تقرير إلى جريكو: إن لديّ أجنحة

منشور الاثنين 17 أبريل 2017

                          

"أريد تفسير تصور للحياة خاص وفردي، كذلك نظرية عالمية خاصة ونظرية في قدر الإنسان، وبعدها، بناء على هاتين النظريتين، وبترتيب وعزم وبرنامج محكم، أكتب ما سأكتبه".

هذا ما قاله كازانتزاكيس في إحدى رسائله أثناء وجوده في باريس. وفي تقديمها لسيرته الذاتية والفكرية تقول زوجته هيلين كازانتزاكيس: "كان نيكوس كازانتزاكيس يطلب من ربه أن يمد في عمره عشر سنوات أخرى يكمل بها عمله، يقول فيها ما كان عليه أن يقول و(يُفرِّغ نفسه). وكان يريد أن يأتيه الموت فلا يأخذ منه إلا كيسًا من العظام. عشر سنوات تكفي. أو هذا ما كان يظنه".

في كتاب "تقرير إلى جريكو" لم يكن كازانتزاكيس يرى أنه يكتب سيرته الذاتية، إنما هو مجرد تقرير عن حياته إلى جده، وأنها مجرد قشور ولم يسرد تفاصيل حياته اليومية. والجد هو إل جريكو، الرسام الأسباني الشهير ذو الأصول اليونانية. توزعت تلك السيرة - غير التمهيد والخاتمة ومقدمة زوجته هيلين -على مدى أكثر ثلاثين فصلًا، منها فصول: الأسلاف، الأب، الأم، الجد، كريت، التوق إلى الطيران، أثينا، إيطاليا، سيناء، زوربا.

 

غلاف الكتاب

 

تعرض السيرة نظرة كازانتزاكيس للعالم وجماليات عناصره، ويحاول الكاتب منح كل تلك العناصر ترابطًا جماليًا، وتأصيلًا لعرفانه بكل ما هو يوناني. يقول كازانتزاكيس عن اليونان في الفصل السابع عشر: "جبت اليونان، وبدأت بالتدريج أرى بعيني وألمس بيدي ذلك الشيء الذي لا يستطيع الفكر المجرد أن يراه أو يلمسه". في اليونان – كما يقول- تتأنسن الأشياء كلها: الجبال والبحار والوديان. إنها تتحدث إلى الإنسان بلغة هي على الأغلب بشرية، وهي لا تعذبه ولا تهيمن عليه بشكل ساحق، بل تصادقه وتزامله العمل. الطريق الوحيدة للإنسان المتحقق في رأي كازانتزاكيس هو رفض التنكر للشباب حتى أقصي مراحل الشيخوخة، وأن يصارع الواحد طوال حياته لتحويل أزهار النضج إلى شجرة محملة بالثمار. ومن الطبيعي أن يرى المرء روحه ملزمة بالقيام بهذا الارتقاء، فهناك تعاقد وتفاهم غامضين بين هذه الأرض التي صنعتنا وبين أرواحنا.

 

وفي فصل "عودة الابن الضال" يقول عن ذكريات الطفولة إنها تنفجر من كل اتجاه وتساعد علي زيادة الألم أكثر، وأن العودة إلى الوطن حادث حاسم "تنفجر القشرة المريحة والخائنة وينفتح باب المصيدة، فتنبعث الكيانات التي كانت ممكنة ذات مرة والتي قتلناها. النفوس الأفضل كلها التي كان من الممكن أن نصيرها ثم فشلنا بسبب الكسل وسوء الطالع والجبن". عاد كازانتزاكيس إلى مسقط رأسه "كريت" في الصيف الأخير من سنواته الدراسية، ويحكي أنه في اليوم الرابع من عودته قفز من فراشه دون سبب واضح في رأسه، ودون أن يعرف ما سيفعله، أخذ قلمًا وبدأ في الكتابة. وصارت تلك اللحظة منعطفًا خطيرًا في حياته، وبعدها بدأ يحس بالزهو وهو يكتب.

يقول عن كريت:" إن سر كريت عميق جدًا. وكل من يطأ هذه الجزيرة يحس بقوة سرية تتشعب بحرارة وإحسان في أعصابه، أو يحس أن روحه تبدأ في النمو". وقد أفرد لها فصلين؛ الأول عن العودة إليها في سنوات دراسته، والثاني بعد عودته من سيناء التي أجهضت محاولات وصوله إلى القداسة.

رحلة سيناء

كانت سيناء إحدى المحطات ضمن مسار تجواله حول العالم، ذهب إلى إيطاليا والقدس وبرلين وروسيا والقوقاز، كان يحاول البحث عن الحقيقة في كل مكان لعله يجدها.  

كانت المرة الأولى التي حاول فيها الوصول إلى القداسة في طفولته، حين ذهب إلى الميناء وركض إلى قبطان كان يستعد لرفع مرساته، ورجاه أن يأخذه معه إلى جبل آثوس حيث يستطيع أن يصبح راهبًا.

المرة الثانية كانت في "سيناء"، الذي قال عنها بعد عودته: "مكان بعيد جدًا". كان العهد القديم من الكتاب المقدس يثيره دائمًا، ورحلته إلى سيناء كانت كالحلم الخاطف، كانت الجبال المهجورة والقاحلة وتجاويف الصخور السوداء كالغراب المحلق فوق الرؤوس. ويقول عن خلاصة تلك الرحلة: "كنت أحب جسدي ولم أكن أريد له أن يفنى، وكنت أحب روحي ولا أريد لها أن تتعفن". وإن كان البعض يصبحون أبطالًا بأمر الله وآخرون بكفاحهم، هو أدرك أنه كان ممن يكافحون، وأنه سيبقي يصارع حتى النهاية، أدرك ذلك في سيناء حين كان يتأرجح بين سعادة الراحة، كأنه قد أدرك كل شيء، وشقاء اليأس لأنه لن يصل للحقيقة أبدًا، وأدرك أنه لن ينجح في الوصول إلى القداسة لأنه لم ينجح في الوصول إليها في سيناء، الصحراء التي أحس أنه قريب فيها من الله أكثر من أي مكان آخر، لكنه خشي أن الجذور التي تربطه بالعالم لم تقتلع بعد. رغم كون الكتاب جاء في اتجاهات مختلفة، لحياة واسعة الامتداد، إلا أنه يعود ويترابط بواسطة تلك الشخصية الهائلة ومحاولتها لتوعية الذات وإدراكها.

كانت الكلمة التي تشغل بال كازانتزاكيس طوال حياته هي كلمة "الصعود"، كان إنتاج كازانتزاكيس غزيرًا ومتنوعًا بشكل مدهش، بالإضافة إلى الروايات والمسرحيات والقصص، له كتب في الرحلات، وقصص للأطفال، وسير تخيلية لشخصيات تاريخية، وكتب في التاريخ الأدبي وترجمات وكذلك قواميس.

ظل كازانتزاكيس يصارع طوال 40 عام من أجل الشهرة. نال تلك الشهرة في أوائل الخمسينات في الأوساط الثقافية، لكن التجاهل من الدوائر النقدية والأكاديمية ظل قائمًا. لكنه كان أكثر حظًا من كفافيس الذي لم ينل شهرته إلا بعد خمسين عامًا من وفاته. الاهتمام بكتابة كازانتزاكيس يرجع لكلية كتابته ومخاطبته "نحن"، نحن التي هي الإنسانية كلها بما فيها هو، الإنسانية المكبوتة والمتهكمة والمحاولة دائمًا التغلب على العوائق التي تقابلها والتي تحاول تدمير الذات، الذات الإنسانية. الأنا المكبوتة ورغبتها في أن تكون محب غير عادي وصديق وفي حقيقي لا يقاوم. غير شخصيته الفنية والحماسة والصدق في كتاباتها.

فلسفة زوربا

فترة تواجده في باريس كانت حيوية في توسيع فهمه للتاريخ، وانغمس في عقيدة فلسفية حديثة، في فلسفة المعرفة والمنطق، وبخاصة فلسفة ما وراء الطبيعة، بتركيز خاص على كانط، وهذا بدوره قاده إلى الشخصين صاحبي التأثير الأهم عليه: برجسون ونيتشه، الذي يدين لهما بتوسيع فلسفته الكونية ومنحه مفردات جديدة.  وجسد له نيتشه بالأخص حياة وشخصية فنية لطالما حلم بها.

انجذابه نحو نيتشه قد يبدو عاطفيًا، كان يرغب أن يكون هزة عنيفة للفن والفلسفة والحماس الأخلاقي، هزة تمزجهم وتنتج خليطًا يصبح أفكارًا متوهجة مصحوبًا بنشوة روحية، وإن كانت أفكار نيتشه تفتقر للنشوة الروحية، كان هو يرى أن أهميته تكمن في هذه النقطة بالذات: تحويل الأفكار إلى عواطف. إذن كانت غاية كازانتزاكيس هي التوليف. كتب كازانتزاكيس رواية "زوربا" بعد مسرحية "بوذا"، وكانت زوربا كانت نقطة ارتكاز حاسمة وتمثل مرحلة قبوله المتزايد للحقيقة المدركة عن طريق الحواس، حكاية ذات مغزى أخلاقي تبين قوة الحياة أثناء عملها؛ الجهد البشري، الأشخاص المماثلون لزوربا يحرقون ذواتهم للنهاية. ويقول عن زوربا:" أما زوربا فهو الذي علمني آن أحب الحياة وألا أخاف الموت". الصرخة قد تكون عملًا إيجابيًا، والكون ذاته في تطور محتم نحو إدراك الذات. لما قرأ كازانتزاكيس ثربانتس، بدا له دون كيخوته قديس عظيم؛ انطلق محاطًا بالضحكات والسخرية ليكتشف الجوهر وراء حياتنا اليومية، وهناك جوهر فقط هو الذات نفسها وحين تؤمن وتسمو تلك الذات لا يظل هناك شيء وهمي.

"تقرير إلى جريكو" هي سيرة عظمة الذات وأن الفن هو حل للحياة، سيرة البحث عن الأجنحة، محاولة الطيران والسمو، الأجنحة التي تحمل الإنسان وتساعده على الوصول إلى ذات حقيقة وسامية أكثر، الإنسان الكامل، البطل الممتزج بالقديس.