيد تنظير النظرة إلى الاستشراق في منهجيته واستراتيجيته الأساسيتين. وقد اتبع بدوي أسلوب النقد التجزيئي في أغلب إن لم يكن كل مواضع نقده للاستشراق، لهذا يعد نقده بالأحرى نقدًا للمستشرقين لا الاستشراق. وفي نقده لهم اتبع منهجيتهم العامة، والتي يمكن تلخيصها –في رأيي- في ثلاثة أقسام أساسية: 1-تجاهل الوعي في موضوع الدراسة، وهو الذي يظهر في تصورهم عن ظواهر الشرق باعتبارها ردودَ أفعال تاريخية على ظواهر سابقة أو مجاورة، فمثلاً تشابه القرآن مع الكتاب المقدس لأن محمدًا (نَقل) عنه، رغم أن محمدًا قد يكون قد (اختار) –في نظر المستشرق غير المسلم- الدخول في علاقة مع الكتاب المقدس، وهو الذي قدم نفسه كمصحح ومكمِّل، ولم يقل كمبدِع. 2-الفصل بين العلوم الإسلامية: فلا يمكن دراسة تيارات التفسير في الإسلام بفصل التفسير عن أصول الفقه وعلوم القرآن كما فعل جولدتسيهر مثلًا. 3-إعادة بناء نماذج تاريخية غير دقيقة أو مزيفة: وهي خاصية تعرضنا لها في أكثر من بحث، وهي خطأ منهجي عند المستشرقين والعرب على حد سواء، ويقوم على أساس عدم الشك الكافي في معرفتنا بالتاريخ.[12] وقد استعمل بدوي فعلًا في كل المواضع في كتابيه الدفاعيين موضوع المناقشة هذه التقنيات الثلاث (إضافة إلى مواضع الدفاع عن القرآن راجع مثلًا دفاع-م، ص 71-75). يبقى النقد الأخير للاستشراق من وجهة نظري وتجربتي في أوروبا: أن المستشرق كأستاذ وكمؤسسة لا يدعم في إطار برامج المنح والمشروعات البحثية البحثَ المبدِع الناقد، بل يفضل البحث التراكمي التقليدي، لا البحث الذي يقوم بنقد وتأويل وإعادة بناء وتفكيك مثلًا. رغم أن هذا البحث الأخير هو الأجدر بفوزه بالمنح الدراسية، ليس فقط لأنه مبدِع، بل كذلك لأنه صعب الإجراء في بلده لأسباب رقابية.

لم يقدم بدوي نقدًا متعاليًا للاستشراق، بما يقوم على التعالي على الأبعاد الجزئية لاكتشاف ظواهر كلية استراتيجية (كما فعل إدوارد سعيد في "الاستشراق")[13] أو منهجية (وهذا أهم من الاستراتيجية، كما قدم حسن حنفي في "التراث والتجديد")[14]، وإنما اتخذ موقف الرد الجدلي نقطة بنقطة، دون أن يحاول تنظير النقد، ودون أن يصل إلى استكشاف ماهية الاستشراق أو خصائصه الجوهرية. في نقطة درامية ما وقع العداء بين بدوي والمستشرقين، ربما لم نجدها بعد، وربما وضعنا أيدينا عليها حين قلنا أن بدوي كان الباحث الأبدي عن الخصوم، حتى إن لم يخاصمه أحد.

المصادر والمراجع:

  1. أحمد عبد الحليم عطية: عبد الرحمن بدوي نجم في سماء الفلسفة (تحرير) (مركز الكتاب للنشر، القاهرة، ط1، 2003)
  2. إدوارد سعيد: الاستشراق، ترجمة: محمد عناني (دار رؤية، القاهرة، ط1، 2006)
  3. حسن حنفي: التراث والتجديد (المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط5، 2002م)
  4. حسن حنفي: حوار الأجيال (دار قباء، القاهرة، ط1، 1998)
  5. حسن حنفي: هموم الفكر والوطن-ج2 (دار قباء، القاهرة، ط1، 1998)
  6. سعيد اللاوندي: عبد الرحمن بدوي، فيلسوف الوجودية الهارب إلى الإسلام (مركز الحضارة العربية، القاهرة، ط1، 2001)
  7. عبد الرحمن بدوي: دراسات في الفلسفة الوجودية (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1980)
  8. عبد الرحمن بدوي: دفاع عن القرآن ضد منتقديه، ت: كمال جاد الله (الدار العالمية للكتب والنشر، 1999)
  9. عبد الرحمن بدوي: دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره (الدار العالمية للكتب والنشر، 1999)
  10. عبد الرحمن بدوي: سيرة حياتي، ج1 (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2000)
  11. عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين (دار العلم للملايين، بيروت، ط3، 1993)
  12. كريم الصياد: مناهج التفسير في الفكر العربي المعاصر، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، عدد ديسمبر 2015.
  13. هاني علي نسيرة: الحنين إلى السماء، دراسة في التحول إلى الاتجاه الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين (مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، ط1، 2010)
  14. Goldziher, Ignaz, die Richtungen der islamischen Koranauslegung, Buchhandlung und Druckerei, Vormals E. J. Brill, Leiden,1920
  15. Heidegger, Martin, Sein und Zeit, Max Niemeyer Verlag, Tübingen, 19. Auflage, 2006
  16. Palmer, Richard E., Hermeneutics, Northwestern University Press, Evanston, USA, 1969
  17. Theodor Nöldeke, Geschichte des Qorans, zweite Auflage, bearbeitet von Friedrich Schwally, Dieterich'sche Verlagsbuchhandlung, Theodor Weicher, Leipzig, 1909
 

[1] يمكن في ذلك مثلاً مطالعة كل من: أحمد عبد الحليم عطية: عبد الرحمن بدوي نجم في سماء الفلسفة (تحرير) (مركز الكتاب للنشر، القاهرة، ط1، 2003)، حسن حنفي: حوار الأجيال (دار قباء، القاهرة، ط1، 1998).

[2] يمكن مثلاً مطالعة: هاني علي نسيرة: الحنين إلى السماء، دراسة في التحول إلى الاتجاه الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين (مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، ط1، 2010)، حسن حنفي: هموم الفكر والوطن-ج2 (دار قباء، القاهرة، ط1، 1998)

[3]  Palmer, Richard E., Hermeneutics, Northwestern University Press, Evanston, USA, 1969, p. 141.

[4] مثلاً: حسن حنفي: حوار الأجيال (دار قباء، القاهرة، ط1، 1998) ص 310، هاني علي نسيرة، مرجع سابق، سعيد اللاوندي: عبد الرحمن بدوي، فيلسوف الوجودية الهارب إلى الإسلام (مركز الحضارة العربية، القاهرة، ط1، 2001).

[5] أضف إلى ذلك إبداعات وتراجم أدبية بالغة الأهمية، لكن السياق قاصر على المشروع الفلسفي.

[6] بدوي: دراسات في الفلسفة الوجودية (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1980) ص 20.

[7] بدوي: سيرة حياتي، ج1 (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2000) ص 354.

[8] "Dass Muhammed ein echter Prophet war, muss man zugestehen, wenn man seinen Charakter unbefangen und sorgfältig untersucht und den Begriff der Prophetie richtig fasst [...und] Wenn nur ganz neue, unerhörte Ideen für einen solchen passten" Theodor Nöldeke, Geschichte des Qorans, zweite Auflage, bearbeitet von Friedrich Schwally, Dieterich'sche Verlagsbuchhandlung, Theodor Weicher, Leipzig, 1909, s. 1/2.

[9]  Goldziher, Ignaz, die Richtungen der islamischen Koranauslegung, Buchhandlung und Druckerei, Vormals E. J. Brill, Leiden,1920

[10]Theodor Nöldeke, S. V-VI.

[11] Heidegger, Martin, Sein und Zeit, Max Niemeyer Verlag, Tübingen, 19. Auflage, 2006, S. 21.

[12] انظر مثلاً: كريم الصياد: مناهج التفسير في الفكر العربي المعاصر، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، عدد ديسمبر 2015.

[13] إدوارد سعيد: الاستشراق، ترجمة: محمد عناني (دار رؤية، القاهرة، ط1، 2006)

[14] حسن حنفي: التراث والتجديد (المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط5، 2002م)