ذكرى عصام عبدالله| غواية اللغة وسحر السينما

منشور الثلاثاء 21 مارس 2017

في مساء قاهري يشبه الأفلام الكلاسيكية، كنتُ أجلس مع صديقٍ في مقهي شعبي ممتلئ بصوت أم كلثوم تغني «جددت حبك ليه». وفي لحظة صمت لم أكن أستمع فيها للست باعتبارها خلفية معتادة لحياتنا داخل المقاهي. سألني صديقي: كيف نستمع لتلك الكلمات الأن وتُطربنا؟

استوقفني سؤاله وقتها لأستمع جيدًا للأغنية التي أحفظها. كانت الست تردد مقطع (إن مرّ على الخاطر ذكراه\ تنزل من الوجد دموعي) الذي كتبه أحمد رامي. استكمل صديقي حديثه، وقال إن تلك الكلمات تبدو جامدة كالحجارة، ولا تثير أي شيء بداخلنا.

فكرت قليلاً. بالفعل؛ أصاب صديقي جزءًا من الحقيقة. صحيح أن أم كلثوم تغني بلغتنا العامية المصرية، لكنّ تلك المفردات لم يعد لها وجود الآن. نحن نطرب ونتأثر لصوت أم كلثوم واللحن فقط، لكن من الصعب أن أحزن أو أتأثر من الوجد الذي يدفع للبكاء حين تمر ذكرى الحبيب!

تساءلت: هل توجد الآن كلمات غنائية تشبه المفردات اليومية التي نتحدثها بشكل عفوي؟ الإجابة: طبعًا لا. صحيح أن هناك كلمات تشبه المفردات اللغوية، لكنها منفصلة تمامًا عن تركيبة اللغة والجُمل المستخدمة في حياتنا اليومية. ويبدو أيضًا أن الأمر نادر الحدوث في معظم الأزمنة الغنائية، وليس علة زماننا فقط.

لكن هناك استثناء. لأن شاعرًا غنائيًا قرر ذات مرة أن يصدم الجميع، وجعلهم يغنون تلك المفردات التي يتحدثون بها بطريقة عفوية.

احتضنته القاهرة في مطلع الثمانينات. كانت العاصمة وقتها مجرد شريط ممتد من صوت «أحمد عدوية» وهو يشكو من الزحام. هكذا تبدو الصورة الأولى للمدينة المزدحمة صباحًا بألوان تُنبئ أن هُناكَ عصر جديد على الأبواب. لم يكن المزاج العام استقر بعد عصر الانفتاح الذي مزّق رداء الأبيض والأسود، وأعلن عن رداء مرصع بالألوان اللامعة.

 كانت تلك الحالة تكسو الساحة الفنية والعامة في مصر؛ حِينَ ظهر في السوق الغنائي المصري شاعر يُدعى عصام عبدالله؛ الذي لم يكتفِ بواقعية اللغة في أغانيه، لكنه رأى في العامية المصرية بحرًا لا يُبصر أخره؛ فقرر أن يبحر فيه، وإما أن يحمله البحر أو يملأ جوفه بالماء المالح ويغرقه.

يمكن تقسيم المنجز الشعري والغنائي لعصام عبد الله إلى عدة مسارات؛ اللغة كانت القاسم الأقوى والمشترك بينها. بدا أحيانًا أنه يلهو ويلعب بمفردات بسيطة وإيقاع سهل، وفي مرات عديدة كان انحيازه إلى مفردات غير مألوفة.

 تراه بمنتهى السهولة يُفتت الجدار العازل بين العامية والفصحى، أو حتى بين المفردات والمعاني القديمة للأغاني المصرية ويدمجها بمفردات لغوية حديثة. لكن أكثر ما كان يميزه؛ المرجعية البصرية التي كانت تمتاز بها معظم أغانيه. وهو ما كان مناسبًا لهذه الفترة التي لمعت فيها فنون السينما.

اقرأ أيضًا: ذكرى عصام عبدالله| الأسطورة لم تكتمل

السينما كمرجعية بصرية للغناء

اللغة متغير طردي مع الزمن وكذلك الكتابة. ذلك الأمر كان يعرفه جيدًا عصام؛ الذي جاء بعد زمنٍ طويل من الأغنية التي تحمل دراما شكسبيرية ذات مرجعية مسرحية مثل معظم أغاني حسين السيد.

جاء عصام في زمن خفت فيه المسرح، ولمع بقوة فن السينما وتوليفاته السحرية التي تسيطر على عقلك وبصرك وتجعلك جزءًا من الأحداث. خاصة في عصر واقعية سينما الثمانينيات.

في نهاية السبعينيات بدأ عصام كتابة الأغاني، بينما كانت كتابة الإعلانات عمله الرئيس الذي يكسب منه رزقه.

 بدأ اسمه يلمع في مطلع الثمانينات، وبالتحديد عام 1981؛ حين تم طرح أغنية «كان إحساسي صحيح»  في ألبوم "اعذريني" خامس ألبومات علي الحجار.

في العام نفسه ظهرت تجربة فنية جديدة وغريبة على السينما المصرية، فيلم (أنياب) من إخراج محمد شبل.

الفيلم عبارة عن مساحة جديدة من التجريب داخل إطار يجمبع بين الرعب والموسيقى والفانتازيا. لم يكن غريبًا أن يكون عصام عبدالله مشاركًا في تلك التجربة الجديدة على الساحة الفنية. كتبَ عصام عدة أغاني في الفيلم، لكنّ أهمها كان (كُل شيء يشبه لبعض).

وكشفت هذه الأغنية عن قدرته على كتابة الأغنية بعدة أشكال ولأصوات مختلفة، حيث جمعت الأغنية أحمد عدوية وعلي الحجار وطلعت زين.كما كشفت أيضًا عن قدرته على كتابة أغنية تكون جزءًا أساسيًا من دراما الفيلم؛ ما كان يُنبئ أن هناك شاعرًا لديه دراية كافية بفكرة الدراما وخلق بصريات للكتابة، وقادر على تحقيق حلم كثيرًا ما راود صناع السينما المصرية، وهو صناعة فيلم غنائي.

لكن في عام ١٩٨٥ حِينَ أصدر علي الحجار ألبوم (في قلب الليل) كانت صدمة وإعلان تغير حقيقي في كتابة الأغنية. وقد حملَ الألبوم إلى جانب (في قلب الليل) أغنية أخرى من كلمات عصام عبدالله، هي (روحي فيكي).

أغنية (في قلب الليل) من ألحان «مودي الإمام»  يتضح فيها قوة المرجعية البصرية، صورة مليئة بالتوليفات السينمائية. اتضح في هذه الأغنية بشكل كبير التفضيلات اللغوية لعصام عبد الله، وقدرته على دمج العامية بالفصحى، سواءً من خلال المفردات أو حتى الإشارات الخاصة بدلالة المفردات، ما يترك مساحة لتأويلات عديدة للأغنية؛ منها أن تلك القصة التي حكاها حقيقية وقد حدثت معه، واستبدل الفتاة بالمهر، وهو ما يشير أيضًا إلى أن عصام يفضل مجازات اللغة واتساعها عن المباشرة التي اشتهرت بها طريقة كتابة الأغنية في الفترات السابقة.

تعاون عصام مع حسين ومودي الإمام في ألبومهم (وماله). وكان ذلك بمثابة حدث كبير أيضًا في الكلمات والألحان والتوزيع. شارك عصام عبد الله في الألبوم بكتابة سبع أغاني. وكان تعاونع مع  مودي الإمام بمثابة طفرة استثنائية في علاقة النص المكتوب باللحن. ومعظم ألحان مودي كانت أشبه بالموسيقى التصويريه لكلمات عصام التي تشبه الفيلم السينمائي.

ظهر ذلك بقوة في الألبوم ذاته في أغنية (ودعي المكان) التي شكلت جزءًا كبير من تفسير المرجعية البصرية عند عصام عبد الله في كتابة الأغنية المليئة بكادرات سينمائية، وبدا المكان حاضرًا بقوة من خلال مفردات الأغنية.

اقرأ أيضًا: ذكرى عصام عبدالله| الجميل المتغندر

غواية اللغة 

كانت اللغة هي العنصر الأقوى في مشروع عصام الغنائي. يغوص في العامية ويتلاعب باللهجات المصرية بين الصعيدي والريفي وحتى البدوي. عصام الذي لعب كثيرًا بالموروث الشعبي، كان يعلم جيدًا أن كلماته ربما تكون صادمة على مستمع تعوّد على مفردات بعينها؛ سواء تلك الكلمات المقفاه دون معنى، أو الكلمات التي كانت حاضرة لزمنٍ طويل في الأغنية المصرية (الوجد، الهجر، النسيان .. إلخ).

في منتصف الثمانينات كانت الساحة الموسيقية في مصر تبحث عن هوية ما بعد الانفتاح. تَغير الجمهور كثيرًا. نسى حفلات أم كلثوم الطويلة، وأغاني «حليم» المليئة بالحزن والحب. أصبح الجمهور يبحث عن الأغنية الأكثر سرعة وبمفردات جديدة.

شهدت مرحلة ما بعد أم كلثوم وحليم، انفجارًا في عدد المطربين. تعددت الهويات الغنائية. أصبحت مصر أرضًا خصبة لكل المطربين العرب. كان السوق الغنائي المصري وقتها يبحث عن ما هو جديد فعلاً، وليس إعادة ترميم ما أتلفه الزمن.

منتصف الثمانينات كانت الفترة الذهبية لتنوع السوق الغنائي المصري، بعد البداية القوية التي غيّر بها محمد منير معايير السوق الغنائي. اتجه بعدها معظم أبناء جيله للمسار ذاته؛ ما مهد الطريق أمام عصام لمساحة كبيرة من التجريب في كتابة الأغنية.

بعد تجربته الأولى مع علي الحجار، تعاون عصام مع مجموعة من مطربي هذا الجيل، ممن رأي فيهم قدرة على غناء الأشكال المختلفة التي يكتبها.

البداية كانت مع عمرو دياب الذي تعاون معه في ألبوم (يا طريق يا طريق) عام ١٩٨٣. وكتب له أغنيتين: (وقت وعشناه) و(المدينة). وكانت الأغنية الاخيرة من العلامات البارزة في مسيرة عصام عبدالله، لأنها تعد الأغنية الوحيدة التي كتب فيها عن المدينة التي لم يولد فيها، لكن كمعظم أبناء جيله من الشعراء والكتّاب الذين جاءوا إلى القاهرة بحثًا عن فرصة ودفء، كانت المدينة -وكعادتها دائمًا- أكثر قسوة وزحامًا.

الأمر المشترك أيضًا بين معظم أبناء جيله؛ أنهم ورغم قسوة المدينة، تورطوا في حب شوارعها، وحكايات الحزن والزحام بداخلها. المفردات التي استخدمها في هذه الأغنية تعتبر مختلفة عن باقي مشروعه؛ جاءت مباشرة ودقيقة لوصف تورطه في حب مدينة رآها ضحيةَ قدرٍ فرضَ عليها القسوة والحزن (حبيبتي المدينة متاهة بشر\ شوارع حزينة بقايا صور\ حبيبتي المدينة في رياح القدر\ وحيدة مسكينة بتداري الخطر).

لكن المساحة الأكثر تجريبًا واتساعًا، كانت مع محمد فؤاد في ألبومه (في السكة) عام ١٩٨٥ حِينَ كتب له عصام عبد الله أربع أغنيات، تلاعب فيهم باللغة واللهجات العامية المصرية.

صوت محمد فؤاد أتاح له تلك الفرصة من التجريب، الألبوم بأكمله كان تجربة للجمع بين عدة لهجات بين الصعيدي والفلاحي والبدوي. التجربة تبدو وكأنها محاولة للتعرف على صوت فؤاد، الذي لديه طبيعة تليق مع جميع الأشكال الغنائية.

كتب عصام أغنية (غرقان لشوشتي) باللهجة البدوية التي اكتسبها خلال سنوات النشاة بمحافظة الفيوم. تجاهل معايير السوق وجاءت الأغنية صادمة لكثيرين؛ لكنّ نجاحها فيما بعد مهد الطريق لظهور هذا النوع من الأغنيات، فبعدها بسنوات قليلة ظهر علي حميدة وحقق ألبومه أكبر مبيعات في تاريخ شرائط الكاسيت المصرية.

كتب عصام عبد الله في الألبوم ذاته، خمسة أغنيات أخرى بلهجات مختلفة: (صابر) وهي أغنية باللهجة الريفية المصرية، واستخدم فيها مفردات وإشارات لغوية شديدة الريفية. وأغنية (هنحب بجد) وكانت باللهجة الصعيدية. وأغنية(بعت الصبح مرسال) وكانت تشبه الموال، وفيها يعود باللهجة وطبيعة الأغنية إلى العاصمة، التي كان يغلب عليها في ذلك الوقت الطابع الشعبي. وأخيرًا (عاش الطب) وهي عبارة عن تراكيب لغوية ولهجة اخترعها هو، ليطارد غواية اللغة.

الأمر لا يتوقف عند كونه يكتب باللهجة فقط، لكنه يفهم جيدًا تراكيب المفردات وطبيعة المواقف التي تلائم البيئة التي يكتب لهجتها.

وفي تجربة (وحدانية) التي غنتها أنغام بدا أنه ملَّ من اللهجات المعروفة، فذهبت به غواية اللغة إلى ما هو أبعد من ذلك، فكتب بطريقة يمكن أن نطلق عليها لهجة عصام عبد الله الغنائية. استخدم في تلك الأغنية تراكيب لغوية ومفردات غير مألوفة بالمرة.

وكان عصام يحاول أحيانًا أن يدمج مفردات وجمل من أغان قديمة بمفردات أكثر حداثة؛ كما فعل في كلمات أغنية (يا بوليس) لفريق الجيتس، حِينَ دمجَ جزء من كلمات أغنية (فاكر لما كنت جنبي) لأم كلثوم، بكلمات حديثة لكنها غير مألوفة (الموجة بتجري ورا الموجة عايزة تطولها\ وأما تطولها\ بتفلفلها وتحلحلها وتبعترها وتفتلها).

رثاء يليق بصاحبه

حين توفي الضيف أحمد كتب عصام عبدالله رثاءً شهيرًا قاله سمير غانم. وحين رحل عصام مر الأمر في هدوء وصمت دون أن يجد من يقوم برثائه.

يقول الأديب الفلسطيني «غسان كنفاني» في إحدى رسائله: "إن الحياة معقدّة أكثر مما ينبغي لأناس سيعيشون أربعين سنة على الأكثر". يبدو أن عصام أيضًا كان يعرف ذلك، ورحلَ في عام ١٩٩٦ قبل أن يكمل 41 عامًا من عمره.

 طيلة حياته لم يبحث عن شهرة أو كاميرات إعلامية.عاش ليشبع شغفه بالكلمة واللغة. جاء ورحلَ في صمت، لكنه تركَ خلفه آلاف الكلمات التي تخبرنا من هو. عرفنا من كلماته التي كانت أكثر اتساعًا من العمر؛ أنه مجرد شخص ينتمي لسحر المغنى، وحِينَ تتوقف أحلامه يموت.