فيلم دنكيرك Dunkirk 2017

دنكيرك.. سينما جديدة لعالم جديد

منشور الثلاثاء 25 يوليو 2017

الهزيمة لا النصر هي التي تصنع الأوطان والأجيال والإنسانية. فهزيمة 5 يونيو/حزيران 1967 هي التي هزت المصريين لتجعلهم يطوّرون من أنفسهم ويتعاملون بحرص أكبر مع المستجدات الإقليمية والعالمية الأخرى، سياسية كانت أو اقتصادية أو جغرافية أو حتى علمية، ليحققوا النصر الحربي في أكتوبر/تشرين الأول عام 1973. هزائم الأمم تحث المجتمعات على التغيير، وهو ما يعرفه الفنانون الكبار كالروائي الروسي ليو تولستوي حينما سجل غزو نابليون لروسيا في روايته الملحمية "الحرب والسلام"، وكذلك المخرج والمؤلف البريطاني-الأمريكي كريستوفر نولان في فيلمه الجديد "دنكيرك Dunkirk".

اختار نولان أن يدور فيلمه الجديد عن معركة "دنكيرك" أثناء الحرب العالمية الثانية حينما قرر الحلفاء أن ينسحبوا من آخر ميناء في فرنسا تاركين أوروبا كلها لدول المحور وعلى رأسها ألمانيا. لم تكن فقط هزيمة لبريطانيا أو فرنسا أو حتى دول المحور، بل هزيمة لكل ما تمثله الحضارة الغربية من قيم حاولت أن ترسخها منذ عصور التنوير وحتى منتصف القرن العشرين، حين جاء هتلر وحزبه النازي ليقوّض كل هذه القيم من حرية وديمقراطية وغيرها. 

 

أين ذهب الألمان؟!

يحكي الفيلم ثلاثة قصص: الأولى نتابع فيها الجنود البريطانيين وهم يحاولون الانسحاب من فرنسا على مدار أسبوع، والثانية نتابع أسرة بريطانية تُكَلَّف بأن تساعد في نقل الجنود بقاربها الصغير من "دنكيرك" إلى شواطئ بريطانيا خلال يوم، والثالثة نتابع فيها طيارًا يحاول تدمير طائرات الألمان التي تدك المدمرات البريطانية فتقتل الجنود. 

في فيلم "دنكيرك" يتخلى نولان عن نوعه الأثير وهو الفيلم الخيالي. إذ صنع أفلامًا تنتمي للخيال العلمي مثل "بين النجوم Interstellar  2014" و"استهلال Inception  2010" و"العظمة The Prestige 2006" وأفلام تنتمي لنوعية البطل الخارق أو Superhero مثل ثلاثية "الرجل الوطواط Batman". ولكن هنا يتخلى نولان عن هوسه بالخيال العلمي ليصنع فيلمًا عن النقيض تمامًا، وهو الواقع، وأكثر شيء يعبر عن الواقع هو التاريخ، وأفظع شيء في التاريخ هو الحروب.

ولكن ربما تكون هذه هي أول مرة نشاهد فيها فيلمًا حربيًا بدون أن نرى العدو. فنحن لا نرى أبدًا العدو الألماني في الفيلم ولكن نرى أثره، نرى طلقات رصاصه وطائراته وقذائف مدافعه، ولكننا لا نرى الشخص أو الكيان الذي يهدد ويرهب أبطال الفيلم. ولذلك ففيلم "دنكريك" ليس مجرد فيلم حربي بل هو فيلم مختلف من حيث أن البطل/ نحن لا يواجه فيه عدوًا محددًا ولكن يواجه فيه مخاوفه أكثر من أي شيء آخر.

منذ أول مشهد في الفيلم وحتى آخر مشهد يحاول البطل أن يكون إنسانًا، لا عبر قتال العدو والشعور بالكرامة أو الدفاع عن الأطفال والنساء ومثل هذه الأمور التي تركز عليها الأفلام الحربية التقليدية، ولكنه يحاول فقط أن يعيش. يحاول فقط أن يبقى على قيد الحياة. والبقاء على قيد الحياة لا يعنى بتاتًا أن تكون بطلا أسطوريًا أو شجاعًا أو عادلًا أو محبًا، ولكن معناه أن تكون إنسانا من الناحية البيولوجية والسيكولوجية، أي أن تستطيع أن تأكل وتشرب وتقضي حاجتك وأن تجد مأوى وأن تحافظ على حياتك. هذه الأمور هي التي تجعلنا أناسًا في الحرب وهي الأسس التي لو لم توجد لما كنت إنسانًا.

ولادة متعثرة للقيم الغربية

 

الإنسان كإنسان هو ما يهمنا في فيلم كريستوفر نولان الجديد. فنحن لا نهتم كثيرًا بالأبطال، فأغلبهم من الممثلين الشبان غير المعروفين، ولذلك فلن يتعلق بهم المشاهد كثيرًا، خاصة أن المخرج بالتعاون مع مدير التصوير الهولندي هويت فان هويتما يصور أغلب المشاهد من أعلى ومن مسافة بعيدة حيث نرى جموع الجنود الشبان فلا نتحرى – أغلب الوقت – هويتهم، ولكننا نعرف شيئًا واحدًا فقط أنهم جميعا أناس مثلنا يحاولون الهروب والبقاء على قيد الحياة.

هذا لا يعني أن صناع الفيلم لا يهتمون بقيم الحرية والديمقراطية والعدل وغيرها وهو ما يؤكده خطاب رئيس وزراء بريطانيا وقتها ونستون تشرشل بنهاية الفيلم. ولكن كل ما في الأمر أن الإنسانية تتقوقع على نفسها في فترات الحروب/النكوص عن التطور الفكري/الإنساني لتحاول فقط أن تبقى على قيد الحياة وهو ما تعاني منه الإنسانية بالفعل الآن بسبب الحروب المستمرة خاصة في منطقة الشرق الأوسط وتهديد ذلك على أرجاء العالم.

ومواجهة الذات من أجل الحفاظ عليها هي واحدة من أهم الأفكار التي ناقشها الفن وخاصة المسرحيات والروايات، كمسرحيتي "أوديب" لسوفوكليس و"هاملت" لوليام شكسبير وروايات "دون كيخوته" لميجيل دي ثربناتس و"موبي ديك" لهرمان ملفل و"روبنسون كروزو" لدانيال ديفو و"دوريان جراي" لأوسكار وايلد و"المحاكمة" لفرانز كافكا و"الطاعون" لألبير كامو. وإذا نظرنا إلى هذه الأعمال سنجد أنها تؤسس للفن السردي ما بعد الحداثي الذي ينتمي إليه نولان.

تجعلنا الهزيمة نتأمل في ذواتنا لنعرفها أكثر ونطورها من أجل التأقلم مع المستجدات كي نبقى على قيد الحياة، فهل يحتاج العالم إلى هزيمة ساحقة تعيد التفكير في إنسانيتنا مرة أخرى؟ وتجعلنا نولد من جديد تمامًا كما يولد أحد أبطال فيلم "دنكيرك" من جديد حينما يتم إنقاذه من الشاطئ (العدم) ونقله عبر بحر المانش ثم نقله عبر القطار حيث ينام في كرسيه كالجنين (الرحم) حتى الوصول إلى بيته سالمًا؟

أخيرًا، المخرج كريستوفر نولان – وريث البريطاني ألفريد هيتشكوك والأمريكي ستانلي كوبريك - يقوض في فيلمه الجديد "دنكريك" المزيد من الأسس السينمائية التي قوّض غيرها من قبل. فمثلما قوّض أسس المونتاج والسرد في فيلمه "التذكار  Memento" 2001، وأسس تكوين البطل الخارق في "ثلاثية الرجل الوطواط" وقانون النوع الفيلمي في "استهلال Inception". فأنه يقوض في فيلمه الجديد أسس الفيلم الملحمي/ الحربي ليصنع فيلمًا لا يتطابق أبدًا مع أي فيلم ملحمي أو حربي على مدار تاريخ السينما حول العالم. نولان يستمر في "دنكريك" في المساهمة في صنع سينما ما بعد حداثية تفكك وتعيد بناء السينما من ناحية السرد والنوع الفيلمي وبناء الشخصيات والدراما نفسها. نولان يخلق سينما جديدة.