كيف غيّر فيسبوك حياة السوريين؟

منشور الأربعاء 17 فبراير 2016

كان "فيسبوك" كغيره من وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضي ممنوعا من قِبَل النظام السوري، كما كانت تُروَّج الأخبار عن آثاره السيئة على "الترابط المجتمعي"، لذلك فالسؤال عن مدى تأثير "فيسبوك" على حياة السوريين يمكن النظر إليه بجدية، خاصة لأن المجتمع السوري مر بتغييرات كثيرة وعنيفة، إذ كان الشعب يرزح تحت وطأة مناهج التربية القومية ومحاضرات التثقيف الحزبي وبرامج التلفزيون الرسمي الساذجة، ليظهر الإنترنت في حياتهم ويكتشفون أن العالم يعيش بعيدا عن عذاباته وأمجاده. وأن العالم أقرب وأقل وحشية مما كان يروي له الأب القائد وإمامه وغلمانه.

كان  "فيسبوك" وسيلة أساسية لحدوث وإظهار هذا التغيير، فانتشرت الحسابات السورية لشخصيات حقيقية أو وهمية، للتواصل الشخصي أو للنشر، هربا من التعتيم الذي تمارسه السلطة، سواء الأبوية أو حتى الحكومية، أو لإثبات القدرة على الثبات رغم القهر.

نستعرض هنا نماذج لبعض مظاهر "فيسبوك" السوري في السنوات القليلة الماضية، تلك التي لا تظهر في وسائل الإعلام السورية الرسمية. مظاهر وحسابات لأناس يشاركون قصصهم وتفاصيل حياتهم بشكل لم يعتد عليه مجتمع محافظ مصاب برهاب الصمت والسُمعة، ويحظون بمتابعة شرائح مختلفة من المجتمع السوري وخاصة الشباب.

 

لقمان ديركي.. هردبشت الثورة 

 

صورة من صفحة لقمان ديركي

من تأثيرات "فيسبوك" على حياة السوريين أنه أتاح لهم التعرف بشكل قريب جدا على لقمان ديركي. ديركي ممثل وشاعر وكاتب سيناريو عاش في دمشق؛ العاصمة الرسمية للدولة، ولكل مظاهر الحياة الثقافية، وسبق له أن عمل مع رسام الكاريكاتير علي فرزات في الصحيفة السورية الساخرة الوحيدة "الدومري".

لم يكن لقمان من نجوم الصف الأول لشاشة التلفزيون الرسمي وربما لم يكن من الصف الثاني، وربما لم يسع للحصول على نجمة "المثقف المثالي". وبمتابعة نشاطه حاليا يمكنك أن تتعرف على عالمه المشتت بين الهموم اليومية والأحلام المثالية.

أتاح "فيسبوك" فرصة للتعرف على ديركي بعيدا عن الصالونات الأدبية والجوائز القومية والمقابلات الرسمية؛ إنسان حقيقي يتحدث بلغتهم عن همومهم و أحلامهم هم، وليس ما تسمح به هيئة تثقيف حزبية أو ما يتلوه مدرس مادة تربية قومية.

يخلق لقمان شخصيات قريبة للسوريين كأبناء المنطقة الشرقية (المهملة إعلاميا ورسميا) من سوريا والتي ينتمي إليها، مثل شخصيات، عمي الشيخ وحمّود أو الشاب المحروم عاطفيا، أو الواعظ الفاهم للأزمة السورية "هردبشت". ويكتب الحوارات على ألسنتهم على الموقع الاجتماعي الأشهر. يشارك متابعيه العمل الإبداعي ولا يتركهم في موقع المتلقي، بل يحتفي بهم وبتعليقاتهم المستمدة من شخصياته. جرت العادة أن يعيد نشر مشاركاتهم في ما سمّاه نموذج تفاعلي (في مقابلة له نشرت في موقع صحيفة العرب اللندنية)، كانت التجربة أشبه بالاستحضار الشعري، وحملت اسم"أتذكرين؟" وهي مجموعة استاتوسات شعرية تراوحت بين التساؤل العاطفي والسخرية السياسية، كان يبدأها لقمان بتساؤل: "أتذكرين"، ثم وبعد عشرات الستاتوسات أعاد نشر التعليقات الأكثر تميزا. نَزَع رداء الأخلاق المحافظة الواهي عنه، وتقاسم معهم همومهم وسقطاتهم.

تحدث لقمان صراحة عن موجة الهجرة غير الشرعية للشباب السوري؛ لم يتحدث كواعظ أو مراقب بل كصديق لا يهتم بمدى شرعية الهجرة أو التصادم مع القوانين الدولية بقدر ما تهمه سلامة الناس أو شرعية مطالبهم في البحث عن ملجأ بعيدا عن الموت والعنف والانقسام. كانت بوصلته الإنسان وبصوت هذا الإنسان كان يتحدث بلغة لا تخلو من سخرية سوداء.

بدأ باللاجيء فسمّاه "نَفَر"، وتحدث عن "البلم"؛ القارب المطاطي الذي ينقل الباحثين عن الحياة عبر مياه البحر المتوسط. وسخر من "المُهَرِّب" وحذّر منه. كل ذلك في نصوص "ستاتوسات" قصيرة،

بشكل ساخر أسس "هيئة تثقيفية" افتراضية لـ "النَفَر"، لنشر النصائح التي تبدأ بأفضل طرق تحاشي الالتقاء بشرطة الحدود البلغارية، أو حتى بكيفية التعامل مع الأوروبيات. وثق به الحالمون وتقاسموا معه أسرارهم وصورتهم وهم يستعدون للسفر، وحتى وهم في السجون الحدودية البلغارية.

ولكن هناك شرط لنشر الصور وهو عمل إشارة نصر عند الوصول، يقول عن سبب هذا الشرط في مقابلة مع جريدة لا برس الكندية: "لا أريد أن يظهر السوريون بهيئة الضحايات، أريد أن نكون منتصرين".

أصبحت صفحته أكبر توثيق غير رسمي لـ "التهريبة السورية"، ثم تطور الأمر للإجابة عن الاستفسارات وحتى طلبات الإنقاذ القادمة من عرض البحر المتوسط.

تأثير لقمان انتشر على المواقع الاجتماعية، ظهرت صفحة بعنوان "هيئة تثقيف النَفَر"، وحساب على تويتر باسم لقمان لكن يديره شخص يقول إنه من محبيه ويرصد فيه بعض ستاتوسات لقمان. لا يعترض لقمان لتتجاوز صفحته كونها مجرد صفحة شخصية وتتحول إلى ظاهرة أو عمل فني يؤثر في من حوله ويلونهم بلونه.

 

حساب لقمان ديركي

 

عبود سعيد.. أفهم واحد على الفيسبوك

 

عبود السعيد في سلسلة No country for odd poets

من الصعب معرفة توقيت فتح عبود السعيد لحسابه على فيسبوك، الذي كان محجوبا في سوريا قبل الثورة كغيره من المواقع. نعرف أن سعيد كان شابا عاملا في ورشة حدادة في مدينة صغيرة في شمال سوريا، ولكن هل فتح الفيسبوك قبل الثورة بمساعدة برامج فك تشفير؟ هل فعل ذلك في موقع مشبوه آنذاك وكان جريئا بالقدر الذي جعله يكتب اسمه كاملا ليشارك العالم ضجيج أفكاره؟

يقول على صفحته: "أنا أعمل كحداد، يعني مطرقة وجرخ ومفتاح 13/14، أنام مع سبعة إخوة في نفس الغرفة، ولا أملك خزانة، لذلك أخبئ رسائلي الخاصة في قن الدجاج، أحياناً تبيض الدجاجة فوق كلمة أحبك، وأحياناً تتغوط فوق الملاحظة التي في آخر الرسالة. أمي لا تعرف كيف تطبخ اللازانيا، وحتى السنة الماضية كنت أعتقد أن (الكرواسان) نوع من الطعام الغالي يؤكل بالشوكة والسكين. كل مساء أحلم بأنني (هانيبال ليكتر) وأمامي على الطاولة، دماغ الفتاة التي أحبها".

ترجمت بعض ستاتوساته إلى الألمانية ليصير كتاب باسم "أفهم واحد على فيسبوك"، يقال إن مجهولا جمع نصوصه "ستاتوساته" وترجمها إلى الألمانية واستأذنه قبل نشرها، ويقال إن صحفية ألمانية وقعت في حبه وأقنعت معارفها المثقفين بعمل أمسية شعرية على شرفه وإرسال دعوة له ليلحق بها.

 

الفكرة هي أن عبود هو المصدر الوحيد لقصصه مما يعطيه هامشا كبيرا للتلاعب بها.

ولكن الحقيقة هي أن الألمان سمعوا بعبود وبحثوا عنه وقاموا بدعوته لأمسية لتوقيع أول كتبه عن دار نشر ألمانية.

عندما يُسأل عن التفاصيل يقول: "والله ضحكنا على هالألمان".

لو كان لعبود مشروع ما فإن أهم صفات هذا المشروع هو رصد كل ما طرأ على شخصية المواطن المهادن المهذب المحافظة وتحولاته في زمن قياسي لإنسان ينتمي لعصره. مثلا في السنة الفائتة تركزت نشرات عبود حول يوميات أخيه يوسف الكبير ودلال زوجة هذا الأخير بعد أن قام كل منهما بفتح حساب على فيسبوك. كان السرد العفوي الصادق لنقاشات الزوجين وغيرتهما وشجارهما مثالا حقيقيا عن تغيير الفيسبوك لحياتنا، لطريقة تفكيرنا، تعاملنا مع المساحات الشخصية.

"دلال تحرد للمرة الثانية وهذه المرة لن تعود إلا بشروط قاسية وتقول للوفد المرافق لأخي يوسف الكبير: والله ما أرجع إلا تحذفها لبنت هالحرام طوق الياسمين."

صدر حتى الآن لعبود سعيد ثلاثة كتب: "أفهم شخص في الفيسبوك" الذي تُرجِم إلى الألمانية وصادر عن دار ميكروتكست، تمت ترجمته للإنجليزية والأسبانية والإيطالية والفرنسية والدنماركية والبرتغالية.

و"عبود سعيد" الذي صدر بالعربية عن دار نوفل ويتضمن نصوص منتقاة من صفحته، بالإضافة إلى رواية "حياة بحجم خبر عاجل" الذي تُرجِم أيضا إلى الألمانية.

 

حساب عبود سعيد

 

مجد كردية وفصاعينه

 

من أعمال مجد كردية

افتتح الفنان السوري التشكيلي مجد كردية حسابه على "فيسبوك"، كما يشهد تاريخ الصفحة، في 2011، يعني أول سنة للثورة السورية.

درس الشاب السوري مجد، ابن مدينة الطبقة التابعة لمحافظة الرقة، في كلية الفنون الجميلة في جامعة حلب قبل أن يتركها في السنة الأخيرة، وفي عام 2012 أقام معرضا في حلب بعنوان "الفارس والأثر"، ولكن أول معرض له كان في طفولته حين جمع أبوه، المعتقل السياسي، كما يحدثنا مجد في صفحته، كل رسوم ابنه التي كان يهديها له في زياراته، وعرضها على رفاقه وجيرانه في الزنزانة.

تكاد تكون هذه القصة هي أفضل توصيف لصفحة مجد، التي يتعامل فيها مع متابعيه ويتربط بهم بشدة، يرسم كما يفكر ويهدي رسومه لأحبابه في السجن الكبير، معتقلي الوجود الافتراضي الحالمين بواقع مغاير، فتظهر رسومه معلقة بعشوائية على حوائط صفحته، وهي تذكرنا بالعالم خارج الأحزان السورية.

https://www.facebook.com/mkrdyt/posts/979416022144461

من يتابع أخبار الفنان مجد يستنتج أنه بدأ يحظى باهتمام جدّي في السنتين الأخيرتين لكن ذلك لم يُترجم بعد على أرض الواقع فرغم أنه يعيش في لبنان إلا أنه لم يقم معرضا أو حتى ينشر كتابا لأشهر شخوصه: الفصاعين.

"الفصاعين" هي الشخصيات التي يستخدمها في رسومه، وهي تسمية سورية لما هو صغير كالأطفال. لا يأبه مجد لمسائل الملكية الفكرية أو حقوق النشر ويسمح للجميع بطبع رسومه والتفاعل معها، سواء برسمها أو كتابة نصوص لها، ويصبح التعليق على أحد قصص مجد جزء من العمل نفسه.

رغم ذلك لا يبدو مجد مكتف بمتابعيه على "فيسبوك" وباهتمامهم وحبهم وتعليقاتهم، "فيسبوك" بالنسبة له ليس مجرد صفحة دعائية للتعريف بنفسه بل هو معرضه الصغير الشخصي الذي يخصّه بالاهتمام، وبأقرب أعماله لقلبه.

لا يبدو أن "فيسبوك" غيّر كثيرا في حياة مجد، كما حدث مع عبود سعيد مثلا، ولكنه غيّر في تفكير وحياة متابيعه.

 

صفحة مجد كردية