فليكر
أحد مظاهر البناء العشوائي في القاهرة

عقاب ضحايا العشوائية في خطاب السلطة و"الأمنعلام"

منشور الثلاثاء 22 أغسطس 2023

في بداية 2022 أدلى الدكتور فاروق الباز بتصريحات يطالب فيها بإعدام من يبني على الأرض الزراعية في مصر!

جاءت تلك التصريحات في مكالمة هاتفية للباز مع برنامج "90 دقيقة" على قناة المحور مع الإعلامية بسمة وهبة، يوم 4 يناير/كانون الثاني 2022، ونشرتها الصحف نقلًا عن البرنامج، ومما قاله في تلك المكالمة "يجب تطبيق أحكام الإعدام والمشانق والسجن المؤبد لمن يبني على الأرض الزراعية، هنعمل إيه يعني لما الناس تبنى على الأراضي، ناكل منين؟، هناكل بعض يعني؟!".

حلقة برنامج 90 دقيقة في 4 يناير 2022 التي استضافت مداخلة العالم المصري الدكتور فاروق الباز


تكشف هذه التصريحات أشياءً مهمة عن الإعلام الذي نقلها، وعن العالِم المهاجر الذي تفوه بها، وهي علاقة ينبغي تفكيكها لفهم ما وراءها، سواءً تعلَّق بسعر تذكرة المترو أو بقضايا مصيرية كالتعليم والعمران.

الإعلام من جهته يُكِنُّ إجلالًا كبيرًا للطير المهاجر العائد في صورة خواجة يفهم في كل شيء، والطير المهاجر من جهته لديه أسبابه التي يشترك فيها مع معظم المهاجرين الناجحين في أوطانهم الجديدة، في أن يكون مرئيًا في وطنه الأصلي.

الأمر أكثر درامية بالنسبة للمصري المهاجر، بسبب خصوصية الارتباط غير الطبيعي بالأرض؛ فقد كان المصري القديم يعتقد أنه لن يُبعث إذا دُفن في أرض غريبة مثلما علّمتنا قصة سنوحي. والمصريون مشدودون إلى هذا الإرث الثقافي دون أن يعوا ذلك.

هكذا لا يستطيع التكنوقراط الناجح في المهجر، أن يشعر باكتمال نجاحه إلا عندما يصبح هذا النجاح مرئيًّا في مصر؛ فيبدأ في العودة كالسائح بين وقت وآخر كما في حالة الباز المهاجر، أو متقاعدًا يمارس دور الحكيم والضريح للرجل صاحب الكرامات، كالراحل أحمد زويل.

المدخل الأسهل والأوسع للعودة الظافرة السهلة يكون بالطبع عبر دوائر السلطة العليا التي تستقبل الابن العائد بترحاب، كأنه أحد شواهد نجاحها (مع أنه في الحقيقة شاهد على فشلها)، والابن العائد يرد التحية بتبني رؤية السلطة في قضية من القضايا دون أن يفهم تعقيدات الواقع، أو بفهم تلك التعقيدات وغض الطرف عنها، ليبقى حاضرًا ومرضيًّا عنه.

مع السلطة ضد المعايير

جاءت تصريحات الباز المهاجر وسط العمل المحموم في محاور الطرق السريعة، التي اخترقت الأرض الزراعية. والتهمت في أشهر معدودة ضعف ما يمكن أن يبنيه الفقراء لمدة عشرين عامًا على الأقل. كل 42 مترًا طوليًّا من أي محور التهمت فدانًا من الأرض السوداء، بحساب عرض الطريق بمتوسط 42 مترًا يصل إلى 100 متر مع ميول الردم وطريقين للخدمة عند المنازل والمطالع، بينما يبني المحتاج بيته على قيراط أو أقل أو أكثر قليلًا، أي أن كل أربعين مترًا طوليًّا من محور تتسع لنحو عشرين بيتًا.

المؤلم أن الباز لم يأخذ جانب السلطة في لوم المحتاجين فحسب، بل أطفأ المعايير الإنسانية التي تعلمها في مهجره، وهذه مشكلة قيمية يعاني منها الكثير من الطيور المهاجرة. عندما تعلَّق الأمر بمواطنين مصريين، أعاد الباز تشغيل المنظومة العقلية والقيمية القديمة التي تستبيح حياة الناس بهذه الجرأة. من المستحيل أن يجرؤ العالِم المهاجر على المطالبة بإعدام فئة من المواطنين الأمريكيين حتى لو كانوا قتلة، بل لا يمكن لمطالبة كهذه أن ترد على خاطره في أسوأ مناماته أو تحت تأثير البنج.

لا يأكل فاروق الباز من مصر ليخشى الجوع إذا تبددت الأرض، ولا يقيم فيها طويلًا ليخشى أن يأكله الجائعون عندما يفتقدون الخبز؛ لكنه يردد سردية النظام الذي يستهلك من الأرض الزراعية أضعاف ما يستهلكه الأفراد منذ يوليو/تموز 1952، والذي يتحمل أيضًا المسؤولية عن توجيه الأفراد للبناء على الأرض الزراعية بقراراته الخطأ، عندما اختار أن يبني المصانع في المزارع، وأن يحبس الصحراء في يده، وأن يلغي لاحقًا التوظيف الذي كان يخفف أحمال القرى من البشر، فيقلل من الحاجة إلى البناء على الأرض الزراعية.

كانت هناك إمكانية للنشر حول مشروع توشكى وغيره من المغامرات الاستثمارية، وإن انتهى الأمر بإقامتها دائمًا

ولم يحدث مرة أن ناقش برلمان (دائمًا ما كان البرلمان موجودًا) خيارات المواقع البديلة الممكنة لمشروعات الحكومة على الأرض الزراعية. وكمثال على هدر الثمانينيات الحكومي الذي فتح شهية الأفراد للأرض الزراعية، اختيار موقع جامعة الزقازيق في أخصب بقعة زراعية رغم وجود صحراء تل بسطة الممنوعة للأبد على ذمة الآثار، دون إجراءات تنقيب تكشف عن أهميتها فنضيف جديدًا إلى المعرفة بالتاريخ وخريطة السياحة، أو تؤكد عدم أهميتها فتُتاح للاستخدام العمراني.

قادت تلك الجامعة تسارعًا في التبوير لبناء ناطحات سحاب تُعرف اليوم بـ"القومية". وكان من الممكن بناء الجامعة في تل بسطة أو في صحراء بلبيس أو حتى صحراء التل الكبير، لماذا يجب أن تكون الجامعة في عاصمة المحافظة بالذات؟.

لم يشر الباز إلى ما استهلكته محاور الطرق الجديدة من الأرض الزراعية، وما يمكن أن تقود إليه من تبوير جديد بأيدي المواطنين، وقد كانت قضية الطرق تمثل حساسية كبيرة للراحل العظيم رشدي سعيد (أبو النيل) الذي كان يردد دائمًا: لو كان الأمر بيدي لطلبت إعاقة المرور في الدلتا والوادي وليس تسهيله، لأن الطرق الواسعة تفتح الشهية للتريلات حاملة الأسمنت لبناء المنازل والمصانع التي يجب أن تُبنى في الصحراء، وفق ما أورده في كتابه "مصر المستقبل". 

عارض رشدي سعيد مشروع توشكى في حينه، وظل طوال حياته يسخر من المشروعات المكلفة لاستزراع الصحراء في مقابل تبوير الأرض الخصبة، ويرى أن ملايين الأفدنة الستة في الدلتا والوادي هي قدر مصر الزراعي ويجب الحفاظ عليها.

الرئيس الأسبق حسني مبارك أثناء تفقُّد مشروع توشكى

ولكن المحاور أقيمت في غمضة عين ضمن واقع سياسي لا يسمح حتى بمناقشات شكلية كالتي كانت تحدث سابقًا في "مجلس الشعب"، أو في الصحافة التي سمحت بنشر مقالات الدكتور رشدي سعيد. وقد تمكن أبو النيل من نشر آرائه مجددًا في التسعينيات في كتابه مصر المستقبل الصادر ضمن سلسلة كتاب الهلال.

كانت هناك إمكانية للنشر حول مشروع توشكى وغيره من المغامرات الاستثمارية، وإن انتهى الأمر بإقامتها دائمًا. وهكذا فالكلام هو الفرق الدقيق بين "الجمهورية الجديدة" والجمهورية القديمة، بينما لم يختلف الأمر عمليًّا بخصوص التوازن بين متطلبات العمران وضرورات الحفاظ على الأرض الخصبة.

سردية لوم الضحايا

بدلًا من الحل المنطقي، حافظت السلطة على سردية واحدة من البداية تدين فيها الأفراد وتحملهم مسؤولية العشوائية العمرانية وتبوير الأرض الزراعية، حتى استقرت السردية وانطلت حتى على علماء بحجم الباز، فيما الأفراد الذين يلومونهم والأرض التي يبورونها، هم في الحقيقة ضحايا ضَعَف مبادرات الدولة وغياب الخطط العمرانية الشاملة طويلة النظر، بل غياب الخطط الاقتصادية التي تحارب الفقر.

ترتفع الوتيرة فيبدأ فاصل من الحنين إلى ماضي الريف العامر بالبط والفطير المشلتت والقشدة وعسل النحل

لا يرتكز خطاب لوم الضحايا على العنف وحده، بل يكتنفه ازدراء، ونظرة طبقية ينظرها كُتِّاب ومذيعون ينتمي كثير منهم إلى الأصول الأفقر، ويبدو هجاءه للفقراء محاولة للاندساس في طبقة أعلى تتناسب مع ما أحرزه من صعود مالي وشهرة.

يختلف نصيب سكان عشوائيات المدينة عن عشوائيات القرية من الذم في الخطاب الرسمي والإعلامي السائد. كردونات القرى أقل رسمية، لذلك فالخطاب يشمل كل سكان القرى والوصمة تطالهم جميعًا، والاتهامات الموجهة إليهم أنهم صاروا جشعين يبحثون عن الربح السريع بتحويل أرضهم إلى مبانٍ، وكسالى يسهرون لمشاهدة المسلسلات ويستيقظون عند العصر ويذهبون للمقاهي، وأن نساءهم صرن كسولات مثلهم، توقفن عن خبز العيش والفطير وعمل الجبن. ترتفع الوتيرة فيبدأ فاصل من الحنين إلى ماضي الريف العامر بالبط والفطير المشلتت والقشدة وعسل النحل، وكلها مباهج ينتجها الفقراء ليجودوا بها على ضيوفهم ويبيعون منها أكثر مما يأكلون.

عشوائيو المدينة على العكس من ذلك؛ يتوزعون في الخطاب الرسمي وفي خطاب نجوم "الأمنعلام" إلى صنفين.

الأول من عشوائيي الأطراف والأحياء العريقة التي فقدت رونقها بفوضى البناء وقذارة الشوارع، تُهمتهم أنهم ريفيون هاجروا من الريف لينغصوا على سكان المدينة ويفسدوا نمط عيشهم الراقي. لا يتورع الكُتَّاب والإعلاميون الذين نزحوا من الريف عن إطلاق تلك التهمة ضد أناس سكنوا بينهم قبل أن يفتح الالتحاق بالسلطة عليهم أبواب النعمة. وللمفارقة فـ"ريفية الأصول" هي التهمة ذاتها التي يستخدمها الأرستقراطيون ضد الضباط ويُعدِّونهم مغتصبين للحكم في 1952، ويعدونهم سبب تبدد جمال المدينة.

لهذا يُفاجأ المتابع بين وقت وآخر بوصلة طربية من الحنين لقاهرة كانت تُغسل بالماء والصابون، الأرستقراطيون ثابتون على أقوالهم لا يغيرونها، بينما يمكن للأغنياء الجدد من نجوم "الأمنعلام" أن يتغنوا بجمال القاهرة السابق، ثم يغيرون موقفهم من قاهرة ما قبل يوليو إذا صدرت إليهم الأوامر بالهجوم على العهد البائد بإقطاعه واستعماره؛ عندها سيتخذون من نظافة القاهرة سببًا لكراهية العهد البائد والنظافة معًا؛ فقد كانت المدينة نظيفة لكنها كانت ممنوعة على المصريين، الذين لم يدخلونها إلا خدمًا!.

النوع الثاني من سكان العشوائيات المذمومة، هم سكان جيوب متفرقة داخل العاصمة صارت ذهبًا يلمع في عين السلطة؛ مثلث ماسبيرو، الدويقة والكيلو أربعة ونصف. هؤلاء تناسبهم درجة أعلى من الاتهامات والازدراء؛ فهم تجار مخدرات، ومجرمون ومسجلون خطرًا، وتجب محاصرة احتمالات انتشار أمراضهم، ولا حل سوى نقلهم إلى مساكن جديدة بعيدة كما ينبغي لمرضى الجذام.

لم يكن الباز المهاجر أول من اخترع الحل الدموي لإبادة العشوائيين؛ فأكثر العبارات تكرارًا في الخطاب السائد في هذه المسألة هو "محاربة العشوائيات" و"القضاء على العشوائيات"، وغير ذلك من تعبيرات تنطوي على العنف، وتجعل من هذه الفئة من السكان عدوًا.

لا يقتصر خطر سردية "إدانة الضحايا" على فظاعتها الإنسانية، بل كذلك لكونها تمنع الانطلاق إلى حلول جذرية ودائمة، لن تصبح ممكنة أبدًا إلا بقراءة كل الأسباب والتقدم في حلها على التوازي في ذات الوقت.