الشاعر عصام عبد الله

ذكرى عصام عبدالله| "بقيت وحدك".. النبوءة الخالدة

منشور الثلاثاء 21 مارس 2017

لي مزاج مختلف في سماع الأغاني. أحياناً  ترتبط معي بعض الأغاني بمدن زرتها، بأشخاص أعرفهم.  بلحظات بعينها من الحزن والفرح أو كليهما في آن واحد، بينما يلعب بعضها الأخر دور الموسيقى التصويرية لمشاهد في الحياة على إطلاقها.

إلا أني وللمرة الأولى اختبر شعور النبوءة ذاتية التحقق self-fulfilling prophecy عند سماع أغنية أنغام (بقيت وحدك)، التي كتبها الراحل عصام عبد الله ولحنها ووزعها خالد عز.

تقول كلمات الأغنية: 

ودلوقتي أنا وحدي

وأنت خلاص بقيت وحدك

بدأت رحلة الغربة الحقيقية

وبان أكتر صهيل البرد حواليه

..

واديك سامع

أديك شايف

ومش بايديك تكون ملكي ولا ليّا

ولا بإيديا ارجعلك

حياة قاسية

أنا مش ناسية

ومش هنسى

لكن دي كمالة القصة

ودلوقتي

أنا وحدي

وأنت خلاص.. بقيت وحدك

...

مكنش كل ده ف قصدي

ولا حلمك ولا قصدك

لكن احلامنا مش وحديها ف الدنيا

في ناس تانية

آمال تانية

حاجات تانية

..

و100 مانع

ومين عارف

ما يمكن نجمك الأحلي في حاجات جايه

ويمكن ألاقي أحزاني خرافية

هنقدر أو منقدرشي

أنا مش خايفة

ما تخافشي

ودلوقتي

 أنا وحدي

وأنت خلاص.. بقيت وحدك

...

هحاول اكتشف نفسي

وانت كمان تشوف نفسك

كتير لقيوا حاجات أعلى بطريق تانية

كتير لقيوا مخاوفهم خرافية

...

وأديك سامع

أديك شايف

ما تحكمشي على الدنيا برمادية

مفيش أحزان ولا أفراح أبدية

وداع يا أغلى شيء سبته

حبيبي خلاص ودّعته

ودلوقتي

أنا وحدي

وأنت خلاص.. بقيت وحدك.

بدت لي الأغنية كما يقول الفرنسيون نوعاً من الـdeja-vu. لا أدري الترجمة الأقرب للدقة لهذا المصطلح الذي يعني لي أنك تشاهد حدثاً ما؛ وكأنك عشته من قبل على الرغم من أنه يحدث للمرة الأولى.

تأكدت منذ سمعت تلك الأغنية للمرة الأولى أنني سأمر بتجربة شبيهة على المستوى الشخصي وقد كان.

استمعت إلى "بقيت وحدك" فور طرح ألبوم "أحلام بريئة" لأنغام العام قبل الماضي، وتجاهلت باقي أغنياته عن عمدٍ. أسرتني كلماتها.

وعلى الرغم من تطابق الكلمات مع تجربة شخصية مررت بها في لحظة ما، إلا أن هذه الأغنية بدت لي متجاوزةً للمفهوم الضيق الخاص بمشهد النهاية في علاقة إنسانية إلى أفق أرحب؛ هو الشك والخوض في المجهول. خوض غمار تلك الرحلة/الغربة الخاصة باكتشاف الذات.

شعرت بأن كلمات الراحل عصام عبد الله وأسلوبه القصصي والدرامي في كتابة تلك الأغنية يخفي وراءه سياقًا عدميًا مليئًا بالفلسفة .

جملة (بدأت رحلة الغربة الحقيقية) هي مفتاح الأغنية، فالغربة بطبعها تجربة شديدة العدمية. شعرت كأن المغنية/بطلة المشهد تواجه نفسها بالأساس، وهذه هي الغربة الأكبر والرحلة الأصعب، وما تبقى من أحلام لن تتحقق أو مخاوف خرافية أو القادم الذي قد يكون أفضل مجرد تنويعات أو تفاصيل في رحلة الغربة.

 تذكرت جملة (ما تحكمش على الدنيا برمادية) وبدت لي هي الأخرى إشارة عبقرية، ففي الغربة -وقد خبرتها جيداً- تبدو أغلب الأحداث والأشياء من دون ملامح قاطعة أو واضحة، في الغربة لا يوجد أبيض وأسود، فقط تنويعات من اللون الرمادي، وفي النهاية تمر كافة اللحظات مهما بدت ثقيلة لأنه (مفيش أفراح ولا أحزان أبدية).

كذلك اعتبرت كل ما يلي كلمة (يمكن) بمثابة أمنية لن تتحقق وخصوصاً في هذا الموقف تحديداً: (يمكن نجمك الأحلى في حاجات جاية..يمكن ألاقي أحزاني خرافية) هي فقط مجرد تعازي تقليدية ورتيبة في لحظة كئيبة يعلم كلا الطرفين أنها لن تقدم أو تؤخر، فليس بالضرورة أن تكون (الحاجات الجاية) أحلى...وبالتأكيد فإن المخاوف في لحظة الإقبال على رحلة استكشاف الذات ليست (خرافية).

لن تختفي هذه المخاوف وستستمر الحياة برتابتها العادية، وسط (ناس تانية وآمال تانية وحاجات تانية) وهذا ببساطة لأنه (مفيش أفراح ولا أحزان أبدية)، ويبقى الزمن والملل والاعتياد أعداء للإنسان لا تقهر.

اقرأ أيضًا: ذكرى عصام عبدالله| الجميل المتغندر

صديق لي استوقفه المقطع الذي يقول (لكن أحلامنا مش وحديها في الدنيا...فيه ناس تانية...آمال تانية...حاجات تانية) كوصف دقيق -في جملة مختصرة وعبقرية- للصراع الإنساني الدائم في الحياة وتلك الهزائم النبيلة، والتي عادةً ما يكون بديلها انتصارات لا-أخلاقية أو انتصارات شديدة الكلفة من شأنها تعميق مواجهة الإنسان مع ذاته ومن ثم استمرار تلك الغربة.

في بداية كل تحدٍ في حياتي، أتذكر  كلمات هذه الأغنيةا. أقول إنه يجب علّي أن (أشوف نفسي) مثل آخرين ممن (لقيوا حاجات أعلى بطرق تانية .... لقيوا مخاوفهم خرافية)، فبالتأكيد لا توجد (أحزان ولا أفراح أبدية)

ما قدّمه عصام عبدالله في "بقيت وحدك" تجاوز المألوف في الغناء العربي. تجاوز التعبير عن المشاعر والآلام. اشتبك مع مفاهيم معقدة بكلمات شديدة السهولة دون تكلّف.  كلماته القليلة ترافقني في رحلتي طوال الحياة. ويتردد صداها داخلي في مواقف مختلفة.