فيلسوف مصر القَلِق | "حب المصير".. نظرة على وجودية بدوي

منشور الأربعاء 22 فبراير 2017

يتخرج الطالب من الثانوية العامة بمجموع طيب، يجد أمامه عددًا كبيرًا من الكليات، هل يلتحق بكلية الطب الأفضل مجتمعيًا، أم يلتحق بكلية الأداب رغبة في زيادة معرفته، أم بإحدى كليات الفنون ليثري موهبته، عليه أن يختار كلية واحدة يحقق فيها ذاته ويعدم الفرص الأخرى. نحن هنا أمام ذات إنسانية، منفتحة على عدة إمكانيات، ستختار منها واحدة وتفقد الإمكانيات الأخرى، هي ذات حرة، وبالتالي هي تتحمل مسؤولية، وتخاطر عندما تختار. وربما بعدما يقضي الطالب سنته الأولى في الجامعة، قل في كلية الطب مثلًا، سيعود ويشعر بفقدان فرصه الأخرى، وبالإمكانيات التي أعدمها وسيراوده شعور القلق.

مع بعض التصرف، كان هذا هو المثال الذي طرحه عبد الرحمن بدوي في كتابه "دراسات في الفلسفة الوجودية" الذي يعتبر مقدمة شاملة لهذا المذهب ولأبرز فلاسفته، والذي ضمّن فيه ملخصًا لإسهامه هو أيضًا.

اقرأ أيضًا: مئوية ميلاد عبد الرحمن بدوي.. فيلسوف مصر القَلِق

شهد النصف الأول من القرن العشرين حربين عالميتين، قُتِل فيهما ملايين البشر، وهُدد الملايين الآخرون بالفناء، فكان لا بد من أن تقوم الفلسفة بدورها، أن تحدد موقع الإنسان من العالم، وموقع الذات الفردية من الآخرين. ولكن القصة لا تبدأ من القرن العشرين، نحن لا نعرف من أين بدأت القصة، ربما بدأت منذ وجود الإنسان، ولكننا سنعود إلى قرن واحد سابق.

في القرن التاسع عشر كانت أفكار الفيلسوف الألماني هيجل تسيطر على الفلسفة، وكان هيجل إلى جانب الفيلسوف الألماني كانط السابق له أبرز اسمين في الفلسفة المثالية، التي كانت تناقش مفاهيم الإنسان والواقع والعالم من منطلق العقل والأفكار.

يرى هيجل أن الواقع، أو الكون، هو مطلق "روح مطلق"، وهو مفهوم أزلي، لا يتأثر بالزمان، ولكنه يصبح واعيًا بنفسه من خلال العقل البشري، ويتطور هذا الوعي على مر الزمان. مشكلة هذا المفهوم أن الوجود المطلق هو الأساسي، ورغم أنه مفهوم لا يعتمد على مرجعية دينية فمن الممكن للمتدينين أن يقاربوا هذا المفهوم بمفهوم "الله" مثلًا، في حين أن الوجود الفردي الذاتي ليس سوى وجود عرضي، ليس سوى وسيلة لإدراك الوجود المطلق لذاته.

يترتب على ذلك سحق للحرية الفردية، وبالتالي من المتوقع أن تجد عند هيجل احتفاء بمفهوم الدولة أو بالتقليد المسيحي.

في القرن التاسع عشر جاء فلاسفة أكثر وعيًا بالوجود الذاتي مثل الدنماركي كيركجورد والألماني نيتشه، ثم جاء هيدجر في النصف الأول من القرن العشرين، وهو الفيلسوف الذي أثّر بشكل كبير على عبد الرحمن بدوي.

يشير بدوي في كتابه "الزمان الوجودي" إلى أن الوجود المطلق "ليس وجودًا حقيقيًا"، لأنه غامض ولا نملك عنه فكرة واضحة، إنما الوجود الحقيقي هو وجود الفردية والذاتية.

بالطبع هناك وجود الموضوع، وهي الأدوات الموجودة في العالم، والتي نستخدمها، تلك الموجودات التي لا تدرك ذاتها. ولكننا لا نستطيع أن نعرف أنفسنا بدون وجود الموضوع، الذي تتحقق فيه الذات، هنا يسقط وجود الذات في وجود الموضوع، تسقط الذات من الإمكان إلى الواقع، ولكن السقوط ليس مفهومًا سلبيًا هنا، فبدون السقوط ستكون الذات مجرد إمكانية.

يربط بدوي هنا بين الذات والإرادة، يجد المرء ذاته عن طريق فعل الإرادة، هنا ينتقد بدوي فرضية ديكارت "أنا أفكر إذن أنا موجود". الوجود لا ينبع من الفكر في الوجودية، إنما ينبع من الإرادة والفعل.

تنتقل الإمكانية الذاتية إلى الواقع بفضل الحرية، وتحقق بعض إلإمكانات في الواقع عن طريق الإرادة، وذلك في الزمان. الفلاسفة الأقدم كانوا يعتبرون أن الزمان يسيطر على بعض جوانب الكون ولا يسيطر على الأخرى، الزمان موجود عند هيجل ولكن الروح المطلق موجود بمعزل عن الزمان. في الوجودية لا بد أن يرتبط الوجود بالزمان. الزمان يؤثر على الموجودات، وطالما سلمنا بأن هناك شيئًا موجودًا فهو متأثر بالزمان.

لن نشعر بالوجود عن طريق الفكر المجرد. لذلك يستعين بدوي باللفظ العربي "وجدان" كشعور يجعلنا نعرف الوجود. ورغم نقد هيجل، استفادت الوجودية منه مع ذلك، هيجل كان يؤمن أن الوجود ممتليء بالمتناقضات التي تتقابل وتصعد إلى مركب، فهو مثلًا يضع الوجود في مواجهة العدم، ثم يصعد الطرفان في مركب وهو الصيرورة.

هناك تقابُل في الوجودية، وفقًا لكتاب بدوي "الزمان الوجودي"، ولكن ليس بين مقولات عقلية كما كان الحال مع هيجل، إنما مع مقولات خاصة بالوجدان، والتقابل هنا يسميه بدوي التوتر.

فالقلق مثلًا يقابل الطمأنينة، والوحدة المتوترة بينهما هي "القلق المطمئن"، وكما قلنا في مثال الطالب الذي يشعر بالقلق بعدما اختار إمكانية على حساب إمكانيات أخرى، يشعر الإنسان بالعدم عن طريق القلق. وعند هذا الشعور بالتحديد يدعو بدوي إلى تبني رأي نيتشه عن "حب المصير" هذا الحب يتكون من الرضا بما تحقق من إمكانيات والرجاء في تحقيق أكبر قدر ممكن من الإمكانيات الأخرى.

والوجود الذاتي لكي ينتقل من الإمكان إلى التحقق يحتاج إلى علو، وهذا العلو يسلب بعض الإمكانيات التي يمكن أن تتحقق، وهذا السلب هو العدم. بالتالي العدم جزء من تكوين الوجود. ولكن بدوي يختلف عن هيدجر الذي يراه اكتفى بالإحساس بالعدم عن طريق شعور القلق. إنما العدم موجود في الانفصال بين ذات وذات وأخرى، هذه الهوات هي التي تشكل العدم، وهذا الانفصال وهذه الهوات هي الأصل في الفردية، وبالتالي هي الأصل في الحرية. تلك الحرية التي تنقص مع كل اتصال جديد بالذوات الأخرى، وتزيد مع كل انفصال.

يقول بدوي إن الذات الحقة "هي التي تحافظ على العدم". وربما يمكننا أن نضيف "بقدر المستطاع".

 

الأخلاق الوجودية

عادة ما كان الفلاسفة ينتقلون من البحث في الفلسفة النظرية إلى الفلسفة العملية، أو ينتقلون من الميتافيزيقا إلى الأخلاق. وعندما نتحدث عن الأخلاق فعادة نحن نبحث عن مرجعية يسير عليها كل الناس. أرسطو قديمًا تحدث عن الوسط الذهبي بين حالتين، فهناك الجبن وهناك التهور، ولكن هناك الشجاعة فيما بينهما، والشجاعة فضيلة. وعلى هذا النحو من الاعتدال يبنغي أن تكون حياة المرء.

وفي القرن الثامن عشر، ينصح كانط الإنسان ألا يتصرف إلا بطريقة يود من جميع الناس أن يتصرفوا بها.

في الوجودية ليس لدينا مرجعية موضوعية أو لاهوتية، ليس لدينا سوى الذات، فهل يمكن قيام أخلاق وجودية؟

كان هذا عنوان مقالة لعبد الرحمن بدوي، وكانت الإجابة بسيطة جدًا، كانت الإجابة "لا".

عَرَض بدوي في مقالته أراء الفلاسفة الوجوديين في المسألة، فمنهم من قال باللا أخلاقية ككيركجورد وياسبرز، وهناك من قال إن البحث الوجودي منعزل عن الأخلاق كهيدجر، وكان بدوي شَرَح في كتابه "الزمان الوجودي" أن البحث في الوجود لا يستهدف التقويم "الأخلاقي".

ولكن بالاستعانة بنيتشه، لا يرى بدوي نفي كل أخلاق، لأن الأخلاق من الممكن أن تكون نسبية، أخلاق تختارها بنفسك. في الأخلاق التي يفرضها عليك المجتمع أنت لا تختار بنفسك، لأن هناك اختيار تضامن عليه الغير وعليك أن تنفذه، وهكذا لا يتحقق وجودك الأصيل، إذ يفنيه الإنسان في الإذعان للآخرين. في المقابل يدعو بدوي في مقالته إلى الحرية المطلقة، وبالطبع سيؤدي هذا إلى عوائق مجتمعية توضع أمام الفرد، ولكن بدوي يفضِّل أن يخاطر الإنسان بوجوده عن أن يفقد ذاته. 

ليس لدى الوجودي في رأي بدوي مفاهيم ثابتة للصواب والخطأ، يقول بدوي في ذلك: "خطيئة الفعل خير ألف مرة من براءة اللا فعل، لأن اللا فعل هو اللا وجود".

وينهي بدوي مقالته بقوله: "افعل ما شئت ما دام جديدًا".

الوجودية والصوفية

يسهل انتقاد بدوي لاعتماده على الفلاسفة الوجوديين الغربيين الذين سبقوه، ويصير الانتقاد سهلًا لأنه بعد عدة كتب في الأربعينيات، انصرف إلى الترجمة والتحقيق والبحث المدرسي، ويسهل اعتباره صورة عربية إسلامية من هيدجر، رغم أنه بَيَّن في أكثر من موضع انفصاله في عدة مواضع عن رأي هيدجر وتطويره لبعض الأفكار في الوجودية، كمفهوم العدم ومفهوم السقوط.

ولكن حتى لو صح هذا الانتقاد، فبدوي لا يعدم العظمة، لقد أخرج الوجودية من كتب التراث الإسلامي، حتى شعر القاريء العربي أنه غير مغترب على الإطلاق عن المذهب الذي انتشر في العالم في منتصف القرن العشرين. وكانت هذه فرصة لبدوي ليرد على مفكرين غربيين قالوا إن الحضارات الشرقية خلت من النزعات الإنسانية.

كان المتصوفة في رأي بدوي هم أقرب الناس الذين عبروا عن نزعات وجودية، يشير بدوي إلى مركزية الإنسان في فكر ابن عربي مثلًا مستعينًا بقوله: "إن الله تعالى علِم نفسه فعلّم العالم، فلذلك خرج على الصورة. وخلق الله الإنسان مختصرًا شريفًا جمع فيه معاني العالم الكبير وجعله نسخة لما في العالم الكبير ولما في الحضرة الإلهية من الأسماء".

ويصرّ بدوي على أن المقارنات والتشابهات التي يوضحها بين الوجودية والصوفية ليست متعسفة، يقول في كتابه "الإنسانية والوجودية في الفكر العربي": "نقرر واثقين أن الصلة بين الوجودية المعاصرة وبين كيركجورد لا تزيد كثيرًا عن الصلة بين الصوفية الإسلامية وبين المذهب الوجودي".

كيركجورد الفيلسوف المسيحي يستخدم القصص الدينية المسحية واليهودية للتفسير الوجودي، وهو ما يقوم به الحلاج والسهرورودي وابن عربي في الثقافة العربية.

يرى بدوي أن نقطة الانطلاق في النزعتين هي الوجود الذاتي، فالصوفية نزعة ذاتية  لأنها تقوم على الذات العارفة التي تسعى إلى أن تعلو وتصل إلى تجربة الذوق الصوفي. وهي تحاول إحلال الوجود الذاتي مكان الوجود الفيزيائي.  


مصادر:

عبد الرحمن بدوي، الزمان الوجودي، دار الثقافة (بيروت)، 1973. 

عبد الرحمن بدوي، دراسات في الفلسفة الوجودية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980.

عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1984.

وليم كلي رايت، تاريخ الفلسفة الحديثة، ت: محمود سيد أحمد، دار التنوير، 2010.

عبد الرحمن بدوي، هل يمكن قيام أخلاق وجودية، مكتبة النهضة المصرية، 1998.

عبد الرحمن بدوي، الإنسانية والوجودية في الفكر العربي، وكالة المطبوعات (الكويت)، دار القلم (بيروت)، 1982.