حالة خطأ: كلنا فاسدون.. أليس كذلك؟

منشور الأربعاء 13 ديسمبر 2017

عرض فيلم "حالة خطأ" (Fault Condition، بالرومانية: A doua sansa) لأول مرة في يونيو 2017، وهو ثالث أفلام المخرج الروماني كاتالين سيزيسكو، بعد ثلاثة عشر عامًا من فيلمه السابق، وسيزيسكو ممثل ومنتج ومخرج، حاز فيلمه "حالة خطأ" على الكأس الذهبية لإنجازه الفني المتميز في مهرجان شنجهاي السينمائي الدولي ، وسبب فوزه –كما ذكرت لجنة التحكيم في بيانها- هو "شجاعته في معالجة الدراما المعاصرة الحساسة، وقدرته على الجمع بين وجهات نظر مختلفة لنفس الحقيقة".

شاهدت الفيلم خلال مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، حيث عرض في البرنامج الرسمي خارج المسابقة. ليس هذا فحسب بل عرض الفيلم ثلاث مرات؛ استجابة لردود الفعل الإيجابية للمشاهدين، والإقبال الشديد عليه (وهو تخميني الشخصي)، وفي العادة يعرض كل فيلم مرتين فقط. وبالفعل خلال المرة الثالثة كان الحضور كبيرًا، حتى رغم عدم توفر ترجمة عربية له.

في عام 2010 نشب حريق ناتج عن ماس كهربائي في مستشفى الأمومة جوليستي الرومانية ببوخاريست. ونشب الحريق تحديدًا في وحدة العناية بالأطفال حديثي الولادة والأطفال المبتسرين. النظام الصحي في رومانيا معروف بكونه من أسوأ الأنظمة في أوروبا. لكن من المفترض أن تكون مستشفى جوليستي، الواقعة في شمال غرب العاصمة، واحدة من أفضل المستشفيات في البلاد؛ لذا كان الأمر بمثابة كارثة حقيقية وصدمة للرومانيين.

على هذه الحادثة، التي وصفها الرومانيون بواحدة من أكثر المآسي في تاريخ النظام الصحي في رومانيا بشاعةً، بنى سيزيسكو فيلمه.

 تقنيًا، وبالتحديد في مجال الكهرباء، يعد مصطلح "حالة الخطأ" بمثابة معادل لما نسميه نحن بــ"القفلة" أو "الماس" الكهربائي. ترتبط الدائرة الكهربائية ببعضها، وما أن تتلف إحدى جوانبها حتى يتعطل التيار تمامًا، حتى إن لم تتلف الدائرة بشكل كامل. وفي حالة الماس الكهربائي ينشب الحريق في الدائرة بأكملها نتيجة حمل زائد أو غيره، فتذوب الأسلاك ويلتهم الحريق كل شيء.

 يبدأ الفيلم، بعد مشهد صغير في البداية، يتعانق فيه مراهقين لن يظهرا طيلة مشاهد البداية، بمشهد تحقيق مع شخص، من المفترض أن يكون عامل صيانة أنظمة التكييف في المستشفى. يثبت الكادر عليه وتنهال الأسئلة من المحقق (الذي لا نرى وجهه). بعد أسئلة ملحّة تحاول أن تلقي بالمسؤولية على عامل الصيانة، يمرر العامل المسؤولية، بطريقة غير مباشرة، إلى مسؤول الصيانة. ويبدأ التحقيق بالتالي مع اﻷخير، بنفس الطريقة، لا نرى المحقق، وتنهال الأسئلة. نعلم خلالها عن نظام التكييف المتهالك داخل المستشفى، والدوائر الكهربية القديمة، وقطع الغيار الرخيصة، التي يتم شراؤها بسبب الفقر أو الفساد.

يسحبنا بعدها سيزيسكو إلى قصة أخرى، في فيلمه الذي تعاون ثلاثة أشخاص في كتابة السيناريو المتقن الخاص به، وبنفس الإيقاع الهادئ تبدأ حكاية زوجين ثريين، من رومانيا في الأصل، ويعيشان في إسبانيا، يتحاوران مع محام ما، بخصوص رغبتهما في تبني طفل روماني، بشرط ألا يكون غجريًا أو معاقًا. يبدي المحامي امتعاضه من تعجرف الزوجين، لكن سرعان ما تنهي رشوة سخية من الزوجين هذا الإمتعاض.

ينتقل المخرج بعدها إلى قصة المراهقين، محافظًا مرة أخرى على إيقاعه، وإن كنا كمشاهدين سنبدأ بمحاولات لربط هذه القصص ببعضها.

ومع أول المشاهد التي تظهر فيها كيفية وقوع الكارثة يسرع إيقاع الفيلم، وتبدأ قصص شخوص الفيلم بالتقاطع.  الشخصيات التي تمثل على نحو ما فئات اجتماعية مختلفة، بل وحتى شرائح عمرية مختلفة.

تسقط المراهقة، التي نراها تحتضن رفيقها في البداية، مغشيًا عليها، بسبب حمل. يتم إخفاء الأمر عن رفيقها، بواسطة اتفاق بين أمه وأمها، كانت لأمه فيه الصوت المهيمن، كونها رئيستها في العمل. تنقطع علاقة الرفيقين. يتم  خلال ذلك التنسيق مع الزوجين الثريين للتخلص من الطفل ببيعه لهما، مقابل مبلغ يكفل حياة محترمة لعائلة الفتاة، التي والدها في حالة سكر شبه دائمة، تجعله غائبًا عن القرارات المصيرية لعائلته.

يشرح لنا سيزيسكو، مع إيقاع الفيلم المتصاعد، كيف تنسج صفقات الفساد شباكها، بالتزامن مع تفاصيل الحادثة المروعة، التي أودت بحياة العديد من الأطفال والمبتسرين خصوصًا، والتي كانت محاولات إنقاذ العديد منهم أمرًا أشبه بمعجزة، وأحيانًا في حالة حرق تصل إلى درجة كبيرة، أمرًا غير مسبوق طبيًا. وينتقل بنا من حين إلى آخر إلى التحقيق، الذي وصل إلى أطقم الممرضات، التي كانت في المناوبة وقت وقوع الكارثة. نعلم من خلال التحقيق أيضًا، عن نظام المناوبات الفاشل، الذي يثقل كاهل العاملات بساعات عمله الإثنى عشر. ثم يتطور التحقيق إلى محاولة لإلقاء المسؤولية على الممرضة، التي كانت في المناوبة، بسبب ذهابها إلى الحمام مرتين خلال ساعتين. وهكذا، تتشابك دوائر المتهمين في حصول الكارثة، ويصل الأمر إلى رئيس المستشفى. ويعرض لنا الفيلم، من حين لآخر، وبأسلوب أقرب للسخرية، التصريحات الحكومية الخرقاء، ولهاث الصحفيين وراء السبق الصحفي، في مقابلة حصرية مع الأهالي المنكوبين، وتوجيه أسئلة خرقاء أيضًا، حتى إن أحد الأباء، الذي احترق رضيعه في الحادث، يصرخ في وجههم، أنهم يعلمون بالفعل من المسؤول، دون الحاجة لأسئلتهم عديمة الجدوى.

 

كلنا فاسدون.. حقًا؟

في أسلوبه السينمائي، ينقلنا سيزيسكو عبر صور عديدة من التورط. مع كل تقدم في حكايته نعرف أنه يخبرنا أن السوس قد نخر بالفعل كل شيء، وأن الجميع متورط على نحو أو آخر. وصار من الصعب إلقاء اللوم ببساطة على شخص واحد فقط. دائرة كهربائية فاشلة كلها ببساطة. حتى وإن تمكنا من إلقاء اللوم على مفردة واحدة منها. في فيلم بدأ بإيقاع هادئ، وبقصص تبدو لأول وهلة غير مترابطة، وصولًا إلى شرك التورط الذي نسقط فيه.

في فيلم ضد الحكومة، يلقي أحمد زكي خطابه الشهير ويلقي بالمسؤولية على المجتمع بكل أفراده. ربما يحاول سيزيسكو أن ينقل لنا رسالة مشابهة أيضًا في "حالة خطأ"، وهو أمر غير مقبول تمامًا في رأيي الشخصي، لأنه لا يبرئ ساحة الأشخاص المسؤولين فعلًا، وهم أصحاب النفوذ والسلطة ورأس المال فقط، بل يجعل كل كارثة كهذه، وهي تأتي تباعًا في دول وأنظمة نخر الفساد فيها بكل أشكاله في جميع مؤسساتها، أكثر عرضة لأن تمر مرور الكرام. بعد عدة مسرحيات هزلية، ويسهل التنبؤ بما سيدور فيها من نقاشات وإحتدادات زاعقة، دون جدوى حقيقية، سيمرر إلينا السلبية اليائسة، ونحن نشهد دورة حياتها القصيرة، وهي يسلط عليها الضوء، لفترة بسيطة، ثم يطويها النسيان، من الذاكرة العامة، لأننا لا نذكرها سوى بكوارث مشابهة.

وكمحاولة لإنصاف فيلم سيزيسكو، المصنوع ببراعة وحرفية، تشد انتباهنا وتعاطفنا، وتجعلنا نختبر مشاعر متضاربة، عبر وسيط من الصور المؤلمة حينًا، والأخاذة حينًا آخر، ربما قصد بمشهده الأخير الذي نرى فيه المراهقين، رامزًا بهما ربما إلى الشباب، وهما على شفا اتخاذ قرار مصيري، في مجتمع ساقطٍ في قاع من التورط الدنيء في الفساد، تاركًا النهاية مفتوحة، لنخرج من الفيلم بهذا الكم من المشاعر، وبحالة فريدة من التأمل، ربما قصد أن ينقل لنا مرارة ما رآه مستقبلًا صعبًا ومحفوفًا بالمخاطر أمام كل مجتمع، تعاني حكومته ومؤسساته من الفشل والفساد، ويحاول شبابه أن يصنعوا من ربيعهم هذا عالمًا أفضل.