شيخ جاكسون.. تأمُّل حول الحدوتة

منشور الثلاثاء 21 نوفمبر 2017

"أبغضُ الأسماء إلى اللهِ خالدٌ ومالِك". حديثٌ ضعيف!

لا أدري إن كان كاتبا السيناريو، عمرو سلامة وعمر خالد، قد سمعا بهذا الحديث من قبل أم لا. لكن المؤكد أن اختيار اسم البطل، خالد هاني (أحمد الفيشاوي)، لم يكن اعتباطيًّا، وإلا لما جاء موضوع التعبير، الذي كتبه البطل طفلًا، متمحورًا حول هذا الاسم، وهو أحد مفاتيح الفيلم الهامة. يقول البطل إنه كره اسمه، حين أخبره أبوه بأن الكل سيموت، حتى الشمس. ثم إننا نلاحظ أنه لا يُنادى وسط زملائه، في مرحلة المراهقة، إلا باسم التدليل (دودة)، أو باسم (چاكسون)، لتقليده بطله المفضل مايكل چاكسون. وفي المشهد الختامي للفيلم، حيث يجيء صوته voice over أثناء حديثه مع طبيبته النفسية نور (بسمة)، على خلفية رقصه على أغاني مايكل چاكسون، يقول إنه على الأقل أحسّ أنه خالدٌ، ولو للحظة واحدة.

في تقديري، أثار الفيلم إشكالية الدين في مواجهة الفن، من زاويةٍ ربما لم تُتَح لأفلام مصرية أخرى، فيما أذكر. هذه الزاوية هي علاقة كلٍّ من الدين والفن بالخلود، ومن ثَمّ علاقة كلٍّ منهما بالحياة. ربما لم يُشوّش على عمق التناول إلا اختياران لصنّاع الفيلم: الأول، هو جَعْل التسلُّف، في البطل، ردَّ فعل على تسلُّط والده، وإساءة معاملته له، وهو ما لا يمكن أن يَصدُق بالتأكيد على كل المتسلّفين؛ والثاني، هو نمط السلفي الذي يتكسب من تسجيل أشرطة الكاسيت، المهتمة بموضوعات عذاب القبر أو الأغاني (الإسلامية)، المأخوذة من أغانٍ معروفة، دون مصاحبة الآلات الموسيقية، وهو النمط الذي أسقط جانبًا من شخصية البطل في فخ التناول الكاريكاتيري، المتعارَف عليه في السينما والدراما المصرية. لكن حتى هذا الاختيار، ربما كان له ما يبرره، من وجهة نظر السينارست/المخرج، من منطلَق أنّ السلفي، الذي كان متعلقًا بالفن ثم اعتزله، حاول أن يكرّس فنًّا (إسلاميًّا)، كما يشيع لدى فئةٍ عريضة من المجتمع.

اقرأ أيضًا: شيخ جاكسون.. سينما موجهة للأجانب

أسمحُ لنفسي بأن أقفز بعيدًا عن الفيلم، قريبًا منه في ذات الوقت، إذ أتذكر رأي الفيلسوفة الأمريكية، سوزان لانجر، في العلاقة بين الفن والعلم، حيث تقول إنه كما أنّ العِلم نشاطٌ ذهنيٌّ يهدف إلى استقدام مضامين العالَم إلى مملكة المعرفة الموضوعية، فإن الفن يستقدم المضامين الوجدانية للعالَم إلى هذه المملكة، وبالتالي فهو ينتج ضربًا من المعرفة، وبالتالي ضربًا من الامتلاك. كما أتذكر رأي چورچ سانتايانا في أنّ القِيَم الجمالية (الفنية) إيجابية محضة، تمدنا بلذات حقيقية، بينما الأخلاقية سلبية، تهدف إلى اجتناب الشر ومحاربة الألم. هذان الرأيان يعضّدان فكرةً مفادها أنّ الفن انغماسٌ في الحياة، ومحاولة لعَيشها بأقصى قدر ممكن، وبالتالي فالفنّ محاولة لاصطياد الخلود في هذه الحياة. المقولة الثالثة تأتينا من الفيلسوف الفرنسي، الوجودي، موريس ميرلو پونتي، حيث يقرر أن الجسد مأخوذ في نسيج العالَم، وليس هناك ما يُعَبَّر عنه في الفن سوى الجسد. هذه المقولة تدعم فكرة المتعة الحسية المرتبطة بإبداع الفن وتلقّيه. الفنان ومتذوق الفنّ يحاولان بالضرورة استباق أية حياةٍ أخرى بعد الموت، وبالتالي فهما يشكّلان موقفًا هو طرف النقيض للدّين والدعوة إليه، بما ينطوي عليه الدِّين من ترغيبٍ في الزهد في هذه الحياة، وبما يحتضنه من قِيَمٍ أخلاقيّةٍ تشكّل غالبًا لحمته وسداه مع العقيدة.

أعود من هذه القفزة إلى حدوتة الفيلم. في رأيي أن الجملتين الأهمّ في حوار الفيلم تلخّصان بالفعل موقفَي الدين والفن من الحياة، ومن قضية الخلود. الجملة الأولى هي الواردة في حوار خال البطل (محمود البزاوي) معه، حيث يقول الخال: "بتاخد في المدرسة رياضة؟ لو قسمنا أي رقم على ما لا نهاية يطلع كام؟"، ثم ترد بنصّها في حديث خالد مع مصطفى في الاستوديو. مفاد الجملة أنّ الحياة صِفر مهما طالت، وهي فكرة تلخص، في عبقريةٍ، مُنطلَق الدين للتعامل مع الحياة. الجملة الثانية تأتي في الأغنية التي تغنّيها المطربة الشابّة، التي تجسّد دورها ياسمين رئيس، قرب نهاية الفيلم، ثم تتكرر في تتر النهاية: "علّمني حلمي المُحال/ أشبّ فوق الخيال/ أحلامي تخلق سؤال/ وساعات تجاوب سؤال". هذا الإصرار على الحلم بالمُحال واصطياده، يلخص مبرر الفن للوجود، ومنطلَق الفنّان في التعامل مع الحياة، ومع قضية الخلود، في رأيي.

رجوعًا إلى الحديث الذي صُدِّر به المقال، نكتشف في كتب علم الحديث أنه حديثٌ ضعيف، أي لا يجوز الاحتجاج به في مسألة تسمية الأولاد، حيث لا يمكن التيقُّن من نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، لكنّه في النهاية يمثل محاولةً من الوضّاعين المخلصين للمزايدة على روح الدين الأصيلة، في اجتناب الدنيا وزهرتها! هذه الرُّوح التي لا نشتمُّها فقط في الإسلام، بل هي موجودةٌ في الآية الأشهر من سِفر الجامعة من العهد القديم: "باطل الأباطيل، الكل باطل وقبض الريح"، ومتغلغلةٌ في الديانات الإبراهيمية، كما هي موجودةٌ في ديانات شرق آسيا، ولا نَعدمُها حتى بين مذاهب الفلسفة، إذ تبدو ناصعةً في رواقية زينون، قبل ميلاد المسيح!

يحاول هذا النص السينمائي أن يثير أسئلةً حول دور كلٍّ من الدين والفن في الحياة. أسئلة على غرار: متى ينتهي دور أحدهما ليبدأ دور الآخر؟ هل يمكن أن يجتمع طرفا النقيض، في لحظةٍ واحدةٍ، في إنسانٍ بعينه، أم أنه لا سبيل إلى اجتماعهما؟ هل بإمكاننا أن ننحّي أحدهما من حياتنا تمامًا لمصلحة الآخَر؟ من المؤكد أن محاولة الإجابة الموضوعية، عن مثل هذه الأسئلة قد تستغرق عمرًا بأكمله في مطالعة محاولات السابقين الإجابة عنها، ومطالعة تراث الأديان – والإسلام خاصةً طالما أن مشكلة الفيلم المتعينة هي في علاقة الإسلام بالفن – وما قالته عن الفن. هي ليست أسئلةً سهلةً على من يريد الدِّقّة. وفي تقديري هي حسنة من حسنات صنّاع هذا العمل، أن أثاروا الماء الراكد بتناول هذا الموضوع الشائك، من زاويةٍ أعمق مما اعتادته السينما المصرية.

في النهاية أدعو من قاموا بتحريك دعوى "ازدراء الأديان" ضد هذا الفيلم إلى مشاهدته مرةً ثانيةً متأنيةً، إن كانوا قد شاهدوه مرةً أولى. فسيتضح لهم أن مشهدًا كالذي يظهر فيه مايكل چاكسون في صفوف المصلّين، ليرقص معهم، أثناء انتظار تكبيرة الإحرام، هو مشهد يعبر عن هلوسة البطل، المريض نفسيًّا، فيما يقارب الفصام. فإذا ما اتضح هذا، فماذا يبقى من "تجرُّؤ الفيلم على ثوابت الإسلام" كما يقولون؟ في تقديري أن الأَولى بكل من يهتم لأمر الدين أن يمتنّ لصنّاع الفيلم، لاهتمامهم بإثارة قضيةٍ محوريةٍ في الممارسة الدينية كقضية علاقة الدين بالفن.